كل إغراءات الدنيا، وكل ما عرضه يزيد على الإمام الحسين عليه السلام، لم تحرك شعرة من جسده الشريف، ولم يرف لها قلبه، ولن تستسيغها روحه، فبقيَ الرافض الأبي، المناهض لطغيان الحاكم وظلمه وجوره وعدوانه، الصارخ بصوت الحق والمنتصر للمظلومين قولا وفعلا، ليقدّم نفسه ودمه وذويه وأصحابه...
(الإمام الحسين عليه السلام رفض الدنيا وأبى الانقياد للطغاة) الإمام الشيرازي
تربّى في حاضنة النبوّة، وترعرع في مدرسة الإمامة، ونهل من العلم أعلمهُ ومن السخاء أكرمه، ومن العطاء أكثره، ومن الزهد أعظمه، إنه الحسين بن علي عليهما السلام، سلسل النبوة وامتداد الإمامة، ونسغ الشجاعة، ونبذ الدنيا بمفاتنها، فصار أكثر الناس زهدا في عهده، ونظر إلى الدنيا كأنها واللاشيء سواء.
هذا هو الإمام علي عليه السلام، الذي اشتغل في حياته مجاهدا في سوح الحق، رافضا للظلم أيًّا كان حجمه أو شكله، أو مصدره، نصيرا لبني الإنسان، لا تغرّه مغريات الدنيا أو مباهج السلطة، قضى حياته ساعيا في قضاء ما يحتاجه الناس، ديدنه العبادة والدار الأخرى.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يتناول جانبا من السيرة الحسينية، في كتابه القيّم الموسوم بـ (من حياة الإمام الحسين عليه السلام) فيقول:
(كان الإمام الحسين عليه السلام أكثر أهل زمانه زهدا، وكان تاركاً مباهج الدنيا وزخارفها، مشتغلاً بالعبادة والدار الآخرة).
ومن ملَكة الزهد، ونبذ مغانم الحياة ومحافلها الآسرة، ينطلق إلى ما يضاعف الزهد ويجعله حقيقة راسخة، حيث السعي الأبدي في قضاء حوائج الناس، راضعًا هذه الصفة من أبيه أمير المؤمنين ومن أجداده عليهم صلوات الله وسلامه، فالكرم والسخاء والزهد ومساعدة الناس تلتقي كلها في شخصية الثائر الذي لا تلهيه الدنيا بملاهيها، ولا تشغله المصالح الدنيوية، وفي نفس الوقت هو حامل لوء الرفض الأعظم للشر والكراهية والظلم.
لقد دفعته ملَكة السخاء كي يستدين من الآخرين، حتى يقضي متطلبات المحتاجين بلا تردد، وصفات الكرم هذه تنبع من جذر الحسين، من الشجاعة المتوقدة في البيت العلوي الأعرق في السخاء والشجاعة والكرم، ذلك لأن الشجاعة والكرم يعلون من جذر واحد، وينطلقان من أساس علوي عظيم، وهل هناك أشجع وأكرم من أمير المؤمنين عليه السلام؟
يقول الإمام الشيرازي:
(كان الحسين عليه السلام ينفق ما عنده في سبيل الله عز وجل، حتى استدان لقضاء حوائج الناس، كما كان يفعل جدّه رسول الله سلى الله عليه وآه، وأبوه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، عن أبي جعفر عليه السلام: إن الحسين عليه السلام قُتل وعليه دَين، وإن علي بن الحسين عليه السلام باع ضيعةً لـه بثلاثمائة ألف درهم ليقضي دَين الحسين عليه السلام).
سبط السلالة النبوية الأكرم
لا غرابة عندما يتخذ سيد الشهداء الإمام الحسين موقف الرفض القاطع لمبايعة يزيد، فجميع المؤشرات تنبئ بهذا الرفض، فمن هو جدّه ومن هو أبوه ومن هو أخوه ومن هي أمه، إنه عليه السلام سبط السلالة النبوية الأكرم، والمنسوب ولادةً للإمامة العلوية الأطهر، لذلك كان أيقونة الزهد، ورمز السخاء والعطاء، وهو الذي لم يعقد علاقة ودٍّ مع الدنيا، ولا قرابة من أي نوع مع مغريات السلطة.
فقد سعى يزيد بتوجيهات من أبيه، بأن يتقرّب ويغري الحسين (عليه السلام)، لأنه يعرف حجم الخطر الذي يمثله الحسين عليه السلام على عرش الظلم والطغيان، فنصحه أن يُكرِم الحسين عليه السلام بكل ما يريد وما يطلب، وهي كلمة لا أكثر بمجرد أن ينطقها (المبايعة) فسوف يحصل على كل كنوز الدنيا، ولكن أنى لأرباب الظلم أن يتقربوا من طهر الشجرة النبوية العلوية العظمى.
كل إغراءات الدنيا، وكل ما عرضه يزيد على الإمام الحسين عليه السلام، لم تحرك شعرة من جسده الشريف، ولم يرف لها قلبه، ولن تستسيغها روحه، فبقيَ الرافض الأبي، المناهض لطغيان الحاكم وظلمه وجوره وعدوانه، الصارخ بصوت الحق والمنتصر للمظلومين قولا وفعلا، ليقدّم نفسه ودمه وذويه وأصحابه، قربانا لما تعلّمه في مدرسة الزهد والعطاء النبوية العلوية.
اذا يقول الإمام الشيرازي:
(ومن زهد الإمام الحسين عليه السلام أنه رفض بيعة يزيد، على الرغم من الإغراءات الدنيوية الكثيرة والكبيرة، حيث وعدوا الإمام عليه السلام بأنه لو بايع لنال من الدنيا الحظ الأوفر والنصيب الأوفى ويكون معظَّماً محترماً عند يزيد، مرعي الجانب، محفوظ المقام، لا يُرَدّ لـه طلب ولا تخاَلف لـه إرادة).
نعم لقد حذر معاوية ابنه يزيد من الخطر الجسيم الذي يشكله الإمام الحسين عليه السلام على عرش الطغيان، وطلب منه أن يقدم كل ما يريده الحسين وما يطلبه من دون مناقشة إذا تعلق الأمر بالمال والمغريات والمناصب.
لقد كان يزيد مستعدا لتطبيق وصية أبيه بتقديم المغريات الكبرى للحسين عليه السلام، ولكن أنى للثوار العظماء أن يستجيبوا لمغريات الحكام الفاسدين، وهكذا كان الحسين بن علي عليهما السلام، رافضا بشكل لا يقبل النقاش مطلقا، لكل ما عرضه عليه يزيد في مقابل كلمة واحدة هي المبايعة وأجابه بذلك الرد الحاسم (مثلي لا يبايع مثله)، وانتهى الأمر.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على:
(إن يزيد كان يعلم بمكانة الإمام عليه السلام بين المسلمين وكان يتخوف خوفًا شديدا من مخالفته لـه، وهذا ما جعل معاوية يتظاهر بتحذير ابنه يزيد من محاربة الحسين عليه السلام ويوصيه بإكرامه.. فكان يزيد مستعداً لأن يبذل في إرضاء الإمام عليه السلام وإسكاته كل رخيص وغال).
تنقية العقائد من بدع الضلال
لقد حُسم الأمر تماما لصالح صولة الحق، والثبات على المبدأ، ورفض مغانم الدنيا، والتمسك بالزهد، وفي نفس الوقت إعلان الثورة على الظلم، واسترجاع رسالة الإسلام التي خطفها يزيد وسار فيها في مسار منحرف، وأراد أن يشوّه صورة الدين والعقائد، فغيّر أسس الرسالة النبوية، وتجاوز على الأحكام الإسلامية.
لهذا لا يمكن للإمام الحسين أن يصمت إزاء هذه التجاوزات التي لا مجال للتعامل معها، كونها تأخذ المسلمين والإسلامين إلى مستنقع الفساد والظلم والاستبداد، وإذا أردنا نحن أو غيرنا أن يقارن بين سلالة الحق النبوي العلوي، وبين ممثل الفساد والاستبداد، فلا سبيل لأية مقاربة بينهما، لهذا كان الرفض هو الحل الذي لا بديل عنه مطلقا، فشتان بين رمز النضال الإنساني الأعظم الإمام الحسين عليه السلام، وبين الصورة الأسوأ للشر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
يقول الإمام الشيرازي:
(وهكذا رفض الإمام الحسين عليه السلام الدنيا وأبى الانقياد للطغاة قائلاً عليه السلام: إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرمّة ومثلي لا يبايع مثله).
بالنتيجة خرج الإمام الحسين عليه السلام من الحجاز نحو العراق، مصطحبا عياله، وأنصاره، حاملا لواء الثورة والتغيير، كي يضع حدا للتجاوز على الإسلام، معلنا الخروج على يزيد، وإيقاف عملية التشويه والانحراف الخطيرة التي قام بها تجاه الرسالة المحمدية الإسلامية الحقيقية، جامعا بين الزهد، والعطاء، والثورة وهو ما يستحقه أهل البيت عليهم السلام.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(فخرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة بأهل بيته وعياله وأولاده نحو مكة والعراق تاركاً الدنيا ومباهجها، ومتخذاً طريق الشهادة لنفسه وأهل بيته وأصحابه، والأسر لعياله وأطفاله. وقد ورد في الشعر المنسوب إليه عليه السلام يوم عاشوراء:
تركت الخلق طرّا في هواكا..... وأيتمت العيال لكي أراكــا
فلو قطعتني بالحب إربــــــاً.... لما مال الفــؤاد إلى سواكــــا.
إنها مدرسة الزهد والعطاء، وتُضاف إليها الثورة على الانحراف، واسترجاع المسار الإسلامي نحو طريقه النبوي الصحيح، وتنقية العقائد من البدع والدسائس، وتنظيف الأحكام من كل ما أضافه يزيد من تحريف عبر الأقلام المأجورة، هذا ما قام به الإمام الحسين الذي كان ولا يزال وسيبقى شعلة الحق الإنسانية المضيئة إلى الأبد.
اضف تعليق