عالم الديجيتال ينقسم. جمهوريون وديموقراطيون في وطن النيوليبرالية، يسعون إلى الهيمنة على الأدوات الأحدث لقيادة الجماهير والتي تُتيح لهم خلق الاستقطاب والتوجيه السياسي والثقافي والاستهلاكي للموارد. من أشكال هذا الانقسام حول قيادة مجتمع الديجيتال، أنّ أصحاب المليارديرات يصطفّون من أجل السيطرة على هذه الوسائل باعتبارها أدوات لخلق الثروة وتركيزها في أيديهم...
عالم الديجيتال ينقسم. جمهوريون وديموقراطيون في وطن النيوليبرالية، يسعون إلى الهيمنة على الأدوات الأحدث لقيادة الجماهير والتي تُتيح لهم خلق الاستقطاب والتوجيه السياسي والثقافي والاستهلاكي للموارد. من أشكال هذا الانقسام حول قيادة مجتمع الديجيتال، أنّ أصحاب المليارديرات يصطفّون من أجل السيطرة على هذه الوسائل باعتبارها أدوات لخلق الثروة وتركيزها في أيديهم.
لم يعد يكفي أن يُقال اليوم، إنّ أميركا ليست هوليوود، إذ هي ليست أيضاً «نتفليكس» ولا «ديزني» ولا «غوغل» أو إمبراطورية «ميتا» (فايسبوك سابقاً). فهذا العالم الرقمي، والذي تقع جذور غالبيته العظمى داخل الولايات المتحدة الأميركية، منقسم بين حزبين تقليديّين: ديموقراطي وجمهوري. وكلاهما يسعيان إلى الهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها أدوات نفوذ جماهيرية تُتيح تسويق القيم والأفكار في السياسة والاقتصاد والدين والمجتمع... ظهر الأمر بوضوح بعد شراء إيلون ماسك منصّة «تويتر» (ما زالت الصفقة قيد التنفيذ بسبب مشكلات في التمويل)، وقوله إن اخراج الرئيس السابق دونالد ترامب (جمهوري) من المنصّة كان عملاً غبياً.
كانت منصّات التواصل الاجتماعي متّهمة دائماً من الحزب الجمهوري بأنها منحازة إلى الديموقراطيين. في الواقع، كانت هذه المنصّات أذرعاً رقمية للحزب الديموقراطي. ذات يوم، لعبت هذه المنصّات دوراً في تعزيز موقع الحزب الأزرق (الديموقراطي) وأسهمت في وصول الرئيس الأسبق باراك أوباما إلى سدّة الحكم. لكنها اليوم بدأت تفقد سيطرتها مع صعود تطبيقات ومنصّات بديلة تستقطب الجماهير اليمينية في الولايات المتحدة الأميركية. اليوم اختلّ توازنها. لكن لم تأتِ الضربة الأكبر من داخل أميركا، بل من الصين. فمع إنشاء منصّة «تيك توك» القادمة من الصين، قُصم ظهر «فايسبوك» و«انستغرام» و«يوتيوب» بشكل ممنهج. فقد تمكنت «تيك توك» من سحب الفئات الشابة من المستخدمين إليها (لديها مليار مستخدم). حدث الأمر بسرعة لدرجة أنّ وثائق «فايسبوك» الداخلية، والتي نُشر بعضها على صفحات «وال ستريت جورنال» الأميركية، بيّنت أن «فايسبوك» شاخت وباتت منصّة لكبار السن. ثم هرعت «فايسبوك» إلى إضافة خدمة «ريلز» المشابهة لطريقة عرض الفيديوات على «تيك توك» بعدما «سبق السيف العذل».
في مقابل تظهير شيخوخة «فايسبوك»، أطلق الجمهوريون عملية خلق عالم رقمي شامل خاص بهم؛ تطبيقات للهواتف الذكية، هاتف ذكي، عملات مشفرة، وسائل إعلامية ومنصات تواصل اجتماعي... في محاولة منهم لمواجهة ما يسمونه سيطرة الفكر الليبرالي على وادي السيليكون. وهناك اليوم «بديل جمهوري» لكل ما هو سائد. وأبرز هذه المنصّات والتطبيقات:
- منصة «رامبل» (Rumble) للفيديوات والبديل الجمهوري عن «يوتيوب»، أبلغت عن زيادة في عدد المستخدمين النشطين وتحميلات المحتوى خلال مطلع العام الحالي. وكان هناك نحو 39 مليون مستخدم نشط شهرياً في العام الحالي، أي بزيادة 19% عن شهر كانون الأول من عام 2021. وبحسب الموقع، شاهد المستخدمون 10.8 مليارات دقيقة، بزيادة 27%، وبلغ متوسط عدد ساعات تحميل الفيديو في اليوم من قبل صانعي المحتوى 4383 ساعة، بزيادة قدرها 14%. في المقابل، لا يزال موقع «يوتيوب» في الطليعة، بعدد مستخدمين يبلغ 2.1 مليار شخص، وبعائدات إعلانات في جميع أنحاء العالم بلغت 28.8 مليار دولار عام 2021. لكن رغم ذلك، جرى عرض فيلم «2000 Mules» على موقع «رامبل»، في الثامن من الشهر الحالي، وهو فيلم ترامبي بامتياز، يُشير إلى تزوير الديموقراطيين للانتخابات الرئاسية عام 2020 التي أفضت إلى رئاسة جو بايدن. مثل هذا الفيلم لا يمكن التفكير بعرضه أساساً على «يوتيوب».
- تطبيق «تروث سوشل» (Truth Social)، الذي تم إطلاقه رسمياً في 21 شباط 2022، وهو تابع بشكل مباشر إلى الرئيس السابق دونالد ترامب. وبعد إطلاقه حصل على نحو مليونَي عملية تنزيل من المستخدمين في الولايات المتحدة في أول أسبوعين. وهو متاح فقط عبر متجر تطبيقات (آبل)، ويتم العمل على إصدار متصفّح للإنترنت تابع للشركة، كما إصدار نسخة من التطبيق تعمل على نظام تشغيل «أندرويد». منذ إبعاد ترامب عن منصّات التواصل الاجتماعي، حصلت عدّة محاولات لخلق منصات جديدة، منها «بارلر»، ثم «غيتر» (بديل من فايسبوك) وصولاً إلى منصة ترامب الشخصية «تروث سوشل» التي تعمل بمثابة بديل «تويتر» الجمهوري، والتي أصبح متواجداً عليها هو شخصياً منذ عدّة أسابيع. ووفقاً لبيانات جديدة أظهرها موقع «ستاتيستا»، تبيّن أن منصّة ترامب، تجذب الذكور من جيل الألفية الحاصلين على تعليم جامعي. وبدأت «تروث سوشل» رحلة صعبة إلى حد ما منذ إطلاقها في شباط الفائت، بسبب قوائم الانتظار الطويلة للأشخاص غير القادرين على تنزيله، وقد فشلت في الحصول على أكبر قدر من قاعدة المستخدمين حتى الآن، بالإضافة إلى استهدافه المستمر بالهجمات السيبرانية. كما وجدت بيانات «ستاتيستا» أنه بينما كان 25% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة على دراية بالمنصّة في عام 2022، استخدم 3% فقط منهم التطبيق في الأسابيع الأربعة الماضية، و2% فقط قالوا إنهم من المحتمل أن يستخدموا المنصّة مرة أخرى. يملك «تروث سوشل» نحو مليونَي مستخدم نشط، مقابل 300 مليون مستخدم نشط على «تويتر» من أصل 330 مليون مستخدم. لكن تجدر الإشارة إلى أن «تروث سوشل» احتلّ المركز الأول باعتباره التطبيق المجاني الأكثر تنزيلاً على متجر «آبل» لعدّة أيام بين 26 نيسان و1 أيار.
إلى جانب هذه العملية، يدفع الجمهوريون نحو خلق بدائل للأدوات التقنية الأخرى ومنصّات الاتصال، مثل شركة «RightForge» التي تُعنى بالتخزين السحابي، وتستضيف موقع ترامب في تشرين الأول القادم، إذ إن الاعتماد على خدمة استضافة «ويب» يمينية سيجنّب ترامب نفس المشكلات التي واجهها تطبيق «بارلر» عندما سحبت شركة «أمازون» خدمات الويب الخاصة بها عن الموقع بعد حصار الكابيتول.
3.96 مليارات هو عدد مستخدمي منصّات التواصل الاجتماعي حول العالم في مطلع 2022.
- عملة مشفرة تسمى «ماغا كوين» (MAGA Coin)، نسبة إلى شعار حملة ترامب الانتخابية: (Make America Great Again) لنُعِد إلى أميركا عظمتها. يبلغ حجمها السوقي نحو نصف مليون دولار. وهي تهدف بشكل أساسي إلى التسويق لترامب.
- هاتف «Freedom»، وهو جهاز يتم تسويقه للمحافظين على أنه هاتف يضمن حريّة التعبير والخصوصية أولاً. ولديه ميزات مثل أدوات منع التتبع ومتجر التطبيقات غير الخاضع للرقابة. ويأتي محملاً بكل التطبيقات الجمهورية التي ذكرناها سابقاً. سعره 500 دولار.
رغم الزخم الذي حظيت به العملية «الجمهورية»، تباطأت تنزيلات التطبيقات المحافظة. غير أنّ الذعر الحقيقي للديموقراطيين لا يُقاس بعدد تنزيلات التطبيقات «الجمهورية»، بل بما يتشكّل من بيئة رقمية متكاملة قادرة على الاعتماد على بعضها. عملياً يتم بناء أذرع رقمية محافظة شاملة في مواجهة أذرع الديموقراطيين الرقمية.
هذه الأذرع الرقمية من الطرفين، لا تتنافس في الولايات المتحدة الأميركية فحسب، بل على الكرة الأرضية بكاملها. فبحسب «ستاتيستا»، تبيّن أن عدد مستخدمي منصّات التواصل الاجتماعي حول العالم في مطلع 2022، بلغ 3.96 مليارات مستخدم، أي نحو نصف سكان كوكب الأرض. علماً بأن 326 مليون مستخدم جديد دخلوا خلال الأشهر الـ12 الماضية. كما أنه عدد يزيد بمقدار 1.1 مليار عن عدد المستخدمين في عام 2017. وهو ما يمثل قفزة هائلة بنسبة 38.5% خلال ست سنوات فقط، إذ بلغ متوسّط معدل النمو السنوي خلال هذه الفترة 6.7%. ورغم التوقعات بانخفاض هذا النموّ اعتباراً من 2023 ولغاية 2025 بنسبة 3.7%، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي ستبقى أداة فعّالة في الحياة اليومية للمستهلكين، إذ تمثّل الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة القوّة الدافعة الرئيسية وعبرها يدخل إلى المواقع والتطبيقات نحو 9 مستخدمين من أصل 10 مستخدمين. كما أنها ستبقى وسيلة مذهلة القوّة لكل أنواع التسويق الاقتصادي - الاستهلاكي إلى الثقافي والسياسي، ومحاربة «الآخرين» وتدميرهم. يمتثل مواطنو الديجيتال خوفاً من «إعدامهم رقمياً» عبر إيقاف الحساب. إنها الوسيلة من أجل توحيد ما يسمى «معايير المجتمع». السيطرة على هذه الوسائل هي الهيمنة على المجتمعات والاقتصادات.
هكذا، بدت ولادة تطبيقات ومنصّات جديدة أمراً محتوماً. وبدأت جماهير المستخدمين الحمراء هجرةً رقمية إلى منصات جديدة تقول بصريح العبارة :«هنا أنتم بمأمن من ثقافة الإلغاء». و«شاركوا آراءكم من دون رقابة». هنا ظهر الشرخ الثقافي في المجتمع الأميركي بين طرفي الديموقراطيين والجمهوريين.
الحزب الديموقراطي تبنّى قيم الموجة النسوية الثالثة والرابعة بشكل كامل تقريباً. وبالتوازي مع ذلك، تعاظمت «ثقافة الإلغاء» (Cancel Culture) والـ«Woke» التي تُشير إلى وجوب التيقّظ من التحيز والتمييز العنصريين. وبات يشمل المفهوم وعياً أوسع بعدم المساواة الاجتماعية مثل التمييز على أساس الجنس، كما تم استخدامه كاختصار للأفكار اليسارية التي تنطوي على سياسات الهوية الجندرية والعدالة الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، أخذ ما يمكن تسميته «الجناح التقدمي لدى الديموقراطيين» منحى متعاطف مع الماركسية، ومن الأمثلة على ذلك كتابات ريتشارد ولف وتعاليمه في الاقتصاد، والذي يتم تصويره أحياناً على أنه العقل الاقتصادي خلف أفكار السيناتور بيرني ساندرز، والتي تلقّفها الشباب الأميركي بشكل كبير خصوصاً أنها تطرّقت إلى هواجسهم ووعدتهم بالتغيير.
على المقلب الآخر، ومع تنامي كلّ تلك الأفكار والقيم، شعر أنصار ترامب (والجمهوريون) أنها موجات مفتعلة ضدّهم بسبب خسارة الديموقراطيين كرسي الرئاسة عام 2016. استعر الغضب الشعبي المقابل والرافض لغالبية تلك الأفكار والقيم، لينفجر في الفترة الرئاسية السابقة خلال إدارة ترامب. الأخير، بنى خطابه السياسي وأدبياته لتستهدف بشكل مباشر أساسات الحزب الديموقراطي. كان يعلم جوهر مشكلة الاختلاف الثقافي تماماً، ولم يترك فرصة كي يزيد من الانقسام الداخلي. وفي استعراض موجز لشعارات كارهي الحزب الأزرق، نجد المصلطحات التالية: معارضي الإجهاض (Pro-Life)، معارضي العولمة، التمسّك بالكنيسة وبالقيم العائلية، إنجاب أولاد كثر، منع المتحوّلين جنسياً من دخول منافسات رياضية لذات الجنس الذي أصبحوا عليه، منع تعليم الأولاد عن التحوّل الجنسي في المدارس، لا وجود لأفكار الجندر (فقط ذكور وإناث تبعاً لجسدهم)، إيقاف تدريس «النظرية العرقية النقدية» Critical Race Theory (تقترح أن تفوق الرجل الأبيض والسلطة العرقية يُحافظ عليهما بمرور الوقت، وأن القانون بالتحديد قد يلعب دوراً في هذه العملية.
عبر الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة إلى المواقع والتطبيقات نحو 9 مستخدمين من أصل 10 مستخدمين
وتسعى النظرية بشكل أوسع إلى مشروع لتحقيق التحرّر العنصري ومكافحة التبعية). كما معارضة فكرة اليقظة وثقافة الإلغاء، ومنع الحزب الديموقراطي من تحويل أميركا إلى دولة شيوعية على حد قولهم (هنا نستذكر وصف ترامب الدائم للديموقراطيين بالشيوعيين واليسار الراديكالي)، عملياً هي حرب شعارات وقيم وإيديولوجيات.
ما سبق هو اختصار بسيط ووصف عام لأبرز نقاط الاختلاف بين الفئتين، بمعزل عن أحقية أي من الجهتين. ومع إدارة ترامب تم ترسيخ هذا الشرخ ليصبح وكأن هناك شعبان في أميركا يختلفان على كلّ شيء. لكن هذا الانقسام امتدّ أيضاً نحو أعمال الإنتاج المتلفز. فخلال الشهر الماضي، انخفضت أسهم شركة «ديزني» بنسبة تخطت 17% (وتواصل الانخفاض) بعدما قام عدد كبير من الأسر الأميركية بإيقاف اشتراكهم بخدمة «ديزني بلس»، احتجاجاً على وقوف الشركة في وجه قانون فلوريدا لحقوق الوالدين في التعليم. هذا القانون يحظّر على الأساتذة مناقشة الإيديولوجية الجنسية والمتحولين جنسياً للأطفال من روضة الأطفال حتى الصف الثالث. كما يأتي هذا التراجع السوقي، بعد تسريب صوتي وبالفيديو للمديرين التنفيذيين في شركة «ديزني» خلال مؤتمر لهم عبر الهاتف، أخيراً، يتحدثون فيه عن تطلعاتهم لوضع الأفكار الجندرية في أفلام الأطفال والبرامج التلفزيونية.
وفي سياق متصل، أعلنت منصّة البث التدفقي «نتفليكس»، لأول مرة منذ عقد، خسارة في عدد المشتركين وصلت إلى نحو 200 ألف مشترك. وانخفضت أسهم الشركة أكثر من 20%. وغرّد صاحب شركة «تسلا» و«سبايس إكس»، إيلون ماسك، أنّ «فيروس فكرة اليقظة تجعل نتفليكس غير قابلة للمشاهدة». ويعزو البعض أنّ هذه الخسارة سببها المباشر إنتاج الشركة لمسلسل جديد بعنوان «إنه ينتظر مولوداً» عن قصّة رجل حامل. بالإضافة إلى محاولة المنصّة وضع كل القيم الجندرية في غالبية أعمالها المنتجة. في حين قال رأي آخر إنّ سبب الخسارة يعود إلى التضخّم غير المسبوق منذ أكثر من 40 عاماً والذي تعاني منه الولايات المتحدة، ما دفع المستخدمين إلى التخفيف من مصاريفهم.
اضف تعليق