من الأمور اللافتة للنظر أن السياسيين في الدول المتأخرة، لم يبذلوا ما يكفي من الفكر والجهد والإرادة والتصميم كي يستفيدوا من الفرص التي تتاح لهم، من أجل تطوير بلدانهم ومجتمعاتهم، علما أن الدعاة والمصلحين وأصحاب المعرفة والثقافة والخطاب السياسي والفلسفي الانساني، لم يدّخروا جهدا في تقديم الأفكار والخطط التي تعد بمثابة فرص ذهبية، يمكن للقادة السياسيين في الدول المتأخرة أن يرتقوا من خلالها بشعوبهم ودولهم فيما لو انتهزوا تلك الفرص كما يجب، ولكن للأسف معظم هؤلاء كما نقرأ في تجارب التاريخية السياسية- أضاعوا تلك الفرص، وضيّعوا على بلدانهم مراتبَ عليا في طريق التطور.
لماذا يتعمَّد أو يهمل بعض القادة والعاملين في السياسة إضاعة الفرص؟ ما هو السبب الذي يقف وراء ذلك، معظم المعنيين أكدوا أن (الجهل)، جهل العاملين في السياسة هو الذي قادهم الى فقدان تلك الفرص فضلا عن حالة اللامبالاة التي تكسو بصائرهم، والمشكلة أن نتائج هذا الاهمال وتضييع الفرص المتعمَّد وسواه، سيلحق الأذى بالدولة برمتها، ويؤذي الشعب أذى كبيرا ماحقا، وما يزيد الأمر تعقيدا وصعوبة، أن هؤلاء الساسة لا يعترفون بأنهم فرطوا بالفرص التي كان يمكن أن تبني دولهم وشعوبهم على أفضل حال.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (اغتنام الفرص)، عن مثل هؤلاء الساسة:(إن الجاهل لا يقدر الفرصة، لذلك تمر الفرص من بين يديه وهو غير ملتفت إليها أبداً).
إن المثال الواقعي الذي نعيشه اليوم في العراق، على الرغم من أن الامام الشيرازي وضع ملاحظاته هذه قبل عقود من الزمن، يؤكد أن سماحته طالب السياسيين في العراق وسواه، مثلما طالب غيرهم، بأهمية اغتنام الفرص التي تتاح لهم من اجل تطوير بلدانهم، وذلك من خلال التعامل الصحيح من الفرص التي تتاح لهم.
واليوم تتاح للساسة العراقيين فرصة جديدة لتصحيح مساراتهم الخاطئة، ولكن هل يكونوا على قدر من الشجاعة والذكاء والاخلاص كي يستثمروا هذه الفرصة من اجل تحقيق الاصلاح لبلدهم، ألا وهو العراق الذي عانى من الظلم وعانى شعبه من الجوع والحرمان والقهر عبر عقود وحكومات ظالمة تعاقبت على حكمه، ألا يستحق شعب مثل شعب العراق الذي يغص بالفقر والفقراء رغم غناه، ألا يستحق من السياسيين أن يراجعوا أنفسهم ويصححوا الاخطاء السابقة، ويعيدوا للشعب حقوقه وللدولة هيبتها ووجودها؟؟. إن الساسة في العراق، وكل من يهمهم الامر امام فرصة التصحيح قبل ضياع العمر والغنى والقدرة على الاصلاح.
وقد ورد في كتاب الامام الشيرازي نفسه حول هذا الجانب: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله يا أبا ذر، اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).
معالجة الضعف بالحزم
الحزم هو أن تبادر بعمل الخير وتصمم على انجازه بإرادة كبيرة مؤمنة، فخير البر عاجله، لذلك يقول أمير المؤمنين، الامام علي عليه السلام: (اغتنم المهل، وبادر الأجل، و تزود من العمل). فالعمل السليم هو أن تنتهز الفرص لخدمة الناس الذين هم تحت مساحة مسؤوليتك، على أن يتم ذلك بالحزم الذي يتوافق مع حجم الهدف المطلوب.
وقد ورد عن الحزم في كتاب الامام الشيرازي موضوع مقالنا هذا: (قال الغلابي: سألت الإمام الهادي عليه السلام عن الحزم؟ فقال: هو أن تنهز فرصتك، وتعاجل ما أمكنك). اذاً عليك بانتهاز الفرصة، على الصعيد الفردي أو الجماعي، ولكن كلما كانت مسؤوليتك اكبر، ينبغي أن يكون تشبثك بالفرصة اكبر، مثلما ينبغي أن يكون حزمك عاليا، حتى تكون ثمرة الاقدام على الفرصة سانحة ونتائجها مضمونة.
كل هذا ينبغي أن يتم بالتفكير السليم العلمي المتخصص، وبالتخطيط القويم المنضبط، ومن ثم بالعمل الدقيق المتواصل والاصرار على النجاح، وهذا هو المطلوب اليوم من ساسة العراق وهو يمر بهذه المرحلة وهذا المأزق الخانق، حيث الحرب ضد داعش الاجرامي متواصلة، والفساد لا يزال ينخر بالبلد، والاموال المنهوبة لم تسترَد بعد، والشعب يطالب بالاصلاح، كل هذا يمكن اصلاحه من السياسيين اذا انتهزوا الفرصة وقاموا بما ينبغي أن يقوموا به بالصورة الصحيحة، بعيدا عن الامنيات الفارغة والتفريط والجهل، فالعمل والاصرار والايمان وحده هو الذي يقود العراقيين الى النتائج المطلوبة.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي عندما يقول في كتابه نفسه: (لما كان طول الأمل أحد الدواعي الرئيسية لتفويت الفرص، كان التفريط هو السبب الثاني لذلك. ولكن تارة يكون التفريط فرعاً عن طول الأمل، أي: بسبب طول الأمل ينتج التفريط، وتارة أخرى ينتج بسبب الجهل).
بعيدا عن أجواء اللامبالاة
أجواء اللامبالاة من اخطر الحالات التي قد تسيطر على الفرد وربما المجتمع، والسبب الأول الذي يعزز سلوك اللامبالاة، هو اعتياد الناس على التفريط بالفرص، فما بالك اذا أصيب بها المسؤول أو القائد السياسي، انه لا شك سوف يفرط بالكثير من الفرص البناءة، ومن الظواهر العجيبة في الطبقة السياسية لدينا في العراق، أن اللامبالاة ينتشر بينها عندما يتعلق الأمر بمصالح الشعب، ولكن عندما يتعلق الأمر بمصالح الحكومة فإن منهج اللامبالاة هنا يختفي!.
لذا المطلوب في عموم الحالات القضاء على اجواء اللامبالاة، ونبذ التفريط والتمسك بالحزم، فهو طريق الدولة والشعب نحو الارتقاء ولكن بعد أن يتمسك القادة السياسيين بالحزم ويتخلصون من التفريط بفرص البناء.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع تحديدا: (عكس التفريط في الأمر هو الحزم في الأمور، وعدم تركها للظروف الإستثنائية، لأن ترك الأمر يؤدي إلى هدم حزم الإنسان وانهياره في داخله، يقول الإمام أمير المؤمنين ع: ضادوا التفريط بالحزم).
اذاً علينا أن نقضي على التفريط بالحزم، فهو طريقنا الى أهدافنا في بناء دولة متحضرة، وهو يصح أن يكون طريقا فرديا، فمن يرغب أن يبني أسرة صالحة، عليه أن لا يفرط بالفرص التي تزيد من تطوير الأسرة، وهذا ينبغي أن يتم بالحزم (الصحيح والعادل)، وليس الحزم العائلي القائم على السلطة الأبوية التي لا تقبل النقاش كما هو ملاحظ في بعض العائلات.
ينطبق الأمر على الشعوب والدول ايضا، ومنهم العراق، إننا شعب وبلد يحتاج الى الحزم، ويبتعد عن التفريط بالفرص، وهذا هو منهج أئمة أهل البيت عليهم السلام، فقد وجهوا المسلمين الى العناية بالحزم والجزم وعدم التهاون في تحقيق الأهداف المرجوة، وهي اهداف في مجملها تصب في صالح الفرد والمجتمع معا.
وثمة نقطة مهمة جدا تتعلق ببعض الناس، المسؤولين أو غيرهم، فيوجد من هؤلاء من يستعيض عن العمل بالتمني، فهو يعد كثيرا ويصرح كثيرا، ويبنى للشعب قصورا في الهواء، لكن الواقع يفضح الساسة الذين يعتمدون منهج التضليل والأمل الكاذب والوعود البراقة، إن الانسان لن يكون غانما في حياته إلا اذا التزم الحزم وتمسك بالفرص المتاحة له.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (إن التفريط يتسبب بتفويت الفرصة وخسرانها، لذا نرى أهل البيت عليهم السلام يؤكدّون على الحزم والجزم في الأمور، وينهون عن التهاون والتفريط في الأعمال، ويحثّون على قصر الأمل وعدم التعويل على الأماني، لكي يكون الإنسان غانماً في حياته).
اضف تعليق