أول هدف ركّز عليه الأنبياء، والأديان، هو محاربة العنف، والحد منه، بل والقضاء عليه، ولجأ الأنبياء إلى وسائل عديدة لنشر السلام فيما بين الناس، وواحدة من أهم أدوات الدين لنشر الوئام والاستقرار في المجتمع هي الأحكام الشرعية التي تحث الجميع على التسالم، والابتعاد عن الكراهية بكل أشكالها...
السلام له معانٍ عديدة، وهو ينتسب لفظا ومعنى للإسلام، لأن أحد الأهداف العظيمة للإسلام، نشر السلام والوئام في ربوع الأرض كلها، وبين أبناء البشرية كلها، بغض النظر عن الانتماء العرقي، أو الديني، أو الطائفي، وما شاكل.
لذا فإن السلام يعني عدم الاقتتال، ويعني انطفاء الحروب، ويعني الانسجام والتقارب بين الناس، بعيدا عن الصفات والأشياء التي قد تفرّق فيما بينهم، وهذا المعنى من أهم المعاني التي يقصدها الإسلام وتشيرُ إليه وإلى ما يهدف له، بدءًا من مساعي الأنبياء الذين هبطوا على الأقوام البشرية التي كانت بحاجة قصوى للفهم والوعي والاقتناع.
لذا أول هدف ركّز عليه الأنبياء، والأديان، هو محاربة العنف، والحد منه، بل والقضاء عليه، ولجأ الأنبياء إلى وسائل عديدة لنشر السلام فيما بين الناس، وواحدة من أهم أدوات الدين لنشر الوئام والاستقرار في المجتمع هي الأحكام الشرعية التي تحث الجميع على التسالم، والابتعاد عن الكراهية بكل أشكالها.
من معاني السلام المهمة، التحية التي يلقيها الناس على بعضهم، وهي جملة يبتدئ بها الناس مع بعضهم سواء في الحوارات، أو المقابلات، أو في العلاقات الاجتماعية بشكل عام، حتى أن الأحكام الإسلامية وأحاديث وروايات أهل البيت (عليهم السلام) أوصت بالسلام والتحية، وجاء في الآية الكريمة: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)، سورة النساء، الآية 86.
إذن هناك معان عديدة للسلام، وهناك أهداف عديدة له، كلها مجتمعة غايتها نشر السلم والانسجام بين الناس، حتى يعيشوا حياتهم في استقرار وهدوء وسعادة، وهذا يعني أن مفردة السلام تمثل التحية التي يتقابل ويتواصل بها الناس مع بعضهم، فجملة (السلام عليكم) هي من جوهر الإسلام، وهي دعوة واضحة وصريحة للدين موجّهة إلى المسلمين أولا وللبشر، بأن يبدأوا بعضهم بعضا بتحية السلام.
وهذه المفردة التي يبدأ بها الناس الحوار والكلام فيما بينهم، إنما تدل على نيّة السلام والوئام التي يكنها الناس لبعضهم بعضا.
السلام يقلل فرص الكراهية
وقد أكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) على وجوب وأهمية الإصرار على السلام، وهو يقصد هنا حتمية التواصل بين الناس من خلال إطلاق جملة (السلام عليكم) على بعضهم، حتى تكون الرابط الدائم والمستمر الذي يربط ويقرب بينهم، وكأن الإمام الشيرازي يستبطن ما يحدث في عقل الإنسان وباطنه، فهناك من يدخل في دهاليز الكبرياء والتكبر لدرجة أنه لا يرد التحية تنكيلا بالآخر.
وهناك أشخاص يمتنعون عن المبادرة بالسلام والتحية، تكبّرا على الآخرين، واستصغارا لهم، وهذه عادات ليس صالحة ولا سليمة، وهي تدخل ضمن تخريب العلاقات الاجتماعية، وإضعاف البنية المجتمعية، حيث تسود حالات الضغينة والكراهية بدلا من أن يسود السلام والانسجام فيما بين الناس، في حال تصاعدت حالات الكبرياء الجوفاء التي تجدها في الشخصيات المريضة نفسيا، تلك التي تجدها فارغة من الداخل معنويا.
في كتابه القيّم (لكيلا تتنازعوا) يقدم لنا الإمام الشيرازي، إحدى القصص التي حدثت معه شخصيا، وهي تقدم لنا نموذجا من الناس المتكبرين الواهمين الذين يأنفون عن ردّ السلام والتحية، لكن الإصرار على السلام وعلى الهدف والتفوق الروحي والمعنوي والمبدئي، يحطّم تلك الكبرياء المريضة الفارغة، فيعود المتكبر إلى رشده، ولكن كيف عاد؟؟
إنه الإصرار على السلام، مرة وأخرى وثالثة ورابعة وعاشرة، بل الإصرار على السلام طالما كان الإنسان على قيد الحياة، لأن النتيجة هي شيوع السلام بين أبناء المجتمع الواحد، نزولا إلى الأسرة الصغيرة، وصعودا إلى البشرية كلها، لأن السلام هو أسلوب حياة، وممكن جدا أن ينتشر إذا كان هناك إصرار بين الناس على السلام.
تحطيم أوهام الأنا بالسلام
يقول الإمام الشيرازي في الحادثة التي عاشها ورواها بنفسه: (كنت أمرّ على صاحب دكان في طريقي إلى حرم الإمام الحسين (عليه السلام)، وأسلّم على صاحبه كما كانت عادتي في السلام على صاحب كل دكان يقع دكانه في طريقي، وذات مرَّة سلمتُ على صاحب الدكان، وإذا به يصرف وجهه عني ولا يُجيب، وتكرَّرت القصَّة مرّات ومرّات حتى تأكدت أنه لا يريد الإجابة على سلامي، ولم يكن بيني وبينه صداقة حتى أبعث إليه برسول يستفسر منه عن السبب، لكنني واصلت السلام، وهو واصل تجاهله للردِّ على السلام.
فتأمّلت كثيراً، وفكرت بعدم السلام عليه، لأنَّ سلامي عليه ليس بواجب وإني أحمّله تكليفاً شرعياً في الرد على السلام، كما أن عدم رده للسلام بمثابة الإهانة لي، وأنا أفكر في تغيير موقفي منه وإذا بي أتذكر قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال:(لا يكونن أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته). وتذكرت قول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق: (وسددني لأن أعارض من غشّني بالنصح وأجزي من هجرني بالبرِّ)، ولذا أخذتُ أكرِّر قول الإمام (عليه السلام) مرّات ومرّات وأسلم عليه حتى استحيا وأجاب ببرود، ثم بعد مدة أجابني بحرارة قليلة. وهكذا حتى رجع إلى سابق عهده.
ولـمّا استفسرت عن حاله، قيل لي: إن شيوعياً من أصدقائه أثرّ عليه وحوّلـه ضدي، لكن إصراري على السلام أعاده إلى رشده؛ لأنه كشف له عن عظمة الإسلام).
إذن من محاسن السلام، هو الثبات عليه، والتمسك به، وتكراره حتى على من لا يرد التحية ولا يرد السلام، لأن المأخوذ بالكبرياء الفارغة، سوف يعود إلى رشده، عندما يستمر المسلم أو الإنسان بمواصلة (السلام) وإلقاء التحية عليه، لدرجة أن يستعيد رشده، ويفيق من أوهامه، ثم يعرف أين تكمن الحقيقة، فيرد على التحية بمثلها أو بأحسن منها.
وبهذه الطريقة سوف تكون المكاسب اجتماعية فردية وجماعية، فالسلام سوف يسود بين الأفراد، وتتحسن علاقاتهم الاجتماعية الفردية أو العائلية أو العملية وما شاكل، وإذا تكررت هذه الحالة بين أناس آخرين، فسوف تصبح سلوكا اجتماعيا جمعيا أو مجتمعيا، وبالتالي تتوسع رقعة السلام بين الناس، وتضيق رقعة الكراهية والبغضاء.
هكذا يمكن أن يبنى الفرد السليم، المتواضع، المتعاون، المسالم، المنتِج، النشيط، المتحرك، والمؤمن، وهو نموذج جيد في مجتمع، ينشر السلام بين أفراده، وبين عوائله، وبين جماعاته، وبين أبناء المجتمع، حتى لو كان التنوع العرقي والديني يتعدد في بنيته، لأن السلام لا علاقة له بهوية الإنسان، وإنما يهدف إلى نشر الوئام والانسجام بين بني البشر.
خلاصة ما يريده الإمام الشيرازي (رحمه الله) من سرده لهذه الحادثة التي كان شاهدا عليها، وعاشها بنفسه، أنه يريد أن يخبر الجميع، بأن الثبات على السلام، أمر في غاية الأهمية، وأنه البوابة التي تنشر الاستقرار سواء بين الأفراد أو حتى بين الجماعات والمجتمعات، وهذا هو الهدف من تركيز أهل البيت (عليهم السلام) على أهمية السلام، والتشجيع على إبعاد الكبرياء والترفّع الواهم، فمن لا يرد سلام حاول معه مرارا وتكرارا حتى يستجيب نادما، فيرد تحيتك بأحسن منها.
اضف تعليق