أن مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر على الناس بأشكال مختلفة، وفقا لظروفهم المسبقة، وسمات الشخصية لديهم، وكما هو الحال مع بقية مغريات العصر الحديث، فإن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي غير مفضل، ولا يُنصح به لكن في الوقت نفسه سيكون من الخطأ القول....
استخدام الفرد لأكثر من 7 منصات للتواصل الاجتماعي يضاعف ثلاث مرات من احتمال الإصابة بالاكتئاب والقلق، مقارنةً بمن يستخدم منصتين أو أقل، وفق باحثين في مجال الصحة النفسية، ووفقًا لمسح وطني أجراه فريق بحثي بقسم بحوث الإعلام والتكنولوجيا والصحة في جامعة بيتسبرج بالولايات المتحدة الأمريكية، فإن الإفراط في استخدام هذه المنصات يؤدي إلى تشتيت المخ بين مهام متعددة، وهو ما ينعكس سلبًا على الصحة العقلية والقدرة على الإدراك والانتباه، وقد يتطور الأمر إلى الإصابة بالاكتئاب وسوء الحالة المزاجية.
وأكد الباحثون أنه حتى لو انخفضت مدة المكوث على المنصة، يظل الرابط السلبي بينها وبين الاكتئاب وثيقًا وذكرت دراسة أنه "يتوجب على الأطباء النفسيين أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار في أثناء فحص مرضى الاكتئاب"، يقول برايان بريماك -الباحث الرئيس في الدراسة-: "ملايين السنين احتاجها البشر ليطوروا آليات التكيُّف مع البيئة الاجتماعية، مثل اللعب واللمس الحسي والتواصل الشخصي، وصحيح أن التواصل الافتراضي شيء مهم، إلا أنه لا بد وأن يظل مكملًا للعلاقات الحقيقية وليس بديلًا عنها.
إن ارتباط منصات التواصل الاجتماعي بالاكتئاب ليس بالحتمي، فقد طور باحثون بجامعة بورتسموث بالمملكة المتحدة تطبيقًا للهواتف المحمولة يُعرف بـ"أشيائي الجميلة" بهدف علاج بعض الاضطرابات النفسية، فيه يقوم المستخدم بتحميل أجمل ذكرياته لمشاهدتها بعد ذلك؛ مما يحفز حالة من التسكين الذاتي في حالات المعاناة مع المزاج السيئ، بحسب للعلِم.
مواقع التواصل والتوتر
يستخدم الناس مواقع التواصل الاجتماعي للتنفيس عما بداخلهم، سواء حول موضوعات سياسية أو غيرها، لكن الجانب السلبي في هذا الأمر هو أن تعليقاتنا تشبه في الغالب موجة لا تنتهي من التوتر والضغوط، ففي عام 2015، سعى باحثون بمركز "بيو" للدراسات، ومقره واشنطن دي سي بالولايات المتحدة، إلى معرفة ما إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي تزيد من حدة التوتر لدى المستخدمين، أكثر مما تخففها، وفي استطلاع أجراه المركز، وضم 1,800 شخص، عبرت النساء عن أنهن يشعرن بتوتر وضغوط أكثر من الرجال، عند استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتوصل الباحثون أيضا إلى أن موقع تويتر يعد مساهما قويا في هذا الشعور، لأنه يزيد من وعي المستخدمين بالتوتر الذي يتعرض له أشخاص آخرون غيرهم.
في عام 2014، توصل باحثون في النمسا إلى أن المشاركين في إحدى دراساتهم تحدثوا عن تراجع في الحالة المزاجية عقب استخدام موقع فيسبوك لمدة 20 دقيقة، مقارنة بأشخاص تصفحوا فقط بعض مواقع الإنترنت في نفس الفترة الزمنية، وتقول الدراسة إن الناس شعروا بهذه الحالة المزاجية المنخفضة لأنهم رأوا أنهم أهدروا وقتهم في استخدام فيسبوك، لكن الشعور بمزاج جيد أو سيء يمكن أن ينتشر بين الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، وفقا لباحثين من جامعة كاليفورنيا، الذين قيموا المحتوى العاطفي لأكثر من مليار منشور كتبه أكثر من 100 مليون مستخدم على فيسبوك، بين عامي 2009 و2012.
وتوصل الباحثون إلى أن منشورا واحدا سلبيا عن حالة الطقس السيء، من شخص يعيش في مدينة ممطرة على سبيل المثال، أثر على منشورات أخرى لأصدقاء له يعيشون في مدن جافة، لكن الخبر السار أيضا هو أن المنشورات السعيدة تُحدث تأثيرا كبيرا وقويا، فكل منشور سعيد يلهم 1,75 منشور سعيدا أيضا لكن فكرة أن كل منشور سعيد يمكن أن يعني إحداث تغيير إيحابي وحقيقي في الحالة المزاجية للمستخدمين، لا تزال غير قاطعة.
القلق والاضطراب والاكتئاب
درس عدد من الباحثين مشاعر القلق والاضطراب التي قد تثيرها مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تشمل الشعور بعدم الراحة، ومشكلات النوم، وعدم التركيز، وقد توصلت دراسة نشرت في دورية "الكمبيوتر والسلوك البشري"، إلى أن الأشخاص الذين يقولون إنهم يستخدمون سبعة أو أكثر من منصات التواصل الاجتماعي، يكونون أكثر عرضة لمستويات مرتفعة من القلق بنسبة تزيد على ثلاثة أضعاف، مقارنة بالأشخاص الذين يستخدمون منصة أو اثنتين من منصات التواصل الاجتماعي، أو الذين لا يستخدمونها مطلقا.
لكن مع ذلك، ليس من أدلة قاطعة حول ما إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي تسبب القلق والاضطراب، أو حول كيفية حدوث ذلك، وقال باحثون بجامعة "بي بي يو" في رومانيا، والذين أجروا في عام 2016 مراجعة واسعة للعديد من الأبحاث التي تتناول العلاقة بين مواقع التواصل، والشعور بالقلق الاجتماعي، إن النتائج في هذا الشأن كانت مختلطة وخلصوا إلى أن هناك حاجة لإجراء مزيد من الأبحاث حول طبيعة هذه العلاقة.
بينما توصلت بعض الدرسات إلى أن هناك صلة بين الاكتئاب وبين استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، هناك أيضا أبحاث متزايدة حول إمكانية أن تكون هذه المواقع قوة إيجابية دافعه ومحفزة، وقد توصلت دراسة شملت أكثر من 700 طالب إلى أن أعراض الاكتئاب، مثل الحالة المزاجية السيئة، والشعور بعدم قيمة الذات، واليأس، كانت مرتبطة بطبيعة ونوع التفاعل على الإنترنت. ولاحظ الباحثون وجود مستويات عالية من أعراض الشعور الاكتئاب بين هؤلاء الذين كان لديهم تفاعلات أكثر سلبية على الإنترنت.
وتوصلت دراسة مشابهة أجريت عام 2016 ، وشملت 1,700 مستخدم، إلى أن هناك مخاطر بنحو ثلاثة أضعاف للتعرض للاكتئاب والقلق بين الأشخاص الأكثر استخداما لمواقع التواصل الاجتماعي، وتشمل الأسباب التي تقف وراء ذلك، كما يقولون، أساليب التخويف أو التنمر التي يتعرض لها البعض، وتكوين رؤية مشوهة عن حياة الآخرين، والشعور بأن الوقت الذي يُقضى على مواقع التواصل الاجتماعي وقت مهدر، وفي المقابل، يبحث علماء آخرون كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التشخيص المبكر للاكتئاب، وهو ما قد يساعد في العلاج المبكر أيضا.
وقد أجرى باحثون في شركة ميكروسوفت استطلاعا شمل 476 شخصا، وحاولوا من خلاله تحليل ملفاتهم التعريفية على موقع تويتر، بحثا عن إشارات لغوية للاكتئاب، أو استخدام لغة تعكس مشاعر معينة. وتمكنوا بعد ذلك من تطوير تصنيف يمكن أن يساعد في التنبؤ بدقة بالاكتئاب لدى المستخدمين قبل أن تظهر أعراضه، وذلك في سبعة من كل عشرة حالات، بحسب بي بي سي.
الجانب المُظلم
كان هدف موقع "فيسبوك" الأساسي في بدايته، "جعل العالم أكثر انفتاحاً وتواصلاً"، وفي الأيام الأولى من ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، اعتقد كثر أن الزيادة العالمية الهائلة في القدرة على التواصل من شأنها أن تُفيد الديموقراطية، لكن بمرور الوقت، صاحبه تبدد التفاؤل الذي صاحب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتنامت قائمة الأضرار المعروفة أو المتوقعة: والواقع أن المناقشات السياسية التي تحدث على شبكة الإنترنت (غالباً بين مجموعات من الغرباء المجهولين) أصبحت أكثر غضباً وأقل تحضراً مقارنةً بالمناقشات التي تحدث في الحياة الواقعية، وصارت الشبكات التي تضم الموالين لاتجاه معين تُساهم في خلق وجهات النظر العالمية التي قد تصبح أكثر تطرفاً، وتفاقمت حملات التضليل الإعلامي، وباتت الأيديولوجيات العنيفة تُغري الأفراد المعنيين بالانضمام إليها.
قد لا تكمن المشكلة في التواصل بحد ذاته، بل في الطريقة التي تُغير بها وسائل التواصل الاجتماعي هذا القدر الكبير من التواصل إلى عرض علني أمام شريحة واسعة من الجمهور، قد لا تكمن المشكلة في التواصل بحد ذاته، بل في الطريقة التي تُغير بها وسائل التواصل الاجتماعي هذا القدر الكبير من التواصل إلى عرض علني أمام شريحة واسعة من الجمهور غالباً ما نفكر في التواصل على أنه طريق ذو اتجاهين تنشأ الألفة والعلاقات الحميمية بين الأشخاص عندما يتناوبون الأدوار، ويتبادلون الضحكات، ويتشاطرون المعلومات معاً ولكن ماذا قد يحدث حين تُنصب المدرجات على جانبي ذلك الطريق، وبعد ذلك تمتلئ بالأصدقاء والمعارف والمنافسين والغرباء، وجميعهم يصدرون الأحكام ويقدمون التعليقات؟
ابتكر عالم النفس الاجتماعي مارك ليري مُصطلح "سوشيوميتر"، لوصف المقياس العقلي الداخلي الذي ينبئنا، لحظة بلحظة، بكيفية رؤية الآخرين لأفعالنا من منظورهم الشخصي، يرى ليري أننا لا نحتاج حقاً إلى الاعتداد بالذات، ولكن بدلاً من ذلك، تتلخص الحتمية التطورية في حمل الآخرين على النظر إلينا كشركاء مرغوب فيهم في مختلف أشكال العلاقات. فقد نجحت وسائل التواصل الاجتماعي، بما تقدمه من إعجابات، وأصدقاء، ومتابعين، وإعادة تغريدات، في انتشال مقياس "السوشيوميتر" الكامن في أفكارنا الخاصة ونشره على الملأ لكي يراه الجميع.
تطور الجنس البشري على الثرثرة والتأنق والتفاخر بالنفس والتلاعب ونبذ الآخرين ولذا نجد أنفسنا منجذبين بسهولة إلى هذا السيرك الجديد من مُبارَزات المُصارعين، على رغم أننا ندرك أنه قد يجعلنا قُساة وسطحيين وكما قالت عالمة النفس في جامعة ييل مولي كروكيت، فإن القوى الطبيعية التي قد تمنعنا من الانضمام إلى مجموعة من الغوغاء الغاضبين -مثل الوقت الذي نحتاجه للتفكّر وتهدئة أنفسنا، أو مشاعر التعاطف التي نستحضرها عندما نرى شخصاً يتعرض للإهانة- تضعف عندما لا تمكننا رؤية وجه الشخص، وعندما يُطلب منا، مرات عدة في اليوم، أن ننضم إلى صفوف الشاجبين من خلال ضغط زر "الإعجاب" علانية.
أداة رفع مستوى السخط والكراهية
في أول تأسيسها، كانت وسائل التواصل الاجتماعي شديدة الاختلاف عن وقتنا الحالي ظهرت مواقع مثل "فريندستر" و"ماي سبيس" و"فيسبوك" دفعة واحدة ما بين عامي 2002 و2004، موفرةً وسائل لمساعدة المستخدمين على التواصل مع أصدقائهم، وقد شجعت تلك المواقع المستخدمين على نشر نسخ منمقة للغاية ومُختارة بعناية من حياتهم، لكنها لم تقدم وسيلة لإثارة عدوى السخط والكراهية تغير هذا تدريجياً عبر مجموعة من الخطوات الصغيرة -المصمَّمة لتحسين تجربة المستخدم- التي غيّرَت جماعياً طريقة انتشار السخط والأخبار في المجتمع الأميركي. لإصلاح وسائل التواصل الاجتماعي -وتقليل أضرارها على الديمقراطية- علينا محاولة فهم هذا التطور، مترجم عن theatlantic .
مواقع التواصل الاجتماعي تتغير بوتيرة أسرع مما يمكن للعلماء مواكبتها، وبالتالي، هناك مجموعات متعددة تحاول دراسة ما يعرف بالسلوكيات المرتبطة باستخدامها، فعلى سبيل المثال، ابتكر علماء من هولندا مقياسا للتعرف على أي إدمان محتمل لتلك المنصات، لكن إذا كان هناك أي إدمان لمواقع التواصل الاجتماعي، فإنه يمكن أن يكون نوعا من إدمان الإنترنت نفسه، وهو اضطراب مصنف طبيا في الوقت الحالي. ففي عام 2011، حلل باحثان من جامعة نوتنغهام ترينت بالمملكة المتحدة 43 دراسة سابقة حول هذا الموضوع، وخلصوا إلى أن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي يعد مشكلة صحية عقلية "قد" تتطلب علاجا، وأن الاستخدام المفرط له صلة بمشكلات في العلاقات مع الناس، وتراجع التحصيل الدراسي، وقلة الانخراط في مجموعات وأنشطة بعيدا عن الإنترنت.
من الواضح أنه في العديد من المجالات، ليس هناك ما يكفي من معلومات للوصول إلى نتائج نهائية وحاسمة في هذا الشأن، لكن الأدلة تشير إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر على الناس بأشكال مختلفة، وفقا لظروفهم المسبقة، وسمات الشخصية لديهم، وكما هو الحال مع بقية مغريات العصر الحديث، فإن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي غير مفضل، ولا يُنصح به لكن في الوقت نفسه سيكون من الخطأ القول إن وسائل التواصل الاجتماعي سيئة بشكل عام، لأنه من الواضح أنها قد تحقق فوائد لا تُحصى في حياتنا.
اضف تعليق