إن الرسول الأكرم (ص) وآل بيته الطاهرون هم دعاة السلم وحملَة مبدأ الإنسانية في المسالمة واللاعنف، ونبذ ما هو نقيضه في الحياة اليومية، فنرى الإمام جعفر الصادق عليه السلام يقول: إنّا أهل بيت مروتنا العفو عمن ظلمنا، فيعبر عن أعلى درجات تطبيق مبدأ السلام واللاعنف...

(الإسلام لا يؤمن مطلقاً بمفهوم العنف أو مفهوم المعاملة السيئة أو إيقاع الظلم بالآخرين)

الإمام الشيرازي

في عالمنا المليء بالحروب والصراعات، نحتاج إلى أمرين في غاية الأهمية، الأول لماذا تحول العالم البشري المعاصر إلى هذه الوحشية في التفكير والسلوك والتصرف مع الآخر، فمعرفة الأسباب التي جعلت من العالم اليوم في قمة الاحتقان والتوتر، باتت هدفا مهما، لاسيما بالنسبة للعقول والقلوب التي تؤمن بالسلم وترفض جرّ الناس نحو الحروب.

الأمر الثاني الذي تحتاجه البشرية كلها، بعد معرفة الأسباب، وضع المعالجات القادرة على إطفاء حالات الاحتراب، ونشر السلك بين الجميع، والعودة إلى الحلقات التاريخية والنماذج المشرقة في تاريخ البشرية، فتجربة الإسلام شكلت للعالم أجمع قفزة على طريق تحويل الإنسان من التوحش إلى المسالمة، وانتشرت قيم الرحمة واللين والتسامح بين الجميع، فأخذت الأمم الأخرى تغترف من هذا النبع الأصيل لقيم السلم والسلام.

لقد حاول كثيرون من خلال الدين والعقائد المشوهة، نشر الإرهاب، ونشر الحروب بين الدول والأمم، وقد بعض الذين يعلنون الانتماء للدين الاسلامي أفكارا متطرفة، تمكنت من نشر الكراهية بين الناس، وازدادت وتيرة الإرهاب في العالم، لكن الإسلام الحقيقي هو إسلام محمد صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار من آل بيته، هؤلاء هو النبع المتدفق دائما وأبدا لبث السلام في ربوع العالم أجمع.

في الكتاب القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام الجزء الأول) للإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، نقرأ هذه الرؤية الإسلامية المسالمة:

(إن الدين الإسلامي وخاصة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لا يتفق مع من يؤمن بالإرهاب والعنف كوسيلة لفرض رأي أو محاولة تغيير، حتى وإن كان مسلماً ويتبع مذهباً ما أو معتقداً ما، فموجة العنف والقسوة والإرهاب تأسست في أفكار بعض المتطرفين وعشش في خيالهم وأفكارهم، فأخذوا بالتصفية الجسدية والتدمير أولاً، بدلاً من المحاورة الفكرية والمسالمة).

فمع ظهور الإسلام بدأت مرحلة جديدة من العقلانية الحكيمة، وصارت قضية التصدي للعنف أمرا شائعا بكل السبل المتاحة، وانتشر الحوار والتفاهم بين المتناحرين، بدلا من أسلوب الصراع المسلح، والتصادم، وصولا إلى نوع من البدائل السلمية التي تضمن حقوق جميع الأطراف المتناحرة، وتنشر فيما بينهم سلسلة من القيم والمبادئ التي تحيّد القتال، وتنبذ الكراهية، وترسّخ مبدأ السلم والمسالمة.

طرائق الرحمة واللين والصفح

أما ما يحدث من أفعال وحوادث عنيفة فإنها ليست من الإسلام بشيء، لاسيما بعد أن تعلم المسلمون من نبيّهم صلى الله عليه وآله، طرائق الرحمة واللين والصفح والعفو والتسامح، والابتعاد الكلي عن أي مظهر من مظاهر العنف، أما في حال اعتمد طرف معين القوة الغاشمة، والتصادم الفج، والكراهية المدمرة، فهذا الطرف لا علاقة له بالإسلام لأنه لا يجنح إلى السلم ولا يعتمد اللاعنف طريقة لترصين العلاقات الإنسانية بين جميع الأطراف.

سوف نقرأ أيضا في كتاب الإمام الشيرازي المذكور سابقا ما ينص على اعتماد المسالمة كمبدأ يحل المشكلات بين الكل: إن (الإسلام لا يؤمن مطلقاً بمفهوم العنف أو مفهوم المعاملة السيئة أو إيقاع الظلم بالآخرين، أو استخدام القسوة أو التعسف ببني الإنسان، فأفعال العنف بأنواعه التي تقع في المجتمعات وتستهدف الآخرين، والتي قد تبلغ أحياناً مستوى من التطرف والشدة أو الخروج عن القوانين، تعد خروجاً عن الدين وتعاليمه السمحة ودعوته إلى السلم والسلام وقول الله تعالى: وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً).

ومن الأساليب المبتكرة التي أتى بها الإسلام، والتي ساعدت في نشر السلام بين الأمم المختلفة، هو أسلوب الدعاء للعدو كي يكف عن محاولات الاعتداء التي يقوم بها ضد الآخرين، وهذا الدعاء محاولة جديدة وقوية لتحقيق عنصر المسالمة، وطرد كافة الحالات المتوترة التي تسعى لفرض طريقة الحرب بدلا من السلم.

وعندما لاحظ الأقوام التي كانت لا تؤمن بالسلام، وتفض المسالمة، بأن النبي صلى الله عليه وآله، اصبح يدعو لأعدائه بالهداية، وهكذا فعل الإمام الحسين عليه السلام، وهذا ما جعل الآخرين يواجهون حالة جديدة من العلاقات الإنسانية المتبادلة بين الناس، والتي ترفض الحرب وتفرض المسالمة كأسلوب لحل العقد المستعصية عبر وسائط السلام. 

هذا ما نجده في كتاب الإمام الشيرازي رحمه الله، حيث التأكيد على نبذ العنف واعتماد المسالمة والسلام:

(لقد خطا الإسلام خطوة جبارة في رسم معالم لمنهج المسالمة والسلام وتمثل ذلك في الدعاء للعدو والصلاة لأجله، فرسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الرغم مما تسبب به الأعداء لـه من الأذى كان يدعو لهم بقوله: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).

الروح العظيمة تجسدت في بكاء الحسين

قد يستغرب الآخرون عندما يسمعون بأن الإمام الحسين عليه السلام، كان يدعوا لأعدائه بالهداية، والكفّ عن الإيغال بالظلم، وكان يتطلع إلى السماء وعيناه تسكبان الدمع مدرارا، هذا الموقف لم يحدث في تاريخ البشرية قبل الإسلام وقبل النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، وكان سبب البكاء أن هؤلاء القوم سوف يدخلون النار بسبب اعتمادهم الكراهية والتطرف والعنف ضد الإمام الحسين عليه السلام.

ولكن السؤال الذي ظل يدور في عقول وأذهان الناس والمعنيين، كيف يبكي الإنسان على عدوه، وهو يسعى للقضاء على حياته ويهدد وجوده؟

هذا السؤال هو الذي يحمل المفارقة العظيمة التي ميزت أل البيت عن سواهم في تعاملاتهم مع أعدائهم ومع الكل، فالكراهية أو الجنوح للحرب والقتال، هذه أساليب لا تقترب من أفكارهم، ولا مناهجهم ولا مبادئهم، ولهذا يحتاج عالمنا اليوم إلى هذه القيم لكي يتحول العالم من الاحتقان والتوتر والصدام إلى التفاهم والتسامح واعتماد المسالمة كأسلوب في جميع التعاملات المتبادلة بين الأمم والدول والأفراد.

يقول الإمام الشيرازي حول قضية البكاء على الطرف المضاد:

(هذه الروح العظيمة تجسدت في بكاء الإمام الحسين عليه السلام على الجيش الذي وقف أمامه في كربلاء حيث أجاب حين سُئل عن بكائه: أبكي على قوم يدخلون النار بسببي. أي لأجل محاربتهم إياي).

المسالمة إذن منهج سار عليه أئمة أهل البيت، وتعلموه من جدهم النبي صلى الله عليه وآله، ومن جميل ما قاموا به وأخلصوا فيه إنهم (عليهم السلام) نشروا هذه المبادئ وهذا المنهج المسالم بين الجميع، وجعلوه بديلا عن كافة أساليب العنف التي لا جدوى فيها للجميع، فالكل لا يستفيد من الحرب ولا من النزاعات.

أما المسالمة كمنهج إنساني، فغنها تغمن العالم بالسكينة والاطمئنان والاستقرار، وتفتح فرص التطور بشكل كبير أما الناس جميعا، وبدلا من القتال والنزاع، سوف ينشغل الجميع بالبناء والزراعة والصناعة والعلم، وهذا يجعل العالم أفضل بكثير مما لو كان في حالة تطرف وكراهية واحتقان، عن ذلك نقرأ في كتاب الإمام الشيرازي:

إن (الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وآل بيته الطاهرون هم دعاة السلم وحملَة مبدأ الإنسانية في المسالمة واللاعنف، ونبذ ما هو نقيضه في الحياة اليومية، فنرى الإمام جعفر الصادق عليه السلام يقول: إنّا أهل بيت مروتنا العفو عمن ظلمنا، فيعبر عن أعلى درجات تطبيق مبدأ السلام واللاعنف وكذلك الصفح الجميل بأن لا تعاقب على الذنب). 

فليجس عقلا العالم، حكام وساسة وفلاسفة ومفكرون وغيرهم، وليتدارسوا مقترحات تغيير السياسات العالمية التي أعطت ظهرها للمسالمة، وجعلت من خيارات النزاع أعلى كعبا من السلام، لابد من إعادة النظر بسياسات العنف، فهي في آخر المطاف لا تفيد القوي ولا الضعيف، وهناك فرص كبيرة لجعل اعالم أفضل بالمسالمة والسلام.

اضف تعليق