كثيرون يتهمون السياسة بأنها مجردة من المبادئ، وأنها باحثة عن المصالح فقط، ويتهمها آخرون بأنها ربيبة الاستحواذ والنفوذ والمناصب.. وهناك من يتهم السياسي بأنه باحث عن الجاه والمال والمنفعة الذاتية والعائلية او الحزبية، ولهذا السبب يتهرّب كثيرون من السياسة والسياسيين، ولا يحبذون العمل فيها بسبب المخاطر التي تنطوي عليها أيضا فضلا عن متاعبها الكبيرة.
ولكن دعونا نفكر لحظة، ماذا سيكون عليه موقف الدولة والشعب لو أن الجميع رفضوا العمل في السياسة؟؟ سؤال مباشر وصريح، طبعا سوف تتراجع الدولة ويخسر المجتمع فرص التقدم والتنظيم لاسيما اذا كانت ادارة الدولة سياسيا ناجحة ومتميزة، وهنا حتما سوف نستذكر الشخصيات السياسية العظيمة عبر التاريخ، وما قدمته للأمم وللبشرية من أفضال لا يمكن أن تُغفَل أو تُنسى.
هل نذكر بعضا من هذه الشخصيات العظيمة التي أنقذت أممها وشعوبها ورفعتها من حضيض التخلف الى قمم التقدم والسؤدد؟، غاندي عمل في السياسة، فهو سياسي، من يجرؤ على ذمه بكلمة حق، مانديلا كذلك نذر عمره للسياسة وللشعب، هل هناك من يذمه بكلمة؟؟ قادتنا العظماء عملوا في ميدان السياسة وتميزوا في بناء دولة الإسلام العظيمة، لا يستطيع أحد أن يتكلم بالضد منهم إلا إذا كان مجافيا للحق.
هذا يتطلب منا أن لا نكره السياسة بل على الإنسان أن يفهمها ويتفاعل معها، لأن الفهم شرط أساس لمعرفة السياسة والاقتراب منها أو الابتعاد عنها، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفهم السياسي)، يعرّف الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) قائلا:
إن (السياسة ليست من العلوم الحديثة، بل لعلها وجدت بوجود الإنسان في هذه المعمورة، وبواسطتها ينظم الإنسان حياته).
واذا التقى الفهم بالسياسة من خلال العقل الراجح، سوف يتم التوصل الى فهم تام للسياسة، وسوف يكون هنالك نبوغ بعد الفهم، فالقضية أولا وأخيرا تتعلق بالفهم قبل كل شيء آخر، ولكن معظم الناس لهم تجربة مريرة مع العاملين في السياسة (الحكام، وخاصة صنف الطغاة منهم)، هؤلاء أساؤوا للسياسة وشوهوا معناه، وزادوا في عدم فهم الناس لها والتخوف منها.
يقول الإمام الشيرازي، في تعريفه للفهم بصورة عامة (إنه الإدراك والعلم والمعرفة. وواسطة هذه المعرفة والعلم هي العقل، أي إن الإنسان بواسطة عقله يفهم الأشياء، ومن هذا الباب نجد أن بعض الناس الذين يملكون عقلاً سليماً لهم نبوغ في مختلف مجالات الحياة؛ وذلك لرجاحة عقلهم، وحسن تعاملهم مع القضايا والأحداث التي تدور حولهم).
فرجاحة العقل تجعل الإنسان أكثر قدرة على فهم الأشياء، وهذا الفهم يؤدي بالنتيجة الى التعامل مع السياسة بعقل فاهم منفتح مستعد لتبادل الفعاليات والأنشطة وحتى المصالح، فمن مصلحة الشعب والأمة أن تكون هنالك سياسة فاعلة وناجحة وسياسيون ناجحون، وليس من مصلحتها أن نكره السياسة ونبتعد عنها، بحجة فشل الحكام الطغاة في إنصاف شعوبهم وأممهم.
الحاجة للسياسة في جميع المجالات
من الخطأ أن نقول بعدم فائدة السياسة أو جدواها، فالسياسة على الصعيد الداخلي تنظم شؤون الدولة والأمة وتضع جميع الفعاليات السياسية الداخلي في نسق واحد متناغم، تحكمه ضوابط وقواعد لا يصح تجاوزها، كونها تتعلق بمصلحة الدولة والناس معا.
كذلك يبقى الإنسان بحاجة الى السياسة في جميع مجالات الحياة الفردية والجماعية، بمعنى لا يمكن نبذ السياسة أو التخلي عنها، بل لا يمكن الاستغناء عن السياسة كونها المنظّم الأهم لحياة الأمم، لذا فإن الإنسان الفرد والجماعة لا يمكن أن يضعوا السياسة خلف ظهورهم بسبب حاجتهم الماسة لها.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع في المصدر نفسه: إن (كل إنسان يحتاج إلى السياسة، وفي جميع المجالات، سياسة مع نفسه، سياسة في تعامله وتعايشه مع عائلته، سياسة مع صديقه، سياسة مع عدوه، وسياسة مع جميع أفراد المجتمع. ومن هذا الباب، فإن أغلب الناس سياسيون، ولكن بدرجات متفاوتة).
يحتاج الأمر الى الفهم والإدراك ومعرفة أهمية السياسة في حياة الناس، فالإنسان يمكنه أن يسعى نحو الفهم والمعرفة من خلال الاستخدام السليم لعقله وقدراته الذهنية، ويمكنه أن يكون بليدا لا يعبأ بشيء، فيظهر للآخرين لا مباليا بالأمور حتى الهامة منها، وبذلك قد يخسر الكثير.
من هنا ينبغي على الفرد أن يهتم بالسياسة على الأقل من باب المصلحة الفردية، ومن حاصل مجموع مصالح الأفراد تتشكل مصلحة الأمة كلها، فإذا اهتم الأفراد بالسياسة بعد فهمه لها ومعرفته بالفوائد التي تقدمها السياسة للأمة، عند ذاك تكون النسبة الأكثر فاهمة ومهتمة بالسياسة.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله: (إذاً، بإمكان الإنسان أن يصبح فاهماً، وبإمكانه أن يكون كثير العلم والإدراك، وذلك بجده واجتهاده، وأيضاً بيده أن يصبح أبلهاً أو بليداً أو شخصاً عادياً لا يهتم ولا يعي لما يجري حوله من القضايا والأحداث).
دور السياسة في بناء الفرد والمجتمع
ثمة أسس تقوم عليها نهضة المسلمين، من بينها الجدية في تحصيل العلم، وعدم التهاون في هذا الأمر، كذلك ينبغي أن لا يفرط قادة النخب بهذا الجانب، إذ من الأهمية بمكان أن يفهم الفرد والجماعة ماهية السياسة وأهدافها وفوائدها في حالة يكون القادة العاملين فيها مخلصين لأمتهم، كذلك على النخب الدينية أن تفهم ما هو دورها في هذا الجانب.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (إن الحصول على الفهم السياسي لا يحتاج إلى جهد كثير، ولكن المسلمين ـ على الأخص رجال الدين ـ تركوا العمل بها واعتبروا السياسة من شؤون الدولة المتسلطة وليست من شؤون الدين، وهذا من أهم أسباب عدم وجود الفهم السياسي بالمقدار الكافي في أوساط المسلمين، حيث تصور البعض أن السياسة هي شأن الطغاة حفاظاً على الحياة الدنيا).
إن العمل في السياسة ليس من اختصاص الدنيويين، ولا هي موكولة للطغاة فقط كما يتصور بعض رجال الدين، ولعل الانسحاب من العمل السياسي ومقته هو الذي يتيح للطغاة التفرد بالسلطة والبطش بالضعفاء الذين يتهربون من دورهم في المضمار السياسي.
ومن الأسس التي تقود الفرد والأمة الى فهم السياسة والتعامل معها بوضوح وقبول، التثقيف المستمر، وزيادة الوعي لدى شرائح المجتمع كافة، فكلما كان الشعب مثقفا كان أكثر قدرة على التعامل والتعاطي مع القضايا السياسية، أما عندما يتجاهل الناس دور الثقافة، ويبقى وعيهم قاصرا، فإن الأمة تبقى في حالة مستمرة من السبات.
في حين من أهم الأسس التي تقوم عليها نهضة المسلمين هي الفاعلية الثقافية، والتوعية السياسية المستمرة، حتى لا يتفرد الطغاة وأعوانهم بالسلطة، خاصة إذا عرفنا أن السلطة تعني العمل السياسي المستمر وتعني أيضا جميع مصادر القوة والمال والامتيازات المختلفة.
وإذا تم تركها بأيدي الطغاة بحجة أنها عمل ممقوت ولا يليق بمن يفضل الآخرة على الدنيا، فإن الظلم سوف يكون من نصيب الأكثرية الساحقة من الأمة، بعد أن تتركز وسائل القوة وأساليبها في أيدي العاملين الطغاة في السياسة، وهؤلاء من اجل حماية سلطتهم لا يتوانون عن البطش بالفقراء او أكثرية الأمة، وهذا أسلوب خاطئ في الحياة، إذ لابد من أن يهتم الجميع بهذا المضمار ضمانا للاستفادة من دور السياسة لرفع مستوى الناس في جميع المجالات.
إذ يؤكد الإمام الشيرازي قائلا: (من أهم مقومات الفهم السياسي هو: التثقيف والتوعية، وهي إحدى الأسس الرئيسة لنهضة الأمة الإسلامية، وترسيخ مبادئها وتطبيقها على أرض الواقع بشكل تام وصحيح).
اضف تعليق