إن الثقافة الرقمية باتت اليوم الركن الأساس في تحقيق التطور بالمجالات المختلفة، حتى على مستوى الوظائف البسيطة، يُشترَط بالمتقدم لها أن يكون قد أتقن اللغة الرقمية والتعامل الرقمي في مختلف الجوانب، وليس غريبا أن تشترط شركات أهلية (قطاع خاص) وحتى القطاع العام، أن يكون المتقدم عارفا ومحصّنا...
مع كل يوم جديد يخلع العالم ثوبه، ليجدده بآخر أكثر حداثة وتطورا، لكن هنالك دول وشعوب، تفشل في تغيير ثوبها القديم وتجديده بآخر يتناغم مع ما وصل إليه العالم من تحديث في مجالات الحياة كافة، تُرى لماذا تعجز بعض الشعوب والدول عن مجاراة ما يحدث في إطار التطور العالمي، وما هي الحواجز التي تشكل إعاقة حيال الانتقال من حال بائس بطيء متثاقل، إلى حال جديد يتسم بالسرعة والدقّة والحيوية.
إن الثقافة الرقمية باتت اليوم الركن الأساس في تحقيق التطور بالمجالات المختلفة، حتى على مستوى الوظائف البسيطة، يُشترَط بالمتقدم لها أن يكون قد أتقن اللغة الرقمية والتعامل الرقمي في مختلف الجوانب، وليس غريبا أن تشترط شركات أهلية (قطاع خاص) وحتى القطاع العام، أن يكون المتقدم عارفا ومحصّنا بالثقافة الرقمية ويعرف كل ما يتيحه الإنترنيت من تسهيلات خدمية أو إنتاجية، وإلا فإن فرصة الحصول على عمل لن تكون متاحة قط.
ليس في مجال الوظائف فقط، فهناك التعليم بمراحله المختلفة، إذ انتقل من أسلوب (القلم والورقة) إلى أسلوب محدث يتوافق مع ما يحصل اليوم من تطورات هائلة، فشاشة الحاسوب والكيبورد وإتقان أنظمة الكمبيوتر المختلفة، صارت ترافق الجميع، الطلبة أو الموظفين، وحتى عامة الناس ، فقبل سنوات نُشِر خبر يقول، إن اليابان احتفلت بالقضاء على الأمية الالكترونية، إذ لم يعد لديها مواطن ياباني واحد لا يحسن التعامل مع العالم الرقمي وأدواته، بمن فيهم الأطفال اليابانيين، فكم هو واسع ذلك البون المعرفي الذي يفصل بين شعبين ينتميان الى قارة واحدة، هي قارة آسيا، والشعبان هما الشعب الياباني والشعب العراقي، ليس انتقاصا من الأخير ولكن هذه حقيقة مرة يجب الاعتراف بها، حتى تكون لدينا القدرة والأسباب التي تدفع بنا إلى البحث عن الأساليب المعاصرة سواء في العمل أو في التنمية العلمية.
ميزات العالَم الإلكتروني
ومما تتميز به الوسائل الإلكترونية التي تتيح هذه الثقافة، بساطة الاستعمال، وسرعة التعلّم، فحتى طالب الابتدائية، ما أن يدخل العالم الرقمي، حتى يبدأ بالتعلّم السريع، لدرجة أن كثيرا من الآباء يستعينون بأبنائهم الصغار كي يعرفوا هذا اللغز أو ذاك، لذلك باتت الثقافة الرقمية تشكل ثقافة عصر كامل، هو عصرنا الحالي، لدرجة أن الحياة أصبحت في غاية الصعوبة بغياب التعامل المستمر مع العالم الرقمي على مستوى الأفراد أو الجماعات، حتى لدينا في العراق، عندما تحاول أحدهم البحث عن وظيفة ما، فإن السؤال الذي سيواجهه من رب العمل والذي يتقدم جميع الأسئلة، (هل تحسن التعامل مع الكومبيوتر؟)، لهذا صرنا جميعا أمام الأمر الواقع، وعلينا أن نتقن التعامل مع العالم الرقمي شئنا أم أبينا، ولابد من أن نبدأ رحلة منتظمة لتحقيق هذا الهدف، ونحد من العشوائية الإلكترونية التي نعيشها اليوم، أما العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الهدف فهي كثيرة، ولابد من التعامل معها بذكاء وتخطيط جمعي علمي مسبق، وهذا يوجب على الجهات المعنية المدنية (المنظمات) والحكومية، أن تعمل بجدية وإخلاص وتخطيط دقيق لإزالة العوائق المذكورة، وأن نبدأ مع الطلبة في جميع المراحل الدراسية، بدايات تعتمد الوسائل الرقمية المختلفة، ونضع خلف ظهورنا الأساليب التي لم تعد تنسجم مع العالم الجديد، الذي ترك وراءه كل ما هو بطيء متثاقل ومعيق لسرعة التوصيل والتواصل.
بالطبع لا يمكن أن نصل إلى ما نحلم به من نقلة نوعية في عالم المعرفة الرقمية، ما لم تكن هناك أرضية قابلة لاستيعاب هذا العالم بكل أساليبه ووسائله، ولكن بدءاً يقتضي هذا الأمر من الحكومة والوزارات المختصة، (هيئة الاتصالات، التربية، التعليم العالي، الشباب والرياضة)، أن تضع الخطط اللازمة التي تتيح للمجتمع أن ينتقل إلى العالم الرقمي، ويغادر العالم الذي لم يعد له وجودا في نسبة كبيرة من دول العالم، تُرى هل وضعت الجهات المسؤولة الخطط المناسبة لمثل هذا الانتقال، وهل تتم خطوات التدريس والتعليم بالوسائل الرقمية المعاصرة، الجواب يمكن أن نستلّه من واقعنا التعليمي الهش، وستبقى التساؤلات التي تبحث في كيفية التغيير فارغة بلا إجابات وافية.
الانتقال للعالم الرقمي ليس كمالياً
أما الإجابة عن هذه التساؤلات وسواها، فينبغي أن تدفعنا أكثر وخصوصا الجهات المقصودة والمسؤولة، الى تحقيق الانتقال من العالم المعرفي القديم وأساليبه القديمة، إلى التعامل مع العالم الرقمي الحديث، وذلك من خلال نشر الثقافة الرقمية، وهي مهمة حكومية أولا باستخدام الجهد الرسمي الضخم، ثم تأتي بعد ذلك، الجهات الأخرى المساندة لانجاز مثل هذا المشروع المعاصر، مثل المنظمات المحلية والدولية التي تهتم بنشر الثقافة الرقمية، كذلك دور القطاع الخاص في فتح أبواب الاستثمار الواسعة، أمام خدمة البرمجيات والتعليم الالكتروني وفق ضوابط تحمي المستثمر والمستهلك في آن واحد، وليس هناك مستحيل أمام من يروم مسايرة الحداثة والانتقال من العالم القديم البطيء المتثاقل، إلى العالم الذي تميزه سرعة الحركة وضجة الابتكارات المتواترة في كل حين.
ربما ينظر بعضهم لمثل هذا المشروع على أنه من النوع الكمالي، وليس الأساسي، خصوصا حينما يسند أصحاب هذا الرأي ما يريدونه من بقاء على القديم، بأن البلد يغصّ بالمشكلات الكبيرة التي تمس حياة الناس مباشرة، وإذا أردنا الانتقال إلى الرقمية علينا معالجة أزمات السكن، الخدمات، الفقر، وهكذا، ومع أن هذا الرأي له نسبة ما من الواقعية، لكن حتى معالجة هذه الأزمات التي تم ذكرها مترابط بالقضاء على الأمية الرقمية، لأن هذه الثقافة هي تساعد في حل أزمات الفقر والسكن والخدمات، كذلك هناك أمل بانتقال البلد بأكمله إلى هذه الثقافة، وخصوصا الحكومة، حيث يُثار بين حين وآخر مشروع (الحكومة الإلكترونية)، ويتم وصف مزاياه خصوصا في جانب القضاء على البيروقراطية، وجيوب الفساد الإداري والمالي، بالإضافة إلى حفظ كرامة المواطن العراقي من الذلّ الذي يطوله في الدوائر الرسمية عندما يسعى لقضاء معاملة تخص جانبا من حياته أو أسرته، لذا فإن مكاسب وإيجابيات العالم الرقمي كثيرة ومتعددة، إذا ما قرناها مع أساليب وأدوات العالم القديم الذي لفظ أنفاسه ولم يبق يتنفس الهواء والوجود إلا بيننا كدول ومجتمعات تغلق على نفسها نافذة التغيير.
اضف تعليق