كم يحتاج الإنسان من جهود فردية وجمعية لمضاعفة قيم الخير على قيم الشر؟ ثم لماذا تندفع البشرية في هذا الاتجاه، ونعني به خلق فرص التفوق لقيم ومعايير الخير على قيم ومعايير الشر، وبعد هذا كله ما هي السبل والطرائق التي يمكن أن تُسهم في تحقيق الانتصار الحاسم لقيم الخير على قيم الشر؟.
بطبيعة الحال تحتاج البشرية الى جهود فكرية معنوية مادية كبيرة متميزة ومضنية لمضاعفة قيم الخير لسبب واضح، أن قيم الشر تكاد تتكافأ مع قيم الخير من حيث الكم والنوع، وفي بعض الاحوال تتفوق عليها، خاصة اذا عرفنا أن معظم الجهات والشخصيات التي تتحكم بالسلطة لا تصطف الى جانب قيم الخير، لأن الأخيرة تقوم على قيم العدل والانصاف، والسلطة من اجل تضخيمها وتكريسها تتضارب مع قيم الخير إلا في حالة حركة السلطة في إطار الضوابط الدستورية بشكل دقيق وهذا صعب التحقق حتى في اكثر الدول ديمقراطية.
لهذا يتم نسف قيم الخير، كما فعلت سلطة يزيد، فخرج الامام الحسين (ع) سبط الرسول الكريم (ص)، كي يقوّم هذا الانحراف الهائل في مسار الإسلام، فحدث ذلك التصادم القطعي بين قيم الخير وقيم الشر، وتكونت للبشرية قيم عاشوراء العظيمة التي انتصرت على يزيد ومساره المنحرف والمؤازر للشر، لذلك كانت وستبقى قيم عاشوراء هِبة ربانية ليس للمسلمين وحدهم، وإنما للإنسان أينما كان حتى يوظفها في معركته الأزلية ضد للشر.
يقول الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيم الموسوم بـ (الاستفادة من عاشوراء): إن (عاشوراء موسمُ العطاء الرباني، موسم الفضيلة والتقوى والأخلاق، موسم العلم والمعرفة، ورمز لانتصار مبادىء الحق على جيوش الضلال.. وإذا كان عطاؤه قد بلَغَ (غاندي) محرِّر الهند الذي تعلمَ من الحسين (عليه السلام) كيف يكون مظلوماً لينتصر، فإنّ المسلمين عامة وشيعة الإمام (عليه السلام) خاصة أولى بهذا العطاء).
ان هذه المناسبة العظيمة يمكن أن يتم توظيف قيمها لصالح الانسان، ويمكن أن يحدث العكس، خاصة اذا تدخلت السلطة في هذه الأمر وحاولت أن تصنع من هذا المناسبة مبررا للتجاوز على حرية وحرمة الناس وعقائدهم.
كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي: (عشرة عاشوراء كالمطر، فقد يحوّل العصاة والطغاة هذه المناسبة الدينية إلى نقيض أهدافها المثالية، وذلك حينما تُستغل لقتل الناس الأبرياء وحرق المساجد والحسينيات والمؤسسات والاعتداء على المواكب العزائية وتكريس الفرقة والاختلاف، كما تفعله بعض الجماعات في بعض الدول الإسلامية(8) تنفيذاً لمخطط الاستعمار).
التاريخ يعيد نفسه
لهذا على المسلمين أن يحذروا من الحكام الطغاة، ومن التنظيمات الاجرامية المتطرفة، المصنوعة تحت تأثير الفكر المريض المتطرف، هؤلاء الطغاة غالبا ما نجد تقاربا وتعاونا بينهم وبين الفكر المتطرف، وهذا يقود الى تعاونهم مع المنظمات المتطرفة، وكلاهما يعملان بالضد من قيم الخير، فيسعون بكل ما يمتلكونه من قوة الى تدمير القيم المعادية لهم، ونعني بها قيم عاشوراء الانسانية، ولعل ما نلاحظه من تفجيرات انتحارية تستهدف المواكب الحسينية والزوار من أبرز الأدلة على هذا السلوك الاجرامي المتطرف.
لذا سوف يبقى المتطرفون على توافق مع الحكومات المستبدة، يعملون معا على وأد قيم الخير أينما كانت، وهذا يحتم على الأخيار أن يقفوا الى جانب قيم عاشوراء في كل مكان وزمان والى جانب كل قيم الخير في العالم، للقضاء على مخططات الجبابرة.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الإطار: (إن السلوك العملي للجبابرة والطواغيت لا يختلف، وإن تعدّدت أسماءهم، وتفاوتت أزمانهم، واختلفت خارطتهم الجغرافية، فإنّ الكفر ملّة واحدة والتاريخ يُعيد نفسه. فسياستهم مبنية على العداء لرسالات السماء ومحو الأخلاق والفضيلة في المجتمع وتكبيل الحريات والحظر للشعائر والمقدّسات).
كذلك يمكننا معرفة الأسباب التي تقف وراء ذلك العداء التاريخ للحكام الطغاة ضد كربلاء القيم والمجد، فهناك تناقض دائم بين الاثنين، الطغيان يرفض القيم التي تنتصر للانسان، وكربلاء وقيم عاشوراء، والسبب هو منظومة القيم الحسينية الانسانية الرافضة للظلم والطغيان بكل أشكاله، ما يستوجب مؤازرة هذه القيم ودعمها للاطاحة بقيم الشر في العالم أجمع.
يقول الإمام الراحل حول هذا الموضوع: (دأب كل جبار متكبّر لمحاربة كربلاء ومقدساتها وشعائرها وبشتّى الوسائل والطرق لأنها تكشف زيفهم وانحرافهم ودجلهم (يُريدون أنْ يطفئوا نورَ الله بِأفْواهِهِمْ ويأبَى اللهُ إلاّ أنْ يُتِمَّ نُورَه ولو كره الكافرون) (سورة التوبة).
لهذا ستبقى حالة الصراع قائمة بين كل أشكال الظلم والطغيان، وبين عاشوراء وقيم الخير التي لن تسمح للشر أن يتحكم بمصائر المسلمين ويرفض انقياد العالم لإرادة الشر والظلم.
كربلاء حيّة نقية
ونحن نقترب من لحظة استشهاد الثائر العظيم، سيد الشهداء، ابو عبد الله الحسين (ع) في أرض كربلاء، ونحن نعيش هذه الذكرى بكل تفاصيلها ومعطياتها، لابد لكل من يصطف الى جانب الخير أن يدعم كربلاء المقدسة ويسهم بأي مقدار عليه في دعم الشعائر التي تقوّي قيم الخير ضد القيم المسيئة للانسان.
إن كربلاء المقدسة التي دارت على ثراها وقائع الطف، وتفاصيل المعركة التاريخية الكبرى بين قيم الخير وقيم الشر، تستحق من جميع الأخيار الأشراف في العالم أجمع، كل الدعم المعنوي والمادي، انتصارا على الظلم وأصحابه، وعلينا أن نستثمر هذا الضوء الإنساني العظيم بأقصى ما يمكن، لاسيما في أيام عاشوراء التي نعيش ذكراها في هذه الأيام المتضمنة في ثناياها لتلك القيم العظيمة التي هزّت عروش الجبابرة وأسقطتهم في وحل أفعالهم الشائنة، وأسهمت وتبقى تسهم في صنع السعادة لمن يسعى إليها ويبحث عنها من الناس، لاسيما أن السعادة مطلب البشرية كلها.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إن الواجب علينا إن أردنا الله واليومَ الآخر أن نصبّ اهتمامنا لإحياء كربلاء وبقية العتبات المقدسة مادياً ومعنوياً، وأن نكثر الاستفادة من هذا السراج الوهاج، الذي ينير الدربَ لكل من يطلب السعادة في الدنيا، والفوز بالجنّة في الآخرة فـ(الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة) وعاشوراء أهم موسم لتحقيق كل ذلك).
إن رحى الصراع الأزلي الدائر بين الخير والشر، جعل من كربلاء المقدسة، والقيم التي رفعها لواء الثورة الإسلامية الإنسانية العظيمة لأبي الأحرار الحسين (ع)، منارا مشعّا تهتدي به البشرية في عموم العالم، وستبقى كربلاء المجد، وقيم عاشوراء، منبعا للفضيلة، ومصنعا معنويا وأخلاقيا أزليا لدعم قيم الخير ومؤازرتها وضرب الشر ورموزه أينما كانوا، كما أصبحت كربلاء وجهة للأحرار في عموم العالم.
فضلا عن تعلّم الشعوب المستضعفة قيم الصمود والمواجهة في رحاب الحسين (ع) وقيم عاشوراء، وصمود كربلاء الكبرياء والمجد بوجه جميع الأشرار، وظلت كما هي دائما مدرسة لأصحاب العلم وحملته والمبلغين لقيم الخير في عموم العالم، لدحر الشر وأهله وطغاته أينما كانوا.
كما يشهد بذلك الامام الشيرازي في قوله القيّم: (بقيت كربلاء حيّة نقية، مصدراً للإشعاع الديني والفكري، ومنبعاً للأخلاق والفضيلة والحركة وبقيت كربلاء نبراساً للمجاهدين والأحرار، وسراجاً للأمم والشعوب، ومدرسة لتربية العلماء والمبلّغين وحملة الأقلام، منذ استشهاد الإمام (عليه السلام) وإلى يومنا هذا وإلى يوم ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
اضف تعليق