دخل "سوشيال ميديا"، او الاعلام الجماهيري عالم الصحافة والاعلام دون استئذان ثم فرض نفسه بقوة ليس ليكون رديفاً لسائر وسائل الاعلام في مهمة نقل المعلومة والفكرة، وإنما ليُشرك المتلقي في صنع هذه المعلومة والفكرة، ثم يناقشها ويبدي رأيه فيها.
ومن الواضح أن سرعة تقنية الاتصال ومجانيته حول العالم، وتكاثر مواقع التواصل الاجتماعي بأشكال متعددة، هو الذي جعل هذا النمط من الاعلام يتسيّد على جميع وسائل الاعلام التقليدية الاخرى، من خلال مواكبته لسرعة التطورات والاحداث السياسية، بل وتكون احياناً سابقة عليها وتتطاول للتنبؤ بما يحصل من احداث ومواقف، وتصدر الاحكام على الاشياء والاشخاص بقطع النظر عن معايير الصواب والتفكير في النتائج والانعكاسات.
هذه السرعة الفائقة ليست لخدمة الصالح العام كما كانت الصحافة أيام زمان، عندما كانت تتسابق الصحف ووكالات الانباء على "السبق الصحفي" وإيصال الخبر الخاص الى الجماهير لزيادة وعيه السياسي والاقتصادي وحثه على المشاركة في صنع القرار او التأثير عليه، وإنما على سبيل الإثارة لخدمة أغراض سياسية او فئوية او حتى شخصية، فالخبر الخاص والسبق الصحفي الذي يبذل من اجله المندوب او المراسل جهوداً مضنية وربما تضحيات جمّة، يدعو المتلقي الى التأمل والتفكّر فيما بلغه من مطالبات المعارضة السياسية، او تحالفات مشبوهة داخل المؤسسة الحاكمة، وايضاً؛ الاخبار عن انجازات علمية وصناعية، بينما لغة الإثارة السريعة الانتقال، تستدعي تجييش المشاعر، لاسيما السلبية منها وتوجيهها الوجهة المطلوبة.
فعندما يريد البعض انتقاد شخص ما او إظهار عيوبه وفشله، كونه فاسداً في المال، او مستبداً في السياسة والحكم، فانه لن يكلف نفسه البحث عن أدوات الانتقاد في مجال التخصص، كأن تكون لدينا ثمة أرقام واحصائيات تؤكد الفساد المالي، او أدلة دامغة على الفشل السياسي والاتجاه نحو الديكتاتورية، بل التوسل فوراً الى مقاطع مصورة لذلك الانسان الفاشل والفاسد وهو في حالة مخلّة بالآداب ليضاف اليه صفة المجون والفساد الاخلاقي فقط، وحينما يصدر الاعتراض على هذا اللون من النشر، يأتي الجواب بأن هذا "نوعاً من المعرفة"!
وتطورت لغة الإثارة الى الطريقة غير المباشرة وبشكل غريب جداً، بحيث يتم نشر مقطع مصور لشخص يحرق نسخة من القرآن الكريم او يمزقه، او يتفوّه بكلمات نابية ضد شخص النبي الاكرم، لتوجيه الاساءة الى الاسلام بشكل عام، ثم يكون تبرير هذا النشر؛ تبيان آثار "الاسلام الوهابي" او ممارسات الجماعات التكفيرية ضد الناس، وربما من غير المسلمين.
ان الباحثين في علم النفس يحذرون دائماً من المثيرات السلبية، في المقابل يحثّون، بل ويبحثون عن المثيرات الايجابية لمساعدة الانسان المتأزم على تجاوز ازمته، وفي مرحلة متقدمة التفكير بالبناء والتغيير بشكل ذاتي، بما يطلق عليه اليوم بعلم النفس الايجابي، فالعلماء باتوا يطالبون بشدة بعدم حصر دراسة علم النفس في الاطار السلبي، وعدّه مرضاً وحالة تستبطن العجز والفشل، وإنما تحويل الحالة المرضية الى فرصة للبحث عن "الطاقات الحيّة" الكامنة في الانسان التي من شأنها ان تنتشله من واقعه السيئ، وربما هذا ما اعتمدت عليه وسائل الاعلام التقليدية في السنوات الماضية لتعبئة النفوس والمعنويات لإذكاء حروب طاحنة، منها؛ الحرب العراقية – الايرانية، على سبيل المثال لا الحصر، بينما استفادت منها بلاد متطلعة الى التقدم والتحضر، لدفع ابنائها الى المزيد من العمل والانتاج والابداع.
ولعل ما يعزز الحاجة الى إثارة دفائن العقول والدعوة الى التفكر والتأمل في الوقت الحاضر ، الطابع الفكري والثقافي للصراع المحتدم حالياً، وبات الكثير يتحدث عن "حرب الافكار"، وإن كانت المدافع تدوي والطائرات تقصف والنار والدمار في كل مكان، فان وراء كل ذلك توجيه فكري من نوع خاص بلغ حدّ "غسيل الدماغ" بحيث تجعل من الانسان المحب للحياة والخلود، ان يكون مستعداً ليتحول الى ذرات متناثرة في عملية انتحارية.
فاذا كان يُراد من الاعلام الجماهيري (سوشيال ميديا) أن يكون الوسيلة الجديدة والعصرية لصناعة الوعي ونشر الثقافة البناءة والايجابية، علينا تنشيط الفكر والتدبّر فيما يحصل في الساحة، بدلاً من اللجوء الى الإثارة السريعة وصناعة ردود فعل عاطفية ربما تعود بنتائج عكسية في ساحة محتدمة بالصراع الفكري، وفضلاً عن عدم سنخية الادوات في هذا الصراع، فان التعبئة العاطفية وإثارة المشاعر لن يفند فكرة خاطئة او يكشف عن مساوئ التطرف والتعصّب بكل اشكاله ومذاهبه، بقدر ما يكرّس في نفس هذا التطرف ليتحول الى ثقافة متداولة ضمن دوامة صراع لا تتضح فيه معالم الحق من الباطل، ومن يجب ان يكون المنتصر.
اضف تعليق