هناك قيم سياسية ينبغي ترسيخها في ساحات العمل السياسي، فالقيم لا تنحصر في الاخلاق او الجانب الاجتماعي فقط، وانما هناك قيم ينبغي العمل بها في العلاقات السياسية، صحيح أن السياسة تقوم على المصلحة، وقد يكون المضمون البراغماتي هو الأقرب لها، وربما يسعى العاملون في الحقل السياسي الى تأمين أكبر قدر من الضمانات لحماية المصالح القومية لدولهم، ولكن عندما تكون هناك قيم سياسية تضبط ايقاع العلاقات الدولية، فإن العالم سوف يكون أفضل، وأكثر استقرارا.
لهذه يدعو الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الاستفادة من عاشوراء)، الى حل المشكلات السياسية في عالم اليوم، من خلال توظيف قيم عاشوراء التي يمكن في حالة تمسك القادة السياسيين بها، أن تعالج الكثير من الأزمات والمشكلات التي يعاني منها العالم، مثل العنصرية، والاستبداد، والطغيان، والفقر، وما الى ذلك من ظواهر وأزمات سياسية تسيء لقيمة الإنسان.
وتأسيسا على هذه الرؤية التي يطرحها الامام الشيرازي امام من يهمهم الأمر ممن يعملون في السياسة، وهم كثيرون في عالم اليوم، ومسؤولون عن سبعة مليارات من البشر، لذلك عليهم أن يركنوا لصوت العقل، وللآراء التي تسعى لتقليل أزمات الانسان والمشكلات التي تعصف بحياته اليوم.
لذا ينصح الامام الشيرازي قادة العالم الى امكانية الاستفادة من قيم عاشوراء، عندما يقول سماحته في هذا المجال بكتابه المذكور سابقا: (يمكن أن يستفاد - قادة العالم- من واقعة الطف في حل المشاكل السياسية، كمشكلة الاستبداد والدكتاتورية السائدة في العالم الثالث، وفضح الطواغيت الذين اتَّخذوا عباد الله خولاً وماله دولاً ودينه دغلاً).
ويؤكد سماحته على أهمية استثمار المعنويات الهائلة التي تظهر في محرّم، حيث تعيش الأمة الاسلامية أعظم الثورات التي وقفت ضد الطغيان الأموي، وامكانية ان تنعكس هذه المعنويات والقيم التي تفرزها عاشوراء، على الوقع العالمي المشحون بالتطرف والتعصب والتصادم، والصراعات التي غالبا ما يكون وقودها فقراء العالم
لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (من الضروري توسيع دائرة الاستفادة من محرّم ومعنوياته الهائلة لخدمة الإنسانية ولتحقيق السَّلام في العالم).
مساوئ التمييز العنصري
من المشكلات الشائكة التي تعبث في عالم اليوم، تفضيل الطبقة السياسية والحكام لمصالحهم على عامة الناس، وهو امر يتسبب بإلحاق أضرار بالغة بالشعوب والأمم، لذلك يسعى الحاكم المستبد وحكومته الى بث الفتن بين الناس والتفريق بينهم على اساس عرقي او ديني، او غير ذلك مما يثير الاحقاد والضغينة بين أفراد المجتمع.
لهذا نلاحظ أن الهدف الأول للامام الحسين (ع)، هو القضاء على الطغيان، والوقوف بوجه الطغاة مهما تعاظمت قوّتهم، وجبروتهم، بمساعدة معاونين لهم، من الاثرياء والمفكرين ايضا، فهناك من يضع نفسه في خدمة الطاغية، فكرا وأموالا لكي يكسب رضاه ورعايته التي غالبا ما تعود عليهم بالمال الحرام الممزوج بالمهانة والإذلال، ولكن مثل هؤلاء لا يعرفون معايير الكرامة ولا يشعرون بها، فالأهم بالنسبة له هو تحصيل الأموال واكتنازها على حساب الآخرين من عامة المجتمع.
يقول الامام الشيرازي في هذا المضمار: (إن المصالح الشخصية لجملة من الحكّام وبعض الأثرياء المترفين وعلماء السوء تقتضي وجود التمييز والفرقة والعبودية بين الناس؛ ولذلك جاهد الإمام الحسين -ع- للقضاء على هذه الأمور).
ومع ذلك يعاني عالمنا اليوم من مساوئ العنصرية، مع أن الغرب وقادته وكثير من المطبلين لهم، يتحدثون عن الحريات التي يرفل بها العالم! وحالة الرفاهية والتطور التكنولوجي الهائل، ولا يتحدثون عن الفقر والعنصرية التي تفتك بالفقراء الذين شكلوا نسبة واضحة في شعوب العالم، كما في المجاعات التي تضرب بعض الشعوب والأمم، استنادا الى الارقام التي تعلنها المنظمات الدولية المستقلة في هذا المجال، فهناك حوالي 3 ،1 بليون شخص لا يزيد دخلهم اليومي عن دولار واحد على مستوى العالم، هذا بالإضافة إلى أن هناك ما يقرب من 33% من الأشخاص في الدول النامية يعتبرون من الفقراء، وتزيد هذه النسبة من 70 إلى 80% في المناطق البيئية الصحراوية بإفريقيا.
وهذا مثال بسيط يكشف عن زيف من يدّعي أن عالم اليوم اصبح أفضل، بل العكس هو الصحيح، بسبب ابتعاد القادة والحكومات عن القيم الانسانية التي تعطي الحلول المناسبة للمشكلات التي تعصف بالبشرية بين حين وآخر، وطالما توجد تفرقة على أساس عنصري، يصنعها المستبدون، فإن العالم لا يستقر، والبشرية تبقى بحاجة الى استثمار القيم التي ترفض التمييز بين الناس على أسس باتت بعيدة عن العقل والواقع الانساني المعاش في الوقت الراهن.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (تعاني أغلب بلدان العالم من العنصرية ـ حتى التي تطلق على نفسها المتحضّرة ـ فالتمييز العنصري والفروق اللغوية والجغرافية والقومية والعرقية هي الحاكمة في عالم اليوم).
سر محاربة الطغاة للحسين (ع)
لقد أثبتت التجارب والتاريخ، أن جميع الحكام الفرديين، وحكوماتهم الفاشلة، جعلوا المبادئ الحسينية والافكار التي نادى بها ابو الاحرار الحسين (ع)، ضمن أهدافهم التي ينبغي محاربتها والإطاحة بها ومحاصرتها، كي لا تترك تأثيرها على الشعوب، فتثور على حكامها المستبدين، وهكذا كان ولا يزال هؤلاء الحكام على عداوة مستدامة مع الفكر الحسيني لأنه يهدد مصالحهم، ويحاصر عروشهم بالمد الشعبي الذي يستمد إصراره من قيم عاشوراء.
ولعلة مبدأ الاصلاح الذي بدأت به الثورة الحسينية، والذي كان شعارا ومضمونا لواقعة الطف، بقي حيّا على مر الأزمنة والى يومنا هذا، يهزّ عروش الظالمين، ويضاعف من بغضهم وعداوتهم للمنهج الحسيني الرافض لهم جملة وتفصيلا، فلا تقارب ولا انسجام ولا قبول بالظلم، ولا مداراة لمن يستبيح الحق، فالظالم والمتعالي على شعبه، تقف ازاه مبادئ عاشوراء بالمرصاد، فتكسر شوكة الجبروت وتحطم بؤر الظلم.
وهكذا أعلن حكام الاستبداد حربهم على الحسين (ع)، فكرا ونهجا وشعائر، وكل ما يمت بصلة للفكر الحسيني، لأنهم يعرفون أن هذا الفكر وما يحمله في طياته من قيم عظيمة يهدد مصالحهم في الصميم، لهذا تبقى الحرب مستعرة وشعواء ضد عاشوراء، واتباع الحسين (ع)، وكل من يحيي ذكر آل البيت (ع)، لأنهم مصدر التهديد الحقيقي للحكام والحكومات الظالمة.
ولهذا يقول الامام الشيرازي في كتابه (الاستفادة من عاشوراء): (يكمن سرّ محاربة الطغاة للإمام الحسين عليه السلام فكراً ونهجاً وبلداً وحرماً وزيارةً وشعائرَ ومصاباً وبكاءاً وذكراً بسبب دعوته للاصلاح كما في قوله -ع- "إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي وشيعة أبي علي بن أبي طالب أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر").
وخلاصة القول أن الفكر الحسيني لن يموت، وأن قيم عاشوراء باقية تتجدد في كل يوم وشهر وعام، لا يطولها الضمور كونها تنتمي الى الحسين (ع) فكرا وقيما وعملا، وتبقى هذه القيم طريقا واسعا ومفتوحا امام المسلمين والانسانية كافة، لمحاربة الاستبداد، ومقارعة الطغيان، ومواجهة الظلم وأصحابه بعزم لا يلين، وارادة تزداد قوة يوما بعد آخر، ليبقى الهدف صنع عالم قائم على القيم الانسانية التي تضمن العدالة بين الجميع، وتساوي بين كل الناس، وتجعلهم سواسية كما خلقهم الله في لحظة الولادة.
اضف تعليق