منذ الإشارات الأولى لقيام الرسالة النبوية، كان الصبر والحكمة من أهم السبل الأساسية التي تقوم عليها هذه الرسالة، وكان منهج اللين واللاعنف طريقا واضحا يسير عليه الاسلام لتحقيق أهدافه، فلا قوة ولا عنف ولا تصادم، وإنما هناك منهج بالغ الوضوح يسير عليه الفكر الاسلامي، ألا وهو منهج اللين وطريق السلم والجنوح إليه بشكل دائم.
لقد كانت هناك خطوط عريضة ومنهج واضح يسير عليه المسلمون لكي يصلوا الى اهدافهم، في تغيير المجتمع، وتحويله من حالة الركود والتخلف الى حالة الحركة والتقدم عبر إيصال جوهر الرسالة الاسلامية إليه، بعيدا عن العنف، وانما بأقصى ما يمكن من سبل اللين، لهذا السبب هنالك الكثير من شخصيات التاريخ القيادية المهمة، تعلمت من منهج الرسول الأكرم (ص) وسارت على خطاه وحذت حذوه.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) الذي يرد في كتابه القيم، الموسوم بـ (اللاعنف في الاسلام)، حيث يقول سماحته: (الجدير بالذكر إنّ الكثير من شخصيات التاريخ تعلموا من منهجية الرسول – ص- على غرار غاندي ومانديلا وغيرهما. ومن جانب آخر فقد جنح الأئمّة الأطهار-ع- إلى السلم واللاعنف في جميع أحوالهم إلى أن آلت النوبة إلى الإمام المهدي -عجّل الله فرجه الشريف-فغاب عن الظالمين، وأمّا البقية منهم-ع- فقد بقوا حتّى قتّلوا إمّا بالسيف قسراً أو بالسمّ).
ومن الامور التي لا سبيل الى إنكارها أن المنهج النبوي الاسلامي في اعتماد اللين واللاعنف، قد حقق نتائج مذهلة في نطاق تسريع نشر الرسالة، وكسب المؤيدين بأضعاف مضاعفة، وتذليل عقبات المعارضين والحاقدين، من خلال عدم التصادم معهم وانما اللجوء الى مبدأ اللاعنف في التعاطي معهم، حيث يقول الامام الشيرازي في الكتاب الذكور نفسه:
(يبقى القول بأنّ البشر اليوم هم نفس البشر، وزماننا الراهن هو نفس الزمان بالنسبة إلى ضرورة تطبيق القوانين الإسلامية، فإذا أردنا إنهاض المسلمين وهداية غيرهم احتجنا إلى نفس منهج اللاعنف الذي ورد في بعض الروايات نصّاً، تارةً وأخرى بلفظ السلم والرفق واللين ونحوها في جملة من الروايات الأُخر).
قانون اللين واللاعنف
هل هو قانون بالفعل، هل هو منهج؟؟ الجوب نعم انه قانون ومنهج، سار عليه الرسول (ص) في نشر وتثبيت الرسالة النبوية والفكر الاسلامي الجديد، ونجح في ذلك نجاحا مذهلا، وكان منهج اللين واللاعنف من أهم السبل والطرائق التي اعتمدها قائد المسلمين الأعلى لتحقيق أهدافه المهمة والكبيرة من دون مصاعب أو تعقيدات.
ومن الامور الحاسمة التي ساعت الرسول الكريم (ص) ووقفت الى جانبه في اعتماد هذا المنهج، تلك النصوص القرآنية التي دعت الى السلم والى اللين، والابتعاد عن العنف والغلظة والخشونة والتصادم في التعامل مع الآخرين، ومن أهم الاساليب عدم اكراه الناس، (فلا اكراه في الدين)، والكل كان يعيش بأمان في ربوع الدولة الاسلامية.
لذا حقق قانون اللين واللاعنف ناجحا منقطع النظير على الارض، وتم نشر الفكر الاسلامي بسرعة بين اوساط مجتمع الجزيرة آنذاك، فالناس تتعامل مع القادم الجديد من الفكر الاسلامي بفطرتها، وطالما أن اللين منهج الاسلام فقد حقق ذلك قفزة في الاقناع والقبول.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إنّ الإسلام الذي جاء به رسول الإنسانية – ص- وقدّمه ذلك التقدّم الملحوظ حمل بين طيّاته عدّة قوانين مهمّة عملت على نشره في شتّى أرجاء العالم الأكبر .ومن أشهر هذه القوانين المهمّة التي كان لها دورا حاسما في تقدّم المسلمين ونجاحهم في مختلف الميادين هو قانون: اللين واللاّعنف الذي أكّدت عليه الآيات المباركة فضلا عن الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت –ع-).
وتأكيدا لمنهج السلم والابتعاد عن العنف، أكدت الآيات القرآنية على على أهمية العفو وعدم رد الاساءة بمثلها، وانما يكون من حق المعتدى عليه ان يرد بالمثل، والأفضل أن يعفو ويتجاوز رد الاساءة، وهذا المنهج اشاع اجواء السلام ونشر مبدأ اللين وانتعشت اجواء المحبة والتعاون والسلام بين الناس، وتحقق الجوهر الفكري المسالم للمنهج النبوي.
وهذا هو الهدف الأول الذي سعى إليه الاسلام، حتى مع المعارضين والاعداء للفكر الاسمي الجديد الذي يتبنى مسارات جديدة وعقائد مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في المجتمع قبل اعلان الرسالة وفحواها الاسلامي، وبالفعل لم ترضَ قريش بالفكر الجديد والدين الذي يريد أن ينسف دينهم وعقائدهم و (اصنامهم) من الجذور، ووجدوا في ذلك تحديا خطيرا لحياتهم، فواجهوا الدين الجديد بكل ما يملكون من قوة، ولكن النبي (ص) تعامل وفق منهج الصبر والحكمة واعتمد منهج اللين وعدم التصادم، فحقق نجاحا كبيرا لصالح نشر الاسلام.
وقد جاء في كتاب الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (لا يخفى أنّ الآيات الداعية إلى العفو وعدم ردّ الإساءة بمثلها هي في نفس الوقت تدعو إلى اللاّعنف، فليس العفو إلاّ ضرب من ضروب اللاّعنف أو مصداق من مصاديقه البارزة. قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).
السلام شعار الإسلام
من علامات المجتمع آنذاك في الجزيرة، حالة الغزوات المتبادلة بين القبائل والأقوام، فلا يمر يوم من دون حدوث حروب وقتال من هذا النوع، وكان القوي يأخذ الضعيف ويتجاوز على حقوقه، بالمختصر المفيد كان هذا المجتمع يعيش في غابة، على الرغم من وجود اعراف وعادات، ولكن كان منطق القوة هو الحاكم.
لذلك عندما جاء الاسلام، أهم جانب أكد عليه هو نشر السلم واعتماده كمنهج في حياة الناس، واحترام حرمة الانسان، والمحافظة على حرية الرأي، فالانسان لا يجب أن يُجبر على الايمان بقول او فكر او عمل ما هو غير مقتنع به، الاسلام جاء داعيا الى القناعة والقبول والاحترام، تحت خيمة السلم والسلام.
اذ يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (هناك مصداق آخر للاّعنف الذي يؤكّد عليه الإسلام العزيز وهو السلم والسلام، حيث إنّ الإسلام هو دين السلم وشعاره السلام ..فبعد أن كان الجاهليون مولعين في الحروب وسفك الدماء جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام ونبذ الحروب والمشاحنات التي لا ينجم عنها سوى الدمار والفساد).
ومن الامور التي سادت آنذاك في المجتمع الاسلامي، هو تفضيل السلم على كافة اشكال الحروب والقتال مهما كانت الاسباب، فلا وجوب للحروب، فقط اذا جاءت دفاعا عن النفس، اما كونها حالة اعتداء على الآخر فهذا مرفوض جملة وتفيلا في عرف الاسلام ومنهجه.
إن منهج الاسلام الجديد هو السلم والسلام، والكف عن القتال، وعدم الاكراه، والابتعاد عن العنف، ونشر منهج اللين والتعاون، ونشر سياسة العفو، وتعميم حالة الجنوح المستمر نحو السلم، فسادت في عهد النبي (ص) على الرغم من اجراءات وخطوات تثبيت الاسلام، سادت اجواء تعاون جديدة تقوم على التقارب والتكاتف المتبادل، في ظل منهج جديد هو منهج اللاعنف واللين للاسلام.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي قائلا: (على هذا الأثر فإنّ آيات الذكر جاءت لتؤكّد على مسألة السلم والسلام، فقد قال عزّ من قائل مخاطباً عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).
اضف تعليق