هل هناك فرصة فعلية للسلام، يمكن أن تغيّر واقع البشرية اليوم، في الحقيقة قد تكون الفرص قليلة، وهناك من يشك في تحقيق هذا الهدف، على الرغم من أن اللاعنف منهج متاح وقد طرحه الإمام الشيرازي عبر نظريته المعروفة التي تفتح الأبواب واسعة أمام قادة العالم لكي ينهوا الحروب ويصنعوا السلام، فهل سيفعلون؟...
(الإنسان يدرك المخاطر، ويعلم بضرورة اتخاذ خطوات تبعده عن الأذى)
الإمام الشيرازي
على الرغم من تلك النظريات النفسية الاجتماعية التي تقول بأن نزعة الصراع موجودة في الجانب التكويني للإنسان، وأنه يميل في بعض المواقف إلى اعتماد العنف في معالجة بعض المشاكل التي تظهر في حياته، ولكن ثبت بما لا يقبل الشك بأن هناك ميولا نحو السلم والسلام، تكمن جذورها في أعماق الجذر البشري.
وهذا يدفع باتجاه العقلانية والحكمة والتعقّل في معالجة جميع المصاعب والخلافات التي تحدث بين الأفراد، أو حتى بين الشعوب، أو الأمم، وحين ظهرت الرسالة الإسلامية، ونشأت دولة المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وآله، تغيّر وجه العالم العنيف، وأخذت بشائر السلم تزدهر وتنمو باضطراد، وصار العالم آنذاك (قرية سلام)، وازدهر اللاعنف، وسادت التفاهمات والحوارات وتفوقت على كل شيء، لاسيما أن الإسلام سنّ القوانين والضوابط والبنود الواضحة التي تعالج جميع الاختلافات بعدالة متناهية.
وقد حصدت البشرية آنذاك ثمار سياسات السلم واللاعنف، وانشغل الناس بقضايا أخرى أخذت تبحث عن الكيفية التي ترتقي بها حياة الإنسان، ولم يعد القتال والتحارب بين الدول والأمم يحتل الصدارة كما كان الأمن قبل ظهور الرسالة النبوية، وكل هذه المظاهر كانت نتيجة لميول الإنسان نحو الأمان وبحثه المستمر عن الاطمئنان.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يشرح لنا بوضوح طبيعة الإنسان وما يجول ويدور في أعماقه، فيقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام): (تواجد الإنسان ومنذ بدء الخليقة وهاجسه الأول تحقيق أعلى درجة من الاطمئنان والأمان والراحة، لـه ولعائلته، فكانت نتائج رغبته أن بدأ بمعرفة نفسه ومعرفة الآخر ومعرفة المخلوقات والطبيعة).
وعلى الرغم مما تعرضه بعض النظريات المهتمة بطبيعة البشر ودواخله، من شحنات عدوانية تتلبس النفس البشرية، (وهو أمر لا يمكن إنكاره)، إلا أن هذه الحالة ليست هي السائدة، ولا يمكن تعميمها على الناس والأمم كلها، فهناك من يسمو فوق الشر، وينبذ نزعة الكراهية، ويبتعد كل البعد عن العنف بكل أشكاله، ويميل إلى الحياة المسالمة.
قادة السلم ورجال الصدارة
فمنذ بدء الخليقة يعرف الإنسان تلك الأضرار الفادحة التي تلحق به إذا سمح للعنف أن يتسلل إلى حياته وعلاقاته مع الآخرين، ولذلك كان هناك دائما رجال الصدارة، وهم رجال الحكمة، ورجال العقل الذي (يدفع بالتي هي أحسن)، رافضا أسلوب العنف كطريقة لحل الخلافات والنزاعات على الرغم من أنها كثيرة ومتداخلة ومتشابكة، وأحيانا يبدو من المستحيل معالجتها، ولكن الصبر والتأني والتفاهم والحوار واعتمام الأساليب المسالمة، تنقذ الناس من موجات الحروب الهمجية.
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي على أن: (الإنسان يدرك المخاطر، ويعلم بضرورة اتخاذ خطوات تبعده عن الأذى، ومن هنا اختار لنفسه نظاماً وقائياً يحمي نفسه من نفسه، ويحمي نفسه من الآخرين، فكان أفضل الطرق التي جربها طول التاريخ مضافا إلى تصريح المبادئ السماوية بذلك، هو الاهتداء إلى مبدأ (اللاعنف) أو (المسالمة) كسلوك يدعو إلى الركون إلى العقل، واللجوء إلى التسامح).
ما نعيشه اليوم في عالمنا الحالي، يؤكد لنا بأن هذا العالم يخلو من التوازن والعقلانية ويفتقر إلى الحكمة، وأن رجال السلام لم تعد لهم حظوة كبيرة في عالم اليوم، وإلا لما كنّا نعيش في ظل حالة من الاضطراب تكاد لا تتوقف، كما أن حالات العنف واللا أمان وإشهار الصدامات والحروب ظواهر مستمرة وتكاد تفرض نفسها على واقع العالم اليوم.
لهذا باتت الحاجة إلى السلام أمرا حتميّا لا يجوز التراجع عنه، وإذا كان هناك رجال كبار في عقولهم وصبرهم وقادة سلم وسلام فيجب عليهم أن يتصدوا لقيادة هذه المرحلة الحرجة، بل والخطيرة، ويحاصروا نيران الحروب العالمية التي تريد أن تأكل الأخضر واليابس على حد سواء، لاسيما أن الإنسانية كلها متلهفة للسلم، والإنسان بطبيعته يهفو نحو الأمن والسلام.
يقول الإمام الشيرازي: (اللاعنف كلمة تدخل في نفس الإنسان الاطمئنان والراحة والهدوء، وتوحي إليه بذلك. ومن الواضح أن الكل يبحث عن السلم والسلام في حياته، ويطلبه بفطرته، بل هذا ما نشاهده عند الحيوانات أيضاً، فكلها تطلب السلام).
وهكذا نلاحظ أن بني الإنسان اليوم متعطّشون للسلم، ولا يرغبون بالصراعات، والحقيقة عامة الناس يلقون اللوم على قادتهم السياسيين، ويعلنون بصوت عال أن هؤلاء القادة عاجزون عن كبح جماح العنف، وربما لا يعجبهم أن يكون العالم مستقرا وسعيدا، وأن أمراضهم النفسية هي التي تتسبب في تأجيج الصراعات والحروب.
قوى ضاغطة لصناعة السلام
في حين أن السلم ينشر الهدوء والسكينة في القلوب والنفوس والبيوت أيضا، وتغدو الحياة أفضل وأجمل، وتستثمر الناس طاقاتها وأوقاتها وأفكارها في المشاريع التي تطوّر الحياة، وتمد يد العون إلى فقراء العالم، وتقلل من المجاعات التي تنتشر في أفريقيا ودول أخرى، وتمتد يد الخير إلى أبعد نقط في العالم، وتسود العدالة بين أمم ودول العالم كله.
وتزدهر مجالات الحياة كافة، ليس الاقتصادية والتجارية والمالية وحدها، وإنما الحياة برمتها تزدهر، حتى الثقافية منها والإعلامية، حيث تنعكس حالة الاستقرار العالمي على اقتصادات العالم، وتقل حالات الفوضى، وتتراجع موجات الصراع والنزاع، ويكون اللاعنف والسلم والسلام منهج حياة للبشرية كلها.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على:
)إن (السلم والسلام) بمعناهما الأعم والشمولي يقتضيان الأمن والعافية، والاستقرار والازدهار، وكل ما يوجب تقدم الحياة وتطورها، ووضعها في أبعادها الصحيحة، صحية واجتماعية، واقتصادية وسياسية، وعسكرية وإعلامية، وغيرها(.
ولو أننا أردنا أن نطرح التساؤل التالي فكيف ستكون الإجابات؟، هل يشعر الإنسان بأهمية السلم والسلام اليوم، وهل يمكن للأمم والشعوب والدول المسالمة أن تنشر هذا الأسلوب من الحياة على الرغم من وجود قادة (متعجرفين) تقودهم أمراضهم النفسية إلى حرمان البشرية من مزايا السلام التي لا تحدّها حدود؟
في الحقيقة هنالك جماعات ضغط واسعة وقوية تصب في هذا اتجاه، ونعني اتجاه السلم والسلام واللاعنف، وجماعات الضغط هذه تتكون من منظمات ومؤسسات السلام المستقلة، وكذلك هنالك منظمات ثقافية حقوقية واسعة تعمل على نشر السلم بين دول وشعوب العالم، ولكن مع كل هذه القوى الضاغطة هناك حاجة مستمرة لمحاصرة الإرادة المضادة للسلم، وذلك عبر إقامة مؤتمرات وندوات السلام بشكل دائم، وكبح جماح أصوات الحرب ومجانينها من القادة المصابين بجنون العظمة.
يقول الإمام الشيرازي:
(في هذا العصر بالذات، التفت الإنسان إلى ضرورة البحث عن السلم والسلام، وصار الشغل الشاغل للناس في وسائلهم الإعلامية وغيرها، ومدارسهم الخاصة ومدارسهم الدولية، فصاروا يتكلمون في الشرق والغرب عن السلم والسلام، ويبحثون عنه في المؤتمرات الدولية وفي المؤتمرات القطرية، وينشدونه في كل محفل من المحافل).
وأخيرا هل هناك فرصة فعلية للسلام، يمكن أن تغيّر واقع البشرية اليوم، في الحقيقة قد تكون الفرص قليلة، وهناك من يشك في تحقيق هذا الهدف، على الرغم من أن اللاعنف منهج متاح وقد طرحه الإمام الشيرازي عبر نظريته المعروفة التي تفتح الأبواب واسعة أمام قادة العالم لكي يضعوا الحروب خلف ظهورهم، ويصنعوا عالما مسالما مستقرا بلا حروب، فهل سيفعلون؟
اضف تعليق