هنالك مقومات للسلم العالمي، وفي المقدمة منها اللاعنف، حيث قدم الإمام الشيرازي نظريته المعروفة حول هذا المصطلح، وخلص إلى أن العالم إذا أراد أن يستعيد العيش الكريم العادل، والأمن والسلام، عليه أن يكرس كل جهوده في نشر اللاعنف كمنهج حياة بين المجتمعات كلها ودول العالم بلا استثناء...
(اللاعنف كلمة تدخل في نفس الإنسان الاطمئنان والراحة والهدوء) الإمام الشيرازي
تتربع حاجة الأمان قريبا من قمة الحاجات الأساسية للإنسان، وتأتي في الأولوية بعد الغذاء، لذلك وُلد الإنسان و وُلِدت معه حاجة الأمام بالفطرة، ولذا نجد أن المسالمة جزء أساسي من مكونات الإنسان النفسية، فحتى الميول للإجرام بدافع من المحيط الاجتماعي أو ما يسمى بالبيئة، بالإضافة إلى الدوافع الوراثية، لا يمكن أن تجرد الإنسان من حاجته الطبيعية للسلم والأمان، لهذا فهي حاجة أساسية تشكل أولوية للجميع من بين الحاجات الأساسية الأخرى.
وهكذا دأب الإنسان منذ بدء الخليقة على البحث الحثيث عن مقومات السلم، وأخذ يبحث عن ذلك ساعة بعد أخرى، وحاول أن يكتشف الأذى الذي قد يطاله من الآخرين كي يتصدى له قبل وقوعه، بل أخذ الإنسان بمكافحة حتى نفسه من أن تلحق الأذى به، طلبا للتسامح وصنع البيئة الاجتماعية الآمنة التي تسمح للجميع بالاستقرار والعمل فيما هو صالح بعيدا عن العنف والقتال وإشعال الحروب، لهذا كان ولا يزال الإنسان يبحث عن اللاعنف.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الجزء الثاني):
(تواجد الإنسان ـ ومنذ بدأ الخليقة ـ وهاجسه الأول تحقيق أعلى درجة من الاطمئنان والأمان والراحة، لـه ولعائلته، فكانت نتائج رغبته أن بدأ بمعرفة نفسه ومعرفة الآخر ومعرفة المخلوقات والطبيعة).
ولهذا أدرك الإنسان بشكل مبكر أهمية مقومات السلم، وحسم ذلك بأهم المقومات وأكثرها تأثيرا ألا وهي اللاعنف الذي اختط منه الإمام الشيرازي طريقا لبناء المجتمع الإنساني العالمي المسالم، استنادا في فلسفة الإسلام ورؤيته وقيمه التي تدفع بالتي هي أحسن، وتطالب بجنوح الجميع نحوز السلم والسلام، وهذا ما قام به الناس كي يبعدوا أنفسهم عن الأذى.
اللاعنف وتنظيم النشاطات المختلفة
فبنى الإنسان نظاما وقائما يحمي من خلاله نفسه وعائلته ومجتمعه من الأذى، ويضمن للآخرين الحماية الكافية حتى يعيش الجميع في بيئة آمنة منسجمة، لذا فإن اللاعنف هو الأسلوب الأفضل على مر التاريخ في إدارة العلاقات والنشاطات المتبادلة بين الناس سواء كانوا أفرادا أو حكومات أو جماعات أو دولا، وهذا ينسجم تماما مع الأهداف السماوية التي تحث الجميع على اعتماد العقل في تنظيم النشاطات البشرية المتبادَلة:
يقول الإمام الشيرازي:
(الإنسان يدرك المخاطر، ويعلم بضرورة اتخاذ خطوات تبعده عن الأذى، ومن هنا اختار لنفسه نظاماً وقائياً يحمي نفسه من نفسه، ويحمي نفسه من الآخرين، فكان أفضل الطرق التي جربها طول التاريخ مضافاً إلى تصريح المبادئ السماوية بذلك، هو الاهتداء إلى مبدأ (اللاعنف) أو (المسالمة) كسلوك يدعو إلى الركون إلى العقل، واللجوء إلى التسامح).
نستطيع أن نشتق من اللاعنف سلسلة من المفردات التي يمكن أن نصوغ منها نوع الاستقرار والأمان الذي نبحث عنه، فالجميع لا يرغب بالحرب ولا القتال ولا اختلاق الصراعات النارية المؤلمة، بل الناس بطبيعتهم يتمونون العيش في ظل منظومة علاقاتية تبتعد عن الخشونة، وترفض التجاوز على حقوق الآخرين، ولكن هناك من يتجاوز هذا الأمر وخصوصا بعض الحكام، الطغاة منهم والمستبدون على وجه التحديد.
لذا لابد من البحث عن الوسائل والأساليب التي تقود الناس نحو الأمان، والاستقرار والازدهار، وتبعدهم عن العنف، لأن العنف لا يخدم أحدا، ويؤذي الجميع في نهاية المطاف، ذلك أن الانتصار بإزهاق الأنفس لاا يعني انتصارا، كونه يزيد من الأحقاد والناس لا تنسى قتلاها خصوصا إذا جرى ذلك ظلما وعدوانا، فضلا عن أن اللاعنف يسهم في بناء حياة نموذجية.
الإمام الشيرازي يشير إلى ذلك قائلا:
)إن (السلم والسلام) بمعناهما الأعم والشمولي يقتضيان الأمن والعافية، والاستقرار والازدهار، وكل ما يوجب تقدم الحياة وتطورها، ووضعها في أبعادها الصحيحة، صحية واجتماعية، واقتصادية وسياسية، وعسكرية وإعلامية، وغيرها(.
ويُقال أن علماء النفس يؤكدون كثيرا على أن اللاعنف كلمة تشيع الأمن في نفوس الأمان، وتنشر الحياة المطمئنة، وترفض القسر والقهر والإجبار، لذلك فإن الإنسان بطبيعته يبحث عن هذه الحاجة الأساسية المسالمة، لاسيما أن شيوع حالة السلام تسمح بالتطور والتقدم وصناعة العيش الرغيد، على عكس حياة الحروب التي تحرم الجميع من الحياة المستقرة السعيدة.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(اللاعنف كلمة تدخل في نفس الإنسان الاطمئنان والراحة والهدوء، وتوحي إليه بذلك. ومن الواضح أن الكل يبحث عن السلم والسلام في حياته، ويطلبه بفطرته، بل هذا ما نشاهده عند الحيوانات أيضاً، فكلها تطلب السلام).
وهنا يطرح التساؤل التالي فيقول: (الأمم التي فقدت سلمها وسلامها في ناحية من النواحي، هل تتمكن من إعادته لنفسها؟).
الابتعاد الكلي عن التصادم
ثم يجيب عن ذلك بنفسه حين يقول بأن السلم واللاعنف توأمان وصنوان لا يفترقان، وأن ألسن الجميع تردد هاتين المفردتين، حيث يبحث عنهما الجميع لبناء الحياة السعيدة المستقرة الآمنة، وهذا ما يحتاجه العالم أجمع، سواء الدول الكبيرة أو المتوسطة أو الصغيرة، بالإضافة إلى حاجة الأفراد والجماعات بمختلف مسمياتها إلى السلم والابتعاد عن التصادم.
يقول الإمام الشيرازي:
(السلم والسلام كلمة ترددها الألسن في المحافل الصغيرة والكبيرة، الدولية والمحلية، خصوصا في هذا العصر الذي تقدم في علومه وحضارته، كما تقدم في أسباب التناحر، فإن الحياة حيث صارت ضيقة إلى أبعد الحدود، والكل يريد كل الخير لنفسه ويريد إبعاد كل الشر عنها، تصادمت المصالح في إرادة الاستحواذ، وفي هذا الإطار تنشأ الحروب والثورات والإضرابات والمظاهرات وأسباب العنف كما هو مذكور في علم الاجتماع).
ومع أن الأرض تكاد اليوم تضج بالحروب، إلا أن الجميع يدرك تمام الإدراك، أن السلم واللاعنف هو الأسلوب الوحيد الذي يضمن للجميع حياة مستقرو وآمنة، فليس هناك فخر للقوي الذي يظلم الأقل قوة منه، لأنه في جميع الأحوال لا يهنأ بنصر ظالم على طرف آخر مظلوم، حتى مصطلح الحروب المتكافئة لم يعد مقبولا، فليست هناك حالة مفيد في التكافؤ الحربي أو سواه، ذلك أن الحرب تأكل الأخضر واليابس ولا يوجد منصر فيها إلا بالاسم فقط، أما في النتائج فإن الجميع خاسر وأولهم الطغاة.
ولهذا أدرك الجميع حاجة العالم للسلم، وترسيخ اللاعنف كأسلوب حياة ينظم العلاقات بين الدول والمجتمعات التي تتقاسم العيش في الكرة الأرضية، اليوم على الرغم من الحروب المشتعلة بين الغرب والشرق، وغيرهما، إلا أن الجميع يبحثون عن السلام ويسعون إليه بطريقة وأخرى، لاسيما عن طريق الإعلام ووسائل التواصل المختلفة ومنها المؤتمرات الكبيرة.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:
(في هذا العصر بالذات، التفت الإنسان إلى ضرورة البحث عن السلم والسلام، وصار الشغل الشاغل للناس في وسائلهم الإعلامية وغيرها، ومدارسهم الخاصة ومدارسهم الدولية، فصاروا يتكلمون في الشرق والغرب عن السلم والسلام، ويبحثون عنه في المؤتمرات الدولية وفي المؤتمرات القطرية، وينشدونه في كل محفل من المحافل الدولية).
خلاصة القول، هنالك مقومات للسلم العالمي، وفي المقدمة منها اللاعنف، حيث قدم الإمام الشيرازي نظريته المعروفة حول هذا المصطلح، وخلص إلى أن العالم إذا أراد أن يستعيد العيش الكريم العادل، والأمن والسلام، عليه أن يكرس كل جهوده في نشر اللاعنف كمنهج حياة بين المجتمعات كلها ودول العالم بلا استثناء.
اضف تعليق