سؤال في الصميم استطعنا اقتناصه من كتاب (فقه المستقبل للإمام محمد الشيرازي).. طرحنا هذا السؤال بتصرف.. مضمون يقول: هل يتمكن المستقبل من صنع الحاضر.. في هذه النص تظهر إشكالية تربك فحوى السؤال.. فالمستقبل لا يزال مخبوء في مكامن ومدافن الزمن.. والحاضر هو ما نعيشه الآن لحظة بلحظة.. فكيف للباطن أن يُظهر المختبئ أو المختفي أو المضمَر في زوايا المستقبل إذا كان هو نفسه غير ظاهر للعيان؟؟.
إن رؤية المستقبل تنطلق من قاعدة الحاضر.. فأنت عندما تقرر بناء بيت للسكن.. لا شك أن هذا البيت لا يزال في حكم الحلم أو الخيال وليس له وجود في عالَم الحقيقة.. إنه موجود في رأسك فقط أو في خيالك.. ولكن كي يصبح هذا البيت حقيقة تحتاج الى تصميم لخريطة بناء.. ومواد إنشائية كاملة.. وأيدي عاملة.. ومهندس يصمم ويشرف على مراحل البناء ويعطي إرشاداته.. كل هذه الحاجيات لكي تكون تحت يديك فأنت بحاجة الى أموال.. الخطوات نفسها يرسمها ويصممها علماء الأمة كل في مجاله وتخصصه.
سماحة الإمام الشيرازي يقول ما نصه في كتابه (فقه المستقبل): (مواكبة المستقبل تتمّ: عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات، في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً من حيث تكوينه).
هكذا أنت تنطلق في تحضير وتهيئة الواقع لكي تبني بيت المستقبل.. إنك تتكيف الآن في الحاضر لكي تبني المستقبل.. كأن تقتصد في الصرف.. تقلل الإنفاق الشخصي والإنفاق العائلي.. تضع في حسابك بناء بيت المستقبل.. فيصبح حاضرك مبتنيا ومتحركا في ضوء ما يحتاجه أو يتطلبه المستقبل.. كلما كان تصميم المستقبل متميزا كان الحاضر قويا بما يكفي لصناعة ذلك المستقبل الذي سوف ينعكس على الحاضر بشدة.
هكذا يؤثر المستقبل في الحاضر ويطوّره.. أو يدفعه نحو التطور كي يكون منطلقا لبناء مستقبل زاهر.. يقول الإمام الراحل أيضا: (الذين يتطلّعون للمستقبل ويعملون من أجله، يصنعون الحاضر من خلال رؤيتهم الثاقبة لما سيجري في الغد، ومن خلال دفعهم المتواصل للأمة بهذا الاتجاه.. فهم يُطلعون الأمة على ما سيجري في المستقبل، فتتكيّف الأمة على نحو تستطيع امتلاك ناصية المستقبل بإذن الله تعالى).
بُناة المستقبل يحرصون على الفريد والمتميز بما يتقارب مع النهضة العالمية.. هذا الحرص ينبغي أن ينطلق من الحاضر الذي سيكون محصّنا وقويا بما يمكّنه من بناء المستقبل المتميز.. هذا يعني حصرية التصميم لأهداف عظمى.. أي الانشغال بمستقبل يحفل بالأهداف الكبرى مع إعطاء الأولوية للأهم والأكبر ووضع الأقل أهمية والأصغر في درجة أدني من الانشغال.. نقرأ أيضا في (فقه المستقبل): (ورد عن الإمام الحسن المجتبى (ع): اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وفي هذا الحديث الشريف دعوة صريحة للإنسان بأن يسمو ويرتفع دائماً، ويؤثر الأهداف الكبيرة على الأهداف الصغيرة، وهذا لا يعني ـ بالضرورة ـ إهمال الأهداف الصغيرة، بل القيام بها والعمل على تحقيقها، على أن لا تكون لها الأولوية).
بناء قاعدة الحاضر وفق رؤية مستقبلية أمر لا يتخلى عنه البُناة الحريصون.. وهذا يعني استحالة الفصل بين البعدين الزمنيين (الحضار الذي يؤسس ويكوِّن منطلَقا للمستقبل).. ولكن تبقى الأهداف المستقبلية هي الأكبر والأهم والأكثر أرجحية.. ولا يمكن إنجازها إلا ضمن نسق مبرمج يأتي في سلسلة من البرامج التصميمية العملية تكون من صنع المختصين الماهرين (العلماء.. المفكرون.. المبتكرون).. هذه النخب المفكرة هي التي تتصدى لهذه المهام الكبرى.
من دروس الأمم المتقدمة أنها وعن أهمية المستقبل.. لكن وعيها بقي قائما على أساس الاستعداد الدائم للتغيير وانتظار الغد والتفاعل معه والتأثر به وفيه أيضا.
نقرأ في هذا المضمار أقوالا للإمام الراحل السيد محمد الشيرازي.. تتناغم مع هذا المعنى وتحث عليه حيث تنص بعض اقواله على أن (الأهداف الكبيرة تتجلّى في حاجات المستقبل الواسعة، بينما تظهر الأهداف الصغيرة في حاجات الإنسان المؤقتة؛ وصناعة المستقبل تتم عبر البرنامج الذي يضعه الإنسان لتحقيق أهدافه الكبيرة).
ويحث أيضا في هذا المضمار فيقول سماحته (من هنا كان لزاماً على الإنسان أن يكون على استعداد تام لاستقبال الغد والتأثير فيه، والتكيّف معهُ فيما لا يمكن تغييره، وربطه بالحاضر والماضي حتى لا ينقطع المستقبل عن الماضي والحاضر).. لا مفر من ربط البعدين الزمنيين مع بعضهما.. فمن يقول بأهمية فصل الحاضر عن الماضي أو عن المستقبل حتما هو يعاني من خلل ولابد أن تعتور فكره حالة من الزلل البيّن.
ما يمكن أن نعكسه من هذا الرؤية على واقعنا تنطلق من الوضع الراهن للعراق والعراقيين.. وفي رؤية أكثر شمولا تحتوي المسلمين أيضا.. فنحن نعاني من واقع لا يسرّ أحدا منّا.. واقع مرير.. لا يؤسس لمستقبل مرسوم ببراعة.. ما يدل على أننا متقاعسون عن رسم وتصميم رؤية مستقبلية من المهم أن تنعكس على حاضر أقوى وتؤثر فيه أيما تأثير.. هل لمسنا مثل هذا الواقع المتفرد.. هل تدفقت من عقولنا وخيالنا رؤى لبناء المستقبل انطلاقا من حاضر مناسب ومنسجم يصلح لتشييد مستقبل أفضل وأقوى؟.
إن العالم يعيش فورة تقدمية هائلة.. ونحن نعيش في غياهب الركود.. ما هي أسباب ذلك يا ترى.. لماذا العالم من حولنا في حركة متواصلة باحثة عن السؤدد والتميز فيما نحن نعيش فترة سبات يبدة أنها لا تريد أن تنتهي.. من المسؤول عمّا يحدث في واقع العراق وهو الأرض التي أنجبت العظماء والثوار والعقول المتفردة.. ألا يكفي أنها مهبط الأنبياء وثراها يحتضن أئمة أهل البيت الأفذاذ.
العالم يتحرك الى أمام بقوة.. وعلينا أن نتأثر بهذه الحركة.. علينا أن نكون جزءا من حركة هذا العالم.. كعراقيين علينا أن نواكب ما يحدث.. صحيح هذه مهمة البُناة والنخب الفكرية الثقافية الدينية المتميزة.. لكنها أيضا مهمة أمة ومهمة شعب.. ومهمة إنسان عليه أن يستمد رؤية مستقبلية يبني بها حاضره.. وينطلق منها الى مستقبله.. كيف يمكن لنا امتلاك ناصية المستقبل ونحن نمر في دورة خمول وكسل مزمن.. أليس الواجب علينا أن ننظر الى ما يحدث حولنا من قفزات سريعة وحركة موّارة لا تريد أن تتوقف لحظة..
أليس المطلوب حالة من الإقتران بعالمنا.. نتحرك مع حركته.. نتناغم مع وجوده ومزاياه.. يطالبنا سماحة الإمام السيد محمد الشيرازي بسرعة الحركة المرسومة بمهارة.. فيقول (عالمنا اليوم يشهد حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً شديداً، فيجب أن نكيِّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، خصوصاً إذا كان مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا).
اضف تعليق