لم تتقدم الأمم ولم تركب مركب الارتقاء، لو لا أنها اتخذت من الثقافة سفينة تصل بتلك الأمم الى مرفأ التطور والازدهار، لأنه لا شيء أكثر ضمانة من تغيير الفرد نحو الأفضل من مركب الثقافة، فهي الطريق الأقصر والأسلم والأدق في الوصول الى بناء إنسان واعٍ متطور وكل هذه الصفات ترتكز على ركيزة مهمة وقوية هي الإيمان، وتعلو بشأن الأمة وتجعلها أكثر توازنا وأفضل رؤية.
وقد لخّصَ الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، دور الثقافة في تغيير الإنسان من حال أسوأ الى حال أفضل، بكلمات دقيقة وواضحة وبالغة التأثير عندما قال سماحته في كتابه القيم الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين)، حينما عرّف سماحته الثقافة قائلا عنها بالحرف الواحد: (إن الثقافة هي التي تغير مسيرة الإنسان إلى الأحسن أو الأسوأ).
ولكي يدعم الإمام الشيرازي رؤيته هذه بالأمثلة المأخوذة من بطون التاريخ ومن التجارب التي دوّنتها صفحات التاريخ المشرق للإسلام، ولابد أن نقدّم هنا كامل القصة التي أوردها الإمام الشيرازي في كتابه المذكور، لكونها من أكثر القصص تأثيرا في النفوس والعقول، لما تنطوي عليه من درجة عالية للصدق وقوة التأثير في الإنسان، كما أنها تثبت بما لا يقبل الشك قدرة الثقافة على تغيير الإنسان من الأسوأ الى الأفضل بصورة حاسمة.
ونذكر هنا المثال والقصة الكاملة التي أوردها الإمام الشيرازي في كتابه (السبيل الى إنهاض المسلمين) حيث تقول هذه القصة:
(الفضيل بن عياض سارق معروف، وقاطع للطريق وله عصابة قوية مرهوبة الجانب مشتهرة بالفساد، إضافة إلى اللصوصية والسرقة، وكانوا إذا دخلوا قرية من القرى نهبوا الأموال وهتكوا الأعراض وقتلوا من يقف أمامهم، وساعدهم على هذا ضعف الحكومة وعدم اهتمامها بشؤون رعاياها..
ذات مرّة شاهد الفضيل فتاة قرب إحدى القرى، خاطبها بلهجة الأمر: أخبري أباك إنني سآتي الليلة وأحل ضيفاً عليكم وعليه أن يهيئك لي.. ارتعدت الفتاة خوفاً من مصيرها المظلم، وجاءت وأخبرت عائلتها، أخذ الأب والأم وكل العائلة بالبكاء والنحيب، ولكن لا مفر لهم، فهم مضطرون للاستجابة إلى الفضيل لأنه بالإضافة إلى هتكه عرضهم بالقوة سيقتلهم أيضاً.
وفي ظلام الليل البهيم، اقترب الفضيل من القرية والعائلة ساهرة باكية متضرعة إلى الله كي ينجيهم من هذا الطاغي.. وتسلّق الفضيل الجدار، وإذا به يسمع صوتاً شجياً يقرأ القرآن ويترنم بآيات تدوي في فضاء الليل الساكن، استمع الفضيل فتناهت إلى سمعه الآية التالية: أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ (سورة الحديد 16..
آن لي أن يخشع قلبي
ارتجف الفضيل بشدة وهو يستمع إلى هذه الآية، لقد نفذت الآية المباركة إلى أعماق قلبه وهزته، بدا وكأن صاعقة قد سقطت عليه، اضطرب قلبه وجرت دموعه على خديه، وهو يتذكر ماضيه الأسود، قال لنفسه: (نعم آن لي أن يخشع قلبي لذكر الله) ولعلّ الله قد استجاب دعاء تلك العائلة التي تضرّعت إليه.
وتاب الفضيل إلى الله توبةً نصوحاً وهو على السطح، ومن هناك خاطب أهل الدار: يا أهل الدار: أنا الفضيل، ولقد تبت إلى الله، وأنا أعتذر إليكم حيث إنني أرعبتكم وأخفتكم، ثم خرج من الدار هائماً على وجهه في نصف الليل حتى وصل إلى خربة فنزل فيها ينتظر الصباح ليرجع إلى المدينة، ويظهر توبته للناس، وبينما هو غارق في بحار التفكير في الخربة، إذا به يسمع صوت شخص يتحدث إلى آخر قائلاً: من الأفضل أن لا تتحرك قافلتنا في هذا الوقت من الليل، فلربما قطع الفضيل وعصابته علينا الطريق.
فأجابه آخر: إننا أقوياء مسلحون جيداً، وإذا تعرّض لنا الفضيل وعصابته فإننا سنضطرهم للفرار.
وهنا صاح فيهم الفضيل: أيتها القافلة سيري بسلام فقد تاب الفضيل وها أنا هو لاخوف عليكم منه، ولكن القافلة لم تصدق أن هذا هو الفضيل.. اقترب الفضيل من القافلة وهو يبكي وينتحب وينثر التراب على رأسه، وعندما رأته القافلة عرفته. ومنذ ذلك الوقت تحوّل الفضيل إلى عابد زاهد، حتى أخذ يُضرب به المثل في العبادة والزهد والفضيلة والتقوى.
ما الذي قَلَب هذا الرجل وغيره جذرياً؟ أهي (الشرطة) أم القانون أم المال أم الزوجة..؟ كلا إن الثقافة القرآنية هي التي غيرته إلى فرد صالح، وجعلته من الشخصيات البارزة في التاريخ، نعم.. إن للثقافة هذا الدور البارز).
وهكذا فإن كثيرا من المجرمين العتاة لم يتمكن القانون من إعادتهم الى جادة الصواب، ولم تستطع السجون تأديبهم، بل حتى المقصلة التي تفصل رؤوسهم عن أجسادهم عجزت عن تغيير مسارهم من الجريمة الى صواب التفكير والسلوك، ولكن عندما تدخلتْ الكلمة والثقافة، وقدّمت المعنى الذي يستطيع أن يهزّ أقسى القلوب ويجعله قلبا خاشعا، عند ذاك سوف يتغير عتاة المجرمين القساة الى أناس يحتكمون الى العدل وحسن الأخلاق والسلوك.
كما حدث تماما مع (الفضيل) الذي كان في طريقة لارتكاب أبشع جريمة، لا يرتكبها إلا المجرمون الجهلة الظالمين، لكنه عندما فوجئ بالكلمة (المثقفة) الراقية التي تنضح بالإنسانية والرحمة والعدل والخشوع، فإن ذلك القلب القاسي كالحجر (قلب الفضيل)، ذلك القلب الذي كان يدفع بصاحبه الى هتك الأعراض وحزّ الرقاب بدم بارد، من دون أن يرتجف أو يتردد لحظة واحدة، استطاعت الثقافة أن تجعل منه قلبا خاشعا مؤمنا ومثقفا في الوقت نفسه.
الثقافة وتهذيب النفوس
لا شك أن ما يقصده الإمام الشيرازي في قوله، إن الثقافة هي التي تغير مسيرة الإنسان إلى الأحسن أو الأسوأ، هو قدرة الثقافة على تغيير طريقة تفكير الناس، وبالتالي إمكانية تغيير سلوكهم وجعله سلوكا مدنيا إنسانيا متحضّراً، ويتم ذلك من خلال تدخل الثقافة في تشذيب النفوس من الشوائب وجعلها أكثر نقاءً وأكثر قدرة على الإيمان بمبدأ (نكران الذات)، لهذا لابد للنخب والجهات المعنية أن تفهم القدرة الكبيرة للثقافة على تحسين تفكير وسلوك الفرد، ما ينعكس على المجتمع كله.
ولهذا السبب يؤكد الإمام الشيرازي على أهمية الاهتمام بتثقيف الشباب، والمرأة، وعموم شرائح المجتمع، كون الثقافة تبقى النافذة الأوسع التي تطل منها الأمة على المستقبل الزاهر، وهذا يستدعي أن تبادر الجهات المدنية والرسمية الى اتخاذ تدابير وخطوات تصب في دعم الثقافة الفردية والجماعية على حد سواء، ومن هذه الخطوات والتدابير:
- جعل الثقافة حق من الحقوق الأساسية للفرد والمجتمع.
- الإيمان بقدرة الثقافة على التغيير كما أثبت ذلك الإمام الشيرازي.
- أن يتم التركيز على الثقافة القرآنية والاستفادة منها بأقصى حد ممكن.
- أن تشترك المؤسسات العلمية والجامعية في تحقيق هذا الهدف الجوهري.
- ولا شك أن الحوزات العلمية لها تأثيرها في نشر هذه الثقافة القادرة على نقل الفرد والمجتمع من حال أسوأ الى حال أفضل.
- السعي لنشر الثقافة والتحضّر في مراحل مبكرة من عمر الانسان.
- التركيز على الأفكار الثقافية المتوازنة، كثقافة التعايش ونبذ التطرف وتعضيد السلم الأهلي.
- نشر ثقافة المنهج التعددي في حياة الناس منذ الطفولة، وفي ميادين العمل كالمدارس والمنظمات والدوائر الرسمية.
- الإيمان بقدرة الثقافة على تحقيق ما تعجز عن تحقيقه الوسائل الإجبارية لتحسين أداء الفرد والمجتمع.
اضف تعليق