يشكو الغرب عموما من ضآلة وقلة شريحة الشباب، وفي المقابل هناك زيادة في الأعمار الكبيرة، وتعد هذه مشكلة جوهرية لا يجوز إهمالها من لدن حكومات الغرب بحسب رأيهم، بعد أن تمت ملاحظة ضمور في فئة الشباب العمرية، وتخمة في المسنين، ولذلك ظهرت كثير من الاخبار تؤكد ان استقبال اوربا للمهاجرين، يأتي من باب الحاجة الى هذه الفئة، السؤال هنا، لماذا لم يجد شبابنا الاهتمام الكافي من حكوماتهم؟؟ ولماذا لا تقدم المنظمات المعنية بالشباب ما يلزم لتطوير هذه الفئة العمرية واستثمار طاقاتها الظاهرة والكامنة على حد سواء؟.
وليس جديدا عندما تؤكد الأخبار والاستبيانات أن المجتمعات المتقدمة هي الأكثر اهتماما بالشباب من سواها، لذا تحرص المجتمعات المزدهرة على رعاية الاجيال القادمة، وتطوير قدراتها وطاقاتها عبر مناهج تربوية نظرية وتطبيقية مدروسة مسبقا، تهدف دائما الى تثوير طاقات الانسان الراكدة في أعماقه، ولذلك من أهم ما ترعاه الامم المتطورة من امور هو تطوير المهارات الفكرية والعملية، وربما تركز على الطاقات الفكرية والعلوم الانسانية أكثر، باعتبارها هي المقود الصحيح الذي يوجّه مسارات الجوانب العملية كافة.
إن هذه الشريحة او الفئة العمرية هي ركيزة مهمة لبناء الأمة، لذا يدعو الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (إعداد الاجيال)، ويؤكد سماحته على أهمية دور الشباب، إذ يقول حول هذا الجانب: (إن الأمم إذا أرادت أن تتقدم وتزدهر وتبلغ أهدافها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فلابدّ لها أن تهتم بالأجيال القادمة، فتقوم بتربية وتنشئة جيل صحيح قوي، مهيأ لتحمل مسؤولية قيادة الأمة).
ويتجسد دور الأمة في الأسرة التي تمثل خليتها وصورتها الأصغر، حتى يمكن القول أن اهتمام الاسرة بهذه القضية يمثل اهتمام الأمة بأجمعها، علما أن طبيعة الشاب تجعله يتابع ويراقب الآخرين في المحيط العائلي ثم المدرسي ثم العملي، فيبدأ يتعلم من مشاهداته للاخرين وسماعه لهم، بالاضافة الى الجانب الوراثي الذي يحصل عليه من جذوره العائلية، هنا يتضح لنا الدور الخطير للجانب التربوي في بناء الشخصية الانسانية، وانعكاسها على البناء المجتمعي عموما.
وهو ما يركز عليه الامام الشيرازي بقوله في هذا المجال: (إن ما يحصل عليه الإنسان من أدب وحكمة، وعلم وحلم، إنما هو عبر ما يتعلمه ويتلقاه عن طريق سمعه وبصره وفؤاده؛ وعبر التعليم والتجربة وما أشبه، فتكوين الشخصية الاجتماعية والنفسية ـ في الغالب ـ ليس إرثاً ينتقل من الآباء إلى الأبناء، وإنما هو ناشيء عن طريق التعليم والتربية، وإن كان لعامل الوراثة التأثير المهم أيضاً).
تأثير الأسرة في إعداد الشباب
وحتما سيكون للمحيط الأصغر الذي يترعرع فيه الشباب، قصب السبق في تحديد المزايا التي تتشكل منها شخصيته، وقدرته على الابداع، أي أن الاثر الاسري واضحا وعميقا في بناء شخصية الانسان، كونه يبدأ بتشكيل شخصية الشاب في المحيط العائلي أولا، لهذا غالبا ما يتخذ الابناء من الآباء قدوة لهم، فالطفل الصغير يشعر بأن أباه هو افضل انسان في العالم وكذلك الحال مع البنت التي ستشعر ان امها افضل امرأة في العالم، ولهذا غالبا ما يحاول الاولاد تقليد ابويهما، من هنا عليهما التنبّه الى هذه القضية بدقة.
لذا يؤكد الامام الشيرازي في هذا المجال قائلا: (إن تربية الأبناء تبدأ من خلال الأسرة، وتستمر في أجواء المجتمع.. في المدرسة والسوق والتجمعات الاجتماعية وما أشبه. مما يعلم أن لكل من الأسرة والمجتمع الأثر العميق على المدى القريب والبعيد في تحديد ملامح شخصية الإنسان، لأن الإنسان يستند إليها في سنه المبكر ويعتمد عليها في شبابه وكبره).
إن الجانب التربوي له قصب السبق في تحديد مزايا الشخصية للانسان، لذلك ركّز الاسلام بصورة واضحة وكبيرة، على الجانب التربوي في صياغة وتشكيل الشخصية الانسانية، لأن النفس تنطوي على تركيبة معقدة جدا، وتحتاج الى المثل والنموذج الواضح الذي تسير في هديه، وتتمثل به في عموم انشطتها الفكرية والعملية، فتم التركيز على صحة التربية الاخلاقية والدينية والفكرية لأنها تسهم بصورة فعالة في تحصين الانسان من الوقوع في حبائل الانحراف او الانزلاق في طرق ومسالك منحرفة.
وهذا ما حذر منه التعاليم والمبادئ الاسلامية كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي بقوله: (إن من أبرز المسائل التي حازت على أهمية خاصة في الدين الإسلامي هي التربية الصحيحة في كل جوانبها والاهتمام بها؛ وذلك لما لـها من أثر عميق في صقل النفس الإنسانية ورفع مستواها المعنوي، وانقاذها من مزالق الشيطان ومرديات الهوى).
هنا يتضح بجلاء تام، دور الجانب التربوي في إعداد الشباب لمواجهة مصاعب الحياة، فضلا عن أهمية تعليمهم على مواجهة الحياة، بصبر ونفاذ بصيرة وحكمة تسهم في تحقيق دور الشباب في البناء كما ينبغي، من اجل ضمان الحاضر الذي يتماشى مع مزايا العصر ومستجداته، مع رسم صورة اجمل واكثر دقة وتفاؤلا لمستقبل الأمة.
توفير التربة الصالحة
كما يحتاج النبات الى التربة الصالحة كي يكون الانتاج محسّنا، يحتاج الشباب الى ذلك ايضا، فلابد من توفير المستلزمات الاساسية التي تسهم في بناء الانسان، لأن عملية البناء هنا لا تختلف عن قانون التطور والنمو الصحيح الذي تخضع له عملية تطوير الكائنات كافة، فالنبات مثلا يحتاج الى ارض خصبة، وطقس مناسب ووفرة في المياه، لتحقيق الانتاج الافضل والنمو الاسرع، ولا يختلف الامر بالنسبة لنمو الانسان فكرا وعملا، فالشاب الذي يتربى في حاضنة مناسبة وصحية سوف يكون اكثر قدرة على العطاء من غيره.
لهذا يؤكد الامام الشيرازي حول هذا الجانب على: (أن تأثير التربية على سلوك الإنسان يشبه إلى حد كبير توفير التربة الصالحة والظروف الملائمة لنمو النبات ورشده، وثمره وينعه. وعليه: فالاهتمام بالتربية، يعني: توفير مستلزمات التوجه الصحيح، وتهيئة البيئة الصالحة لنشوء الأفراد الصادقين والصالحين). فالشرط الأساس لضمان الحاضر الأفضل والمستقبل الأجمل، يكمن في رعاية الأجيال وإعدادهم إعدادا سليما حاضرا مع التخطيط الصحيح للمستقبل.
أما بخصوص التربة الصالحة لتربية النشء بصورة سليمة، فهو يتمثل بالحاضنة الاجتماعية الاولى، والمحيط العائلي الأول، إذ يبقى المحيط الاسري الاول من أهم المؤثرات المباشرة، التي تدخل في البناء التربوي للانسان، من هنا كانت الاسرة ولا تزال هي العامل الاهم، في عملية البناء الاخلاقي والديني والفكري للانسان، كونه يترعرع في هذا المحيط فينهل منه سماته وافكاره وسلوكياته، وهذا ما ينبغي أن يتنبّه له الآباء والامهات بالنسبة للدور الاسري التربوي، وتدخله الكبير في تشكيل التركيبة الفكرية والنفسية للشباب، ويجعلهم اكثر استعدادا للعطاء في مجال بناء الحاضر والاعداد للمستقبل بصورة علمية سليمة.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع بوضوح تام: (لا شك أن للأسرة ـ وخاصة الوالدين ـ الأثر البالغ في بناء شخصية الأبناء، وحملهم على العادات الطيبة، والتقاليد الجميلة، والقيم الرفيعة، والاتجاهات الحسنة، التي ينبغي لهم ملازمتها طوال حياتهم، وتطبيقها في سلوكهم الفردي والاجتماعي).
ويضيف سماحته مؤكد على أن العائلة او الحاضنة الاولى: (لها ـ بالنتيجةـ الدور الكبير في بناء المجتمع، وتشييد الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فالأسرة هي التي تربّي الأبناء وتعدهم للمشاركة في الحياة؛ لذا فهي مسؤولة عن تنشئة أطفالها تنشئة سليمة متسمة بالاتزان والاستقامة، والبعد عن الإنحراف والتطرف)، وهكذا يتضح للجميع، دور الأسرة في اعداد الشباب بصورة سليمة لمواجهة الحاضر والمستقبل معا، بما يجعل الحياة أقل صعوبة، واكثر تواؤما وقبولا من الجميع.
اضف تعليق