الفكر الإسلامي ومبادئه القيمة والواضحة، هي أقرب إلى فطرة الإنسان، وتملأ الفرغات المعنوية والنفسية التي يعاني منها، وتفتح للعقل البشري أبوابا بمفاتيح عديدة عبر الإيمان، والتفكير، والتطلع إلى الأمام دائما، وعدم الركون إلى اليأس أو الجمود، حيث الأفكار الضخمة التي يمكنها تغيير روح الإنسان ونظرته إلى الحياة...

(إن الذين دخلوا في الإسلام، لم يدخلوه عنوة وإنما عن تبصّرٍ وقناعة) الإمام الشيرازي

مرّت بنا في هذه الأيام الذكرى السنوية لرحيل الإمام الشيرازي في الثاني من شهر شوال الجاري، وفي هذه المناسبة عُقدت الندوات والحلقات التذكارية التي استعادت كتبه ومؤلَّفاته وأفكاره التي أسهمت بدورها في إثراء وتعزيز الحصيلة المعرفية للمسلمين وعموم العالم، لاسيما وأن هذه الأفكار قدمت رؤية واضحة للمشكلات التي يعاني منها عالمنا اليوم.

وفي نفس الوقت قدم الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، قدم الكثير من الحلول الممكنة لمعالجة مشكلات العالم، ووضع الكثير من خرائط العمل في مجالات الاقتصاد، والثقافة، والسياسة، وفصَّل العديد من الأزمات العالمية وأرجعها إلى أسبابها، واقترح في نفس الوقت ما يساعد المعنيين من قادة وغيرهم على معالجة الأوضاع التي يمر بها العالم في عصرنا هذا.

من القضايا التي ركَّز عليها الإمام الشيرازي، ذلك الدور الكبير والعظيم الذي لعبه الإسلام لتعزيز السلم العالمي، ونشر الأمن والرخاء في ربوع المعمورة، فالإسلام دين الحرية والإقناع والحضارة، يرفض الإكراه، وينبذ العنف، ولا يبدأ أحدا بالقتال، إلا دفاعا عن النفس، وهي مبادئ ترسّخت منذ بدايات نشأة الإسلام، حيث نبذ الحرب، وحصول القناعة، وحرية التدين.

في هذا السياق يرى الإمام الشيرازي في واحد من أهم مؤلّفاته أهمية نشر الأمن العالمي، وتعزيز السلام في ربوع العالم، وهذا أحد أهم أهداف الإسلام، حيث يقول الإمام، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه السلم والسلام الجزء الثاني):

(إن الإسلام لم يأذن بالحرب إلا درءاً للعدوان، وحماية للدعوة، وتصدياً للاضطهاد، والتماساً لحرية التدين). 

إن التاريخ المنصف، لابد أن يذكر بكثير من المحبة والعرفان، ذلك الدور العظيم الذي لعبه الإسلام في تعزيز الأمن والرخاء على مستوى العالم، وقد أكدت شاهدات مستقلة من المجتمعات التي وصلها الإسلام، ونقل إليها الثقافة والحريات والمعرفة، حيث شهد معظم هؤلاء بإنسانية المبادئ الإسلامية، فضلا عن الأخلاق الرفيعة التي يتحلى بها المسلمون.

نشر العلوم والثقافة بين الشعوب

وقد أسهم هذا في نقل المعارف إلى تلك المجتمعات، وقد كان لها الدور الأساس في تطوير حياتهم، من خلال الأفكار والتطورات الجديدة التي طرأت على حياتهم بفضل ما نقله لهم الإسلام من رؤية جديدة متطورة في إدارة شؤون تلك المجتمعات، والتركيز على القيم والضوابط الإنسانية التي سادت بين عموم الناس، وحققت نوعا من التسامي والارتقاء لهم.

يقول الإمام الشيرازي:

(يُستدل من الشواهد الكثيرة المذكورة في محلها على دور الإسلام العظيم في نشر الأمن والرخاء في أرجاء المعمورة، وذلك من خلال الفتوحات الإسلامية وما كان لها من عظيم الأثر ورفيع العقبى في نشر السلام ونشر العلم والتقدم بين شعوب العالم).

وجدير بالذكر أن الإسلام حقق انتشاره بين شعوب العالم، من خلال ما يحمله من مبادئ ومضامين إنسانية عالية في رؤيتها وفي حلولها لمشكلات الإنسان، والإجابة عن أسئلته الكونية والفلسفية، بالإضافة إلى تقديم المعالجات الواقعية للمشكلات التي يعاني منها الناس، سواء ما يتعلق بالحريات، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو الحقوق بمختلف مسمّياتها.

فالفكر الإسلامي ومبادئه القيمة والواضحة، هي أقرب إلى فطرة الإنسان، وتملأ الفرغات المعنوية والنفسية التي يعاني منها، وتفتح للعقل البشري أبوابا بمفاتيح عديدة عبر الإيمان، والتفكير، والتطلع إلى الأمام دائما، وعدم الركون إلى اليأس أو الجمود، حيث الأفكار الضخمة التي يمكنها تغيير روح الإنسان ونظرته إلى الحياة.

ولعل النقطة الأهم في هذا الجانب ذلك الاسلوب الذي وضعه الإسلام لكسب الناس، ألا وهو الابتعاد الكلي عن الإجبار، والتخلي عن العنف، واعتماد التوضيح عبر الحوار والإقناع، حتى تكون النتائج مفيدة ويمكنها إحداث التغيير المأمول فيما يخص تعزيز القيم وتطوير حياة الناس وضمان حقوقهم من أي تهديد كان.

وهذا بالضبط ما أكده الإمام الشيرازي حين قال:

(لقد انتشر الإسلام بقوَّته الذاتية وحقيقته المنسجمة مع الفطرة الإنسانية وتلبيته لسائر ما يحتاجه البشر من قوانين حيوية، وذلك بأفكاره الغراء الميمونة ومبادئه الحميمة الرفيعة، ونرى من جهة أخرى أن الذين دخلوا في الإسلام، لم يدخلوه عنوة وإنما عن إيمان وقناعة).

إذن تحقق شرط الإقناع عند تلك الشعوب، فدخلت في الإسلام بعد أن وجدت فيه الواقعية والمنطقية ومجاراة الفطرة وعدم التناقض معها، كما أن تعاليم الإسلام تمنح الإنسان ذلك الاستقرار النفسي الذي يعالج كافة الإحباطات والشعور باليأس، حيث تعم الطمأنينة النفس وتملأ القلب والروح وتزداد المعنويات عند الناس حتى تبلغ درجة السمو والارتقاء والثبات.

يركز الإسلام على جانب السلام الروحي، وملء الفراغ المعنوي، ويعالج القلق النفسي، لهذا حين كان المسلمون يتعرضون لإحباط معين، أو هزيمة في إحدى المواجهات، فإن اللجوء إلى الجانب الروحي سوف يمحو ذلك الإحباط، ويسترجع الأمل وروح المبادرة، وتتراجع حالات الانكسار في أعماق النفس، فيستعيد الناس قوتهم المعنوية التي تعالج حالات الفشل والإحباط الذي يعيشونه بسبب الهزيمة أو التراجع والضعف.

معالجة الإحباط والشعور باليأس

وهكذا يكسب الناس الأمن والرخاء والاستقرار، حتى لو تعرضوا إلى حالة تثبط من عزيمتهم وقوتهم، وهذا ما حصل في مواجهات المسلمين الأوائل في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، عندما كانت أعداد الطرف المقابل أضعاف عدد المقاتلين المسلمين، ومع ذلك يتحقق لهم الثبات في المعرقة ومن ثم الانتصار بسبب القوة المعنوية والروحية الهائلة التي يشعر بها المقاتلون المسلمون لإيمانهم وشعورهم المسبق بالنصر على أعداء الله.

فيتحقق لهم مجددا الأمل بالتفوق والاستمرارية كون الإسلام يمنحهم القدرة على المواجهة، والثبات والسكينة، فيحصلون على الروحية المؤمنة والمعنويات العالية التي تجعلهم في حالة الشعور بالقوة وليس الشعور بالوهن. 

حيث يقول الإمام الشيرازي:

(لقد كان دخول الشعوب في الإسلام لعدة عوامل مهمة منها: أنهم رأوا فيه الحسن والواقعية والمنطق والبرهان، ومسايرته للفطرة الإنسانية وملائمته للطبيعة البشرية، ومن هنا نجد المسلمين إذا اندحروا في جبهات القتال كانوا آخذين بناصية الأمل وزمام المبادرة في جبهات الروح والمعنى).

وهكذا رسخت الصورة الإيجابية للإنسان المسلم في ذاكرة الشعوب الأخرى، حيث التواضع رافق سلوكهم وتصرفاتهم، حتى في ملبسهم كانوا أناسا بسطاء تهفوا إليهم القلوب، ويحبهم الناس الغرباء قبل أن يتعرفوا عليهم، ذلك أن الإنسان الذي يحصّن نفسه بالتواضع سوف يكون محبوبا حتى من الناس الذين لا يعرفونه جيدا، فهيأة الإنسان المسلم وملبسه وجلوسه على التراب يؤكد تواضعه الجم وعدم شعوره بالتعالي أو الغرور.

هذا التواضع يجعل منهم سواسية في التعامل والأخلاق، كما أن إيمانهم يساعدهم ويمنحهم حالة من الخشوع عظيمة، تميزهم عن غيرهم، فتزداد محبة الناس الغرباء لهم.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي: (لقد قالوا في المسلمين: رأينا قوماً الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة كجلوسهم على التراب وأميرهم كواحد منهم، لا يُعرف كبيرهم من صغيرهم، ولا السيد فيهم من العبد، فإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخضعون في صلاتهم). 

هكذا ينشر الإسلام الأمن والرخاء والطمأنينة في قلوب الناس أينما حلّ، وهذا ما حدث بالفعل لدى جميع الشعوب التي دخلها الإسلام، فغيّر من حياتها وطورها وجعلها أفضل بكثير من خلال نشر روح التعاون والتسامح بين الناس، وشيوع حالة السلم والسلام بين الناس، فصارت تلك الشعوب في حالة أفضل وكل ذلك نتيجة للقيم والأخلاق والفضائل التي نقلها المسلمون إلى تلك الشعوب.

اضف تعليق