يعرف القاصي والداني، الصديق والعدو، المؤيِّد والمخالف، الموالي والحيادي، كل هؤلاء وغيرهم يعرفون تمام المعرفة لماذا خرج سبط الرسول الأكرم (ص)، من الحجاز الى العراق وأعلن ثورته على يزيد، ومع ذلك حاول بعضهم، أن يجهِّل نفسه وأعلنوا أنهم لا يعرفون لماذا أعلن الحسين (ع) وقفته ضد الحكم، وقد جاءت مثل هذه المواقف لذر الرماد في العيون وليس لأنهم لا يعرفون أسباب ثورة الإمام عليه السلام ضد يزيد المنحرف.
ما حدا بالإمام الحسين أن يعلن على الملأ أسباب وقفته العظيمة، فالهدف ليس البحث عن السلطة ولا ميولا لحطام الدنيا، وإنما لنشر معالم دين الله، ونشر الإصلاح في بلاد بدأ حكامها باستغلال السلطة وانحرفوا بالإسلام حتى بات تصحيح الأمور هدفا لا مفرّ من تحقيقه لاسيما أن الأمن فّقد في البلاد الإسلامية وساد الظلم، فضلا عن تثبيت العمل بفرائض الإسلام وأحكامه، هذه الأسباب أعلنها الإمام الحسين (ع) بنفسه لتصل منذ ذلك العهد الى الجميع حتى تكون الأمور واضحة ولا يختلط الحابل بالنابل.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيم الموسوم بـ (الحسين مصباح الهدى): (لقد علّل الإمام الحسين (عليه السلام) ثورته الخالدة بقوله: اللّهمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ انّهُ لَمْ يَكُنْ ما كانَ مِنّا تَنافُساً في سُلْطان وَلا التماساً مِنْ فُضول الحُطام ولكنْ لِنُرِيَ المَعالِم مِنْ دينِكَ ونُظْهِرَ الإصلاحَ في بِلادِكَ ويَأمَنَ المَظْلومونَ مِنْ عِبادِكَ وَيُعْمَلُ بِفَرائِضِكَ وَأحْكامِكَ).
وفي ذات الوقت أكد الحديث النبوي الشريف أن الإمام الحسين هو مصباح المسلم الذي قد يتوه عن سبيل الصواب لأي سبب كان، كما هو الأمر مع الشخصيات الثائرة، فالثائر هو النموذج الأرقى لصناعة السلوك الأجمل والأفضل، فثمة بحار مظلمة، ومسالك شائكة في معترك الحياة الزاخر بأنواع الصراعات وأشدها بأسا وخداعا، لذلك لا خلاص من تلك الظلمات الهائلة والمخيفة والمضللة سوى أن يكون لديك المصباح الذي يقودك نحو الخلاص.
وهذا المصباح هو الإمام الحسين كما نقرأ في كتاب الإمام الشيرازي نفسه: (قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الحسين مصباحُ الهُدى وسفينة النجاة) يصوّر الحديث الشريف لنا الدنيا بأروع ما يمكن ليقربنا إلى واقع الدنيا وحقيقتها، فيشبّهها بلجج البحار المظلمة، التي لا سبيل للنجاة من لججها إلاّ بالسفينة، ولا طريق للخلاص من ظلماتها إلاّ بالمصباح، وهو تشبيه رائع).
أهل البيت نجوم في سماء الهداية
الثائرون العظماء، أولئك الذين تجلّهم البشرية عبر رحلتها الشاقة وخلّدتهم في ضميرها، وفي المقدمة منهم الإمام الثائر سيد شهداء الجنة الحسين (ع)، بالإضافة الى كونهم فنارات عالية تضيء السبيل أمام الحيارى، فإنهم يحلون بالارادة الفولاذية لمواجهة الطغاة وقهرهم، فقد كان يزيد في قمة غروره واستهتاره بأمته وبالدين الإسلامي، لدرجة أنه لم يكن يرى إلا نفسه وشهواته وسلطته، فكان له إمام البطولة والفداء بالمرصاد ووضع حدا لانحرافه.
وكان بذلك مصباح الهداية لمن حاول يزيد أن يضللهم ويذهب بهم مذاهب الشر والخديعة، لذلك كانت الإرادة الإلهية قد جعلت من الإمام الحسين نبراسا للجميع.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله بكتابه المذكور نفسه: (يا ترى مَن هذا الذي يستطيع أن يكون المصباح لهداية الإنسان في الدنيا، والسفينة لإنقاذه من لججها وغمراتها؟ انه لا يمكن أن يكون إلاّ مَن نصّ عليه الوحي ودلّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله).
وهذا هو سبيل أئمة أهل البيت جميعا، لقد وقفوا جميعا بالمرصاد للظلم، ولم يكن منهم من يحابي الحاكم الظالم، أو يجاري الحاكم المستبد، ولهذا نجد في سيرتهم الحافلة بالكفاح العظيم أنهم ينالون الشهادة، غدرا بالسم، أو الحبس في غياهب السجون، أو العزل القسري عن الناس، أو النفي والتشريد والمطاردة، ولكن بالنتيجة لا يصح إلا الصحيح، ويسقط الطغاة، وتظهر الحقائق للجميع ويهتدي من كان في ريب من الأمر، فصار بذلك جميع أئمة أهل البيت نجوما في سماء الهداية لكل من كان متذبذبا في إيمانه متخبطا في دهاليز الظلام.
لذا نقرأ للإمام الشيرازي في الكتاب نفسه: إن (الإمام الحسين أحد المعصومين (عليهم السلام) الذين كلهم سُفُن النجاة ومصابيح الهدى، فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أهل بيتي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم).
مصباح الهداية وسفينة الإنقاذ
لا شك أن الناس يعيشون في حالة من البحث الدائم عن حقائق الإيمان، وعن الشواهد التي تثبت تلك الحقائق في قلوبهم ونفوسهم وعقولهم، ألم يبحث الأنبياء (وهم أنبياء الله) عن الأدلة التي تزيد من ايمانهم، كما نلاحظ ذلك في النص القرآني: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)، نعم حتى الأنبياء أو بعضهم كانوا بحاجة الى شواهد وأدلة تضاعف من ثباتهم وتدحض حجج المناوئين لهم.
لذلك يبقى الانسان بحاجة دائمة الى مصباح منير، يضيء له طريق الحق، ويطرد عنه آفة الظلام التي تحاول أن تعشش في القلوب الضعيفة والنفوس الحائرة والعقول غير المستقرة على موقف، وهو أمر عانى منه الإنسان ولا يزال، ولعل هذه المعادلة تختصر جوهر الصراع بين الشك والايمان، وبين الكفر والإيمان، ومثلما يحتاج الانسان الى النور، سيكون بحاجة الى السفينة التي يقطع فيها بحار الشكوك، فمن ذا الذي يمكن أن يمنحه ذلك سوى النموذج الثائر العظيم من أمثال الإمام الحسين (ع) وهو أصلا وفقا للحديث النبوي الشريف (مصباح الهدى وسفينة النجاة)؟.
تأييدا وتثبيتا لهذا المنحى، نقرأ قولا للإمام الشيرازي حول هذا الموضوع بكتابه المذكور نفسه: (إن الإنسان في الدنيا بحاجة إلى المصباح المنير ليرى به الطريق، وإلاّ ضاع في ظلمات الجهل والمرض والفقر، ووقع في المهاوي.. كما أن الإنسان بحاجة إلى السفينة لتحفظه من الغرق والهلاك في لجج الدنيا المتلاطمة وتوصله إلى ساحل السعادة بأمان وسلام).
فكم يا تُرى يحتاج المسلمون الى الثائر النموذج، ومعرفة اسباب الثورة التي أعلنها على الظلم كما هو الحال مع ثورة الإمام الحسين (ع)، بل كم تحتاج البشرية كلها الى من ينتشلها من حالة التيه التي تضيع فيها، وهو تغوص في اتون الحروب والصراعات والفتن التي تأكل الأخضر واليابس، فتطول الفقراء فيما الأقوياء يحميهم سلطانهم ونفوذهم وطغيانهم، فمن يا ترى للضعفاء؟، لاسيما أن البشرية لا تزال حتى اللحظة تتخبط في مخاض عسير يفتقر للعدالة والإنصاف والمساواة وكل القيم التي تحافظ على كرامة الإنسان.
إن البشرية كلها تعاني من الظلم والظلام الذي يحيط بها، وتغرق في فوضى الحروب والفتن والصراع، وهو أمر نعيشه الآن لحظة بلحظة وكان الإمام الشيرازي قد استشرف حدوثه قبل عقود وعقود، لذا ليس أمامنا إلّا التمسك بمصباح الهدى وسفينة النجاة، وأئمتنا المعصومين هم مصابيحنا وسفننا نحو الخلاص المرتقّب.
كما يؤكد سماحة الإمام الشيرازي في قوله: (البشريّة إذ تعيش اليوم في ظلام دامس من الجهل وتغرق في لُجج من الفوضى والاضطراب والقلق لا علاج لها ـ إذا أرادت النجاة ـ إلاّ بالاستضاءة بأنوار هؤلاء الأطهار، وركوب سفينتهم).
اضف تعليق