تعاقبت الحكومات بأنواعها على ادارة شؤون العراقيين، والحقائق تشير الى حالات إخفاق قي المجالات السياسية والاقتصادية والتعليم والصحة، والجانب الأوضح هو التلكؤ في مراعاة حقوق الشعب في أمواله وحقوقه القانونية وما شابه، واليوم تحاول الحكومة ان تجد سبيلا للتصحيح، عبر تغيير الكابينة الوزارية، بما يسمى حكومة التكنوقراط، والحقيقة هناك خلل في هذا الجانب، ينبغي معالجته بدقة.
أما ما هو هذا الخلل، فكما يرى الخبراء أن الامر لا يتعلق بجانب محدد بل عدة جوانب من حيث التخطيط والادارة والتنفيذ، ومن ثم الشروع الفعلي في القضاء على الفساد، كما طالبت بذلك المرجعية مرارا وتكرارا، فمن المعروف أن الادارة الناجحة هي إحدى أهم الركائز التي يتطلبها بناء الدولة التي تتساوى فيها الحقوق مع الواجبات، وتنمو فيها الكفاءات، وتأخذ دورها كما يجب، وتُحفظ فيها الحريات كافة، وتُضمن فيها حرية الرأي والاعلام والفكر، ويُكفل التعايش والتعددية، في اطار دولة المؤسسات، فلا يمكن بناء دولة حديثة ناجحة، من دون وجود إدارة ناجحة وسياسة متوازنة مجربة.
ومثلما هو متعارف عليه فإن إدارة أية مؤسسة أو معمل او مدرسة او دائرة أو دولة، تعني منح من يقوم بادارتها سلطة واضحة، وفيما يتعلق بادارة الدولة، فإن ذلك يتبع الصلاحيات والصيغة الدستورية للدولة، وطبيعة النظام السياسي الذي يحكمها، ولذلك ترتبط الادارة عموما بالسلطة، فالمدير أيا كانت الجهة التي يديرها، لابد أن يتمتع بدرجة معينة من السلطة على مؤسسته والمنتسبين لها لكي ينجح في مهامه، إلا أن الامر قد يخرج خارج حدود السلطة الممنوحة للشخص، وقد يتحول الى مستبد، وهنا تبدأ المعاناة مع الادارة الفاشلة، كما حدث ويحدث مع معظم الدول التي عانت ولازالت تعاني، من الأنظمة القهرية.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (نحو ادارة ناجحة)، في هذا المجال: (الإدارة هي فن ممارسة سلطة الإنسان على أفراد جنسه أو على الطبيعة، ولكن هذه السلطة تختلف من شخص إلى آخر، فبعض يستحقها وبعض تقمّصها، وعند البعض تكون الإدارة هي السلطة المطلقة).
ان الاوضاع الصعبة التي يمر بها العراق اليوم يتطلب ادارة نموذجية من الحكومة، وهذا لا يمكن ان يتحقق إلا بشرط منها الكفاءة وتجفيف بؤر الفساد بأنواعه، ومن ثم اخضاع جميع الانشطة الادارية او السياسية وغيرها للاختبار والتقويم، حيث تخضع لمعايير النجاح والفشل، لذا تتحدد قيمة الادارة استنادا الى معياريّ النجاح والفشل، كما يرى ذلك الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه، حيث يقسّم الادارة وفقا لشرطيّ النجاح والفشل كما نقرأ ذلك في قول سماحته: (الإدارة تنقسم إلى قسمين: إدارة ناجحة، وإدارة فاشلة، ولكل منهما أسباب، فالإدارة الناجحة لا تكون إلا بمقوماتها، من شروط ومقتضيات وعدم المانع إلى غير ذلك مما هو مذكور في محله. وإلا ستكون فاشلة. ومن أهم مقومات الإدارة الناجحة هي المداراة).
نجاح القائد في ادارة شؤون الدولة
للقائد والمسؤول الاول في ادارة الدولة دور كبير في توجيه مسارات هذه الادارة نحو النجاح، على أن تعاونه الضوابط الدستورية، والكفاءات في الوزارات والمؤسسات الحكومية كافة، حيث أن جميع الانشطة البشرية تتطلب المساعدة والدربة والمعرفة اولا، وهكذا هي الحال مع فن الادارة الذي سبق ان قال عنها الامام الشيرازي، الادارة فن التحكم بالسلطة، وليس تحكم السلطة بالانسان، حيث يتحول الحاكم الى حلقة ضعيفة بيد السلطة، بدلا من أن تكون السلطة تحت سطوة الحاكم، لذلك من أهم ما تميزت به تجربة الرسول الاعظم -صلى الله عليه وآله وسلم- مع السلطة ابان قيادته لاعظم دولة في العالم، انه كان يجيّر السلطة لصالح الناس، وانه كان يدير السلطة ادارة ناجحة تخدم المسلمين من خلال مبدأ المداراة وتهدف الى تحسين اوضاعهم وتحمي حقوقهم.
لذا يؤكد الامام الشيرازي على: (أن من أهم ما يلزم الاهتمام به من قبل الجميع: المداراة، التي هي من حُسن الإدارة، وكذلك معرفة الأسس التي سار عليها الرسول الأكرم –صلى الله عليه وآله وسلم- وأهل بيته الطاهرون -عليهم السلام- في إدارة شؤون المجتمع والتعامل مع الناس مما يُعبّر عنه بفن التعايش).
ثمة سؤال مهم موجّه الى قادة اليوم في العراق والدول الاسلامية، هل استفادوا من التاريخ السياسي المشرق للاسلام، وهل تمثلوا كيفية ادارة الرسول (ص) لدولة المسلمين الكبرى، لا شك ان هناك خلل كبير في هذا المجال من لدن السياسيين، مع العلم هم يعلنون ان الاسلام دينهم، وانهم متمسكون بمبادئه ومطلعون على السيرة النبوية الشريفة، وهم من اتباع أهل البيت عليهم السلام، ولكن عندما نأتي الى واقع الحال نجد عدم التزام في هذا المجال.
لذا نلاحظ أن الامام الشيرازي، يؤشر هذا الخلل بوضوح عندما يقول في هذا الجانب: (على الرغم من الجهود العظيمة التي بذلها الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم- وضرورة معرفتها بشكل تحليلي متكامل، ولا يخفى أن هذا العمل صعب للغاية، إلا أنه لو تحقق ذلك لكان عملاً كبيراً نافعاً جداً).
لماذا الفشل في ادارة السلطة؟
علما أن حق الاعتراض غير مكفول في ظل الحكومات التي تعاقبت على حكم العراقيين، فالحاكم المستبد لا يسمح بذلك، واليوم في عهد الحرية، يتحول المعارض الى شخص معادي ويبدأ مسلسل التسقيط السياسي المتبادل، وهذا يدمر البنية السياسية المتماسكة للدولة والحكومة، ان الحاكم مهما بلع من مواصفات وقدرات فإنه يبقى في حدود الانسان العادي، فلا يصح أن يتحول الى مارد يدمر الشعب بسلطاته وغروره وتضخم ذاته، لذلك يؤكد الامام الشيرازي، أن لا سلطة مطلقة للانسان العادي، فالسلطة المطلقة من اختصاص الحكم الالهي ومن يخوله في تعالى في ذلك، أما اذا حدث العكس فإن الخلل والفشل في ادارة السلطة سيبدو واضحا، وسوف ينعكس فورا على الدولة والفشل في بنائها، لذلك لابد لمن يدعي انتسابه للاسلام من الحكام والانظمة ان يلتزموا بهذا الشرط الذي يمنع الحاكم وحكومته من الاستبداد.
يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص: (أما الإسلاميون فلا يرون هذه الإدارة المطلقة للإنسان العادي، بل الإدارة المطلقة والولاية المطلقة تكون من خصائص الباري عزوجل وهو عادل لايظلم أحداً، وكذلك من خوّله الله تعالى لها، وهوالنبي الأعظم -صلى الله عليه وآله وسلم- والإمام المعصوم –عليه السلام-، أما الإنسان العادي فلا يحق أن يقوم بهذه السلطة المطلقة).
لذلك اذا تحول الحاكم (وهو انسان عادي) الى سلطان مطلق الصلاحيات، عند ذاك لابد للصوت المعارض من الظهور بقوة، والتأثير الجاد والاشتراك الفعلي في بناء الدولة الحديثة، ويجب على السلطة نفسها (الحاكم والحكومة) أن تمنح الفرص المواتية للمعارضين، لكي تتوازن ادارة السلطة، ولكي يتطور الفعل المعارض ويسهم في بناء أسس الدولة الديمقراطية.
ولنا في تعامل الامام علي عليه السلام- درسا بليغا في هذا المجال، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بكتابه المذكور نفسه: (كذلك للإمام أمير المؤمنين -عليه السلام- مناظرات عديدة مع الخوارج، وهي تبين بدورها أسلوب التعامل مع المعارضة وفن إدارة الأعداء الداخليين، وبعض هذه المناظرات والبحوث والنقاشات كان يطول أكثر من ثمان ساعات أحياناً، ولكنه لم يصلنا منها إلا الشيء القليل).
اضف تعليق