النظام السياسي المستبد، عكس النظام الاستشاري، فالأول لا يؤمن بتعدد الآراء ووجهات النظر وتنوع أساليب إدارة الدولة، بل يرسم منهجا واحدا لإدارة الدولة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والمجالات الأخرى، هذا المنهج يرسمه ويكتبه ويحدده عقل وفكر واحد، يعود الى القائد المستبد وينبع من رؤيته الأحادية، ومثل هذه الشخصيات الاستبدادية لا تؤمن مطلقا بالمشاركة والاستشارة، انطلاقا من الخزين الأناني الذي تنطوي عليه شخصية الشخص او الحاكم المستبد، لهذا يرفض أن يشاركه الآخرون في إدارة الدولة، باستثناء من يختارهم هو كمعاونين ومقربين منه استنادا الى ولائهم لشخصه وليس للدولة.
الإنسان المستبد قد يكون رئيس دولة وقد يكون رئيس مؤسسة او دائرة صغيرة، بل حتى رب الأسرة هو رئيس أسرته، وهنا لابد من القول أن حالة الاستبداد يمكن أن تظهر لدى رئيس الدولة ورئيس العائلة التي تعد أصغر تكوين اجتماعي أو خلية اجتماعية قد تتكون عدة أفراد وأحيانا من الأب والأم فقط، ومع ذلك تبقى حالة الاستبداد واحدة، مع اختلاف حجم تأثيرها على الناس.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) بكتابه القيّم (فلسفة التأخر)، إذ يقول سماحته حول هذا الموضوع: (لا فرق في استبداد الحكام أو استبداد الأفراد، وإن كان كلما كان الفرد أكبر يكون تأخره عن الواقع بسبب استبداده أكثر والضرر أعظم).
وطالما كانت ظاهرة التأخر قرينة للاستبداد ومرافقة له، بل هي الداعم الأول للحاكم المستبد، حيث يقوم بنشر الجهل بين عامة الشعب، حتى يتسنى له السيطرة عليه والتحكم بمصيره، وتتضاعف قدرته على حماية عرشه في ظل تأخر الأمة، وتراجع أفرادها ونخبها في الوعي والفكر، ومن ثم قبولها للوضع المزري الذي تعيشه في ظل حاكم لا يعترف بالآخرين وآراءهم، وحكومة تقوم بنسف جميع فرص التقدم لأنه لا تخدمها ولا تخدم منهجها المستبد.
لذا يقول الإمام الشيرازي: (ومن فلسفة التأخر، عدم الاستفادة من كل فرصة ولو كانت قليلة، وعدم الاستفادة من كل قطرة ولو كانت مثقال ذرة، على تعبير القرآن الحكيم).
الاستشارة والطريق السليم
من جانب آخر تؤكد جميع التجارب التي تقودها أنظمة استشارية، على أن الحاكم الاستشاري، غالبا ما يحترم وجهات نظر الآخرين ويحترمها ويأخذ بها، ويؤمن بخبرات الكفاءات، ويثق بهم، ويعتمد على جهودهم الفكرية والعملية في بناء الدولة، كذلك يؤمن الحاكم الاستشاري بدور المعارضة وما تقدمه للحاكم من فوائد كبيرة تجعله قادرا على رؤية جميع الأخطاء الخافية عليه، فالرأي الآخر يكون بمثابة المرآة الثانية التي يرى فيها الحاكم الجانب غير المرئي بالنسبة له، وفي هذا الحالة يحصل على مرآتين، واحدة يرى فيها (وجهه) أي أعماله ونشاطاته في إدارة الدولة، ومرآة أخرى يرى فيها ما لا يراه في مرآته الأمامية، والمقصود هنا، الآراء النقدية الرصينة والمخلصة التي يقدمها الآخرون للحاكم وحكومته، فيأخذ بها باعتبارها دليل على تأشير الأخطاء فيقوم بمعالجتها على الفور، على العكس من الحاكم المستبد الذي يرى نفسه وأفعاله فقط ولا يرى أخطاءه لأنه لا يمتلك سوى مرآة واحدة، هي مرآة نفسه وأنانيته ومرآة بطانته والمقربين منه وهذه المجموعة لا يهمها الحاكم بقدر ما تهمها مصالحها، فتلمّع الأوضاع وتجملها للحاكم من خلال الكذب عليه وتضليله حفاظا على مصالحها.
لذلك فإن غوامض الأمور لا يمكن كشفها بمرآة واحدة، إذ لابد من مرآة معاكسة تُظهر للحاكم تلك الأخطاء التي يرتكبها هو وحكومته من دون أن يراها بوضوح، ما يجعل معالجتها أمرا غير ممكن.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه القيم (السبيل الى إنهاض المسلمين) :(إن الاستشارة تعرّف الإنسان على الخطأ والصواب.. وتأخذ بيده إلى الطريق السليم. وقد قال الإمام أمير المؤمنين ع: (وترى قفاك بجمع مرآتين). فالإنسان لا يستطيع أن يرى قفاه بنفسه، ولكنه إذا جمع مرآتين: مرآة أمامه، ومرآة خلفه. فعند ذلك يستطيع أن يرى قفاه.. وهكذا فإن غوامض الأمور لا يمكن إدراكها وفهمها إلا باجتماع الأفكار والعقول) السبيل الى إنهاض المسلمين.
ولعل المشكلة الأكبر تكمن في الظواهر التي ترافق الاستبداد، ومن هذه الصفات والسمات الكسل والاتكال على الغير واللامبالاة وغياب الطموح وغيرها، كلها صفات مساندة للاستبداد، لأنها تشكل بمجموعها منظومة سلوك مهيمنة على عموم المسلمين، الأمر الذي يتطلب مناهضتها والتخلص منها.
إذ نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (يوجد قسم من الناس ينظرون إلى من دونهم فيرون أنفسهم متفوقين، بينما يلزم على الإنسان أن ينظر إلى من فوقه، حتى يصعد ويتقدم).
النظام بين الاستشارة والاستبداد
عند المقارنة بين النظامين (الاستشاري والأحادي)، على مر التاريخ، فإن الباحث سوف يكتشف من دون عناء كبير، أن النظام الاستشاري غالبا ما يكون مدعوما بالنتائج الجيدة التي تصب في صالح الأمة، حيث التقدم والازدهار من أهم المؤشرات والعلامات التي رافقت الأنظمة السياسية الاستشارية في العالم، في حين على العكس من ذلك تماما، فإن نظام الاستبداد يقود الدولة الى الضمور والعزلة، وينشر الجهل والتخلف، ويدمر الاقتصاد، فتكون النتيجة هلاك الحاكم وحكومته.
فتنطبق عليهما أقوالا وحكما كثيرة، وكأنهم مثالا للقول المعروف، من حفرة حفرة لأخيه وقع فيها، فالنظام المستبد بالفعل يحاول أن يدفن شعبه وهو على قيد الحياة من خلال تطويقه بالجوع والحرمان من العلم ومن مقومات الحياة في أبسط أشكالها، مندفعا في ذلك برغبة من الإرث الأناني الذي يتضخم في ذاته، بالإضافة الى ما تقوم به بطانته من دفع نحو الإجراءات الظالمة التي تتمثل بالكبت والقمع ومصادرة الحريات وما شابه.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب في المصدر السابق نفسه: (من الضروري أن يكون التنظيم استشارياً، لا استبدادياً، فالاستشارية ما وضعت على شيء إلا سببت تقدمه وازدهاره، بينما الاستبداد ما وضع على شيء إلا سبب تأخره وانهياره. وقد قال أمير المؤمنين (ع): من استبد برأيه هلك).
ولهذا السبب ينصح الإمام الشيرازي بأن يكون النظام استشاريا بقيادته وقاعدته الجماهيرية أيضا، بمعنى ينبغي أن تكون الاستشارة والنقاش والتشاور قبل اتخاذ أي قرار كان، بمثابة سلوك حياتي يعتمد عليه الجميع في إطلاق أي قرار كان، ولا يصح أن يصدر عن رؤية فردية أو قرار شخصي لا يخضع لمشاركة الآخرين.
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي أن نجاح النظام السياسي يعتمد على إيمانه بمشاركة الجميع في صنع القرار، فضلا عن أهمية أن تكون السلطة نابعة من المصدر الشرعي لها، وهي منح الشعب تفويضا للحاكم عبر الانتخابات كي يكون قائدا له، وفي هذه الحالة سوف يكون الحاكم استشاريا، وينبذ نظامه وحكومته الاستبداد، وينهي أية صلة أو إجراء فردي تعسفي، إنه يرفض الانصياع لقانون (نفذ ثم ناقش) فهو استعلائي أناني فرضه الاستعمار على أنظمة سياسية عميله له.
من هنا يرى الإمام الشيرازي أهمية أن يكون النظام استشاريا، كم نقرأ ذلك في قول سماحته: (يجب أن يكون النظام استشارياً من القمة إلى القاعدة.. أما قانون (نفّذ ثم ناقش) فليس إلا قانون المستعمرين والمستبدين.. وقد رأينا كيف انغمس أصحاب هذا القانون الخاطئ في أوحال التأخر والاستعمار والاستبداد).
اضف تعليق