ان التمسك بالعمق المعنوي لا يعني التفريط بالحاجات المادية، ولا يجب على الإنسان أن يضحي بجماليات الحياة، بل على العكس من ذلك فإن الإنسان حر في امتلاك الجمال في كل شيء، ولكن عليه أن لا يفرّط بالعمق المعنوي والفكري للأشياء المادية، وبهذا يكون قد كسب المعنويات والماديات في نفس الوقت...
(كلّما تعلّق الإنسان بالمعنويات قلّ إقباله على الكماليات المادية)
الإمام الشيرازي
ترتبط مفردة المعنويات بالمعنى أو بعمق الأشياء بمختلف أنواعها وأشكالها، لذلك فإن العقل الذي يغوص في الأعماق يكون باحثا عن الجوهر دائما، فحين يعبأ الإنسان بالقضايا الجوهرية للناس وللحياة، تجده يُعَدّ من خيرة البشر دائما، لأنه يتحلى بعقلية عميقة رصينة لا تشغلها الصغائر أو الأمور السطحية التي لا تُسمن ولا تغني من جوع.
هناك في المقابل عقول بسيطة أو ساذجة، كونها لا تنشغل بالأعماق ولا بالمعنويات، وإنما تشغلها الصغائر، وتنبهر بالسطحية والتوافه، فتضيع عليها المعاني الخلاقة، وتفقد سحر القضايا الجادة، والأفكار العميقة، فيضيع عمرها هدرا في هذه الأمور التي لا تستحق الانشغال، لذا فإن البون سوف يكون شاسعا بين الإنسان الباحث عن المعنى والمنشغل بالجوهر، وبين الإنسان المنبهر بالأشكال السطحية والكماليات التافهة.
من هنا نجد أن حاملي العقول الساذجة، يكون همّهم الأكبر هو البحث عن الصغائر كونهم لا يُبصرون من الحياة سوى الأشياء والأشكال الظاهرية فقط، كونهم لا يجهدون أنفسهم ولا عقولهم ولا يجتهدون في البحث المعمّق في معاني الأشياء وجوهرها، وهذا يعني بساطة وتفاهة عقل الإنسان الذي يبقى مكتفيا بأشكال الأشياء دون الغوص في أعماقها، فيكفيه الظاهر المنمّق المزوّق منها حتى لو كان محض زيف، أو وهم بعيد عن الواقع.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):
(لا حاجة للكماليات إلاّ بالمقدار الذي يقرّه العقلاء، فالبحث عن الكماليات هو ديدن البسطاء الذين يرون من الحياة ظاهرها، فيريدون أن يكتفوا بمظهر حسن، وهم بعيدون عن الواقع والجوهر والحقائق).
مشكلة الانشغال بالكماليات السطحية
من القضايا المعروفة أن الذي ينشغل بالكماليات تجده فارغا وخفيفا من حيث قوة النفس وثقلها، فتجد نفسه خفيفة فارغة كونها لم تفهم الموازين التي تمنحها المكانة الكبيرة والثقيلة التي تميزها عن غيرها، حيث أن مكانة الإنسان تُبنى على قوة نفسه، ومتانة الأفكار التي يحملها عقله ويؤمن بها ويعتمدها في حياته وفي تعامله مع الآخرين.
لذا فإن خفيف النفس لا يؤمن بالتعامل القائم على القيم الصحيحة في الحياة، ولا تعنيه المعنويات من قريب أو بعيد، بل تراه مشغولا غاطسا في الكماليات السطحية أو الشكلية، حتى لو أخذت منه الكثير من الوقت والجهد، فهو لا يثمّن الوقت، ولا يعبأ بفقدان الزمن ومرور العمر، كما أنه لا يعبأ بضياع الفرص المعنوية والفكرية الثمينة، لأنه يقضي عمره كله مشغولا بالقضايا التافهة والبسيطة، وغير معني بالموازين التي تمنحه مكانة عالية.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن منشأ البحث عن الكماليات هو خفة النفس، وخفة النفس تنشأ من عدم فهم الموازين).
ولكن يبقى الأمل قائما بأن يتغير الإنسان نحو الأفضل، مع تقادم الزمن، وهناك استنتاج يؤكد أن الإنسان يمكنه مستقبلا أن يفهم كفاءاته مع مرور الوقت، ويمكنه أن يطورها أيضا، وهذا يجعله أكثر قدرة على التعامل الصحيح مع الآخرين، كلما نضج أكثر، مما يعني بأنه يتطور عقليا وفكريا، وفي نفس الوقت يطوّر قدراته وكفاءته.
هذا السلوك سوف يجعل الإنسان وهو ينشط في محيطه الاجتماعي أكثر قدرة على التوازن وكسب الآخرين من خلال نضجه وتوازنه واعتماده للوسطية وحسن التعامل مع الناس، والابتعاد عن القرارات الحدّية المتعصبة، والاتجاه نحو المرونة في علاقاته المختلفة بعيدا عن أسلوب الإفراط والتفريط، مما يجعل منه إنسانا وسطيا حكيما ومقبولا اجتماعيا.
الإمام الشيرازي يشير إلى هذه النقطة بوضوح حين يقول:
(لما كان الإنسان في المستقبل أقدر على فهم كفاءاته، فهو أقدر على النضج وإيجاد الموازنة المعقولة التي تجعله يتصرف تصرفاً معقولاً في الحياة دون إفراطٍ أو تفريط).
هناك قضية أخرى يتم التركيز عليها، وهي إن الإنسان لا يجب عليه الحصول على الأمور التي يحتاجها بكل السبل والوسائل، بل هناك مراتب وأولويات، نعم من حقه الحصول على القضايا الجميلة التي يطمح بها كل الناس، ولكن تبقى الواجبات المستحَقّة أهم من سواها.
كما أن السلوك الصحيح مع الناس هو نوع من التصرفات السليمة، وهذا أمر جيد ومطلوب في العلاقات الاجتماعية، وهو يخضع للمعايير المعنوية والمادية، وأهمية أن يوازن الإنسان فيما بينها، ولكن يجب أن لا يتم التركيز على الجمال بكل أنواعه مع إهمال الجوانب الأخرى، نعم إن الله جميل يحب الجمال، ولكن هذا لا يعني إهمال الأولويات في الواجبات المهمة.
يول الإمام الشيرازي:
(إن الجمال شيء، وجعله هدفاً رئيسياً ولو على حساب سائر الواجبات، أو ذريعةً لنيل الهوى شيء آخر، وقد ورد في الحديث الشريف: إنّ الله جميل يُحب الجمال).
مكانة المعنويات في المقدَّمة دائما
ويبقى الجمال حاجة وهدفا للإنسان، ولكن عليه أن يتمسك بمعادلة التوازن بين المعنويات والماديات، فقد ينظر بعض الناس إلى الماديات على أنها نوع من الجمال كونها تعود له بالربح وتحقق له ما يحتاجه على المستوى المادي، ولكن حتى هذا النوع من الجمال لا يمكن أن يكون ذريعة ولا يكون تبريرا لبلوغ بعض الأهداف المادية غير المشروعة.
وهذا يعني أن المعنويات يجب أن تكون في المقدمة دائما، وأن يعطيها الإنسان المكانة الأعلى والأوفر اهتماما من سواها، فلا يصح مطلقا تبرير الوصول إلى المادة على حساب المعنى بسبب جمال هذه المادة، لأن الأصح والواجب أن يثمّن الإنسان المعنويات على سواها في جميع الأحوال، ولا يتعكّز على الجمال لتحقيق بعض الأهداف المادية المختلّة.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(هنالك فرق بين الموردين: الجمال كأصل، والجمال كهدف دون غيره أو ذريعة، كما هي حالة الكثير من الناس في الأوساط المادية).
لهذا يجب أن يفهم الجميع بأن مكانة المعنويات أعلى من مكانة الماديات، وهذه القضية محسومة، وهي عبارة عن معادلة توجد في حياة الإنسان، وهي تشبه كفتيّ الميزان، كفة للماديات وكفة أخرى للمعنويات، فإن تمكن الإنسان في الحفاظ على ميزان هذه المعادلة في حالة من التوازن والتساوي المستمر، فإنه سوف يحقق النجاح الباهر في حياته.
ولو أنه فرّط في حالة التوازن المهمة، واختلّ ميزان معادلة الماديات والمعنويات، فإنه سوف يكون فريسة لكثير من القضايا التي تجعله في حالة قلق، وربما يتم إلحاق الهزيمة به ويخضع لقوة المادة، في مقابل التراجع الشديد في القضايا المعنوية، مما يجعله إنسانا ماديا متعلقا بالمعنويات كونه أخفق في قضية الموازنة بين كفتيّ الميزان.
يذكّرنا الإمام الشيرازي بأن:
(هناك قاعدة إذا التزم بها الإنسان قلّ توجهه نحو الكماليات وهي: التوجّه نحو المعنويات. فكلّما تعلّق الإنسان بالمعنويات قلّ إقباله على الكماليات المادية).
وأخيرا لابد من التذكير بأن التمسك بالعمق المعنوي لا يعني التفريط بالحاجات المادية، ولا يجب على الإنسان أن يضحي بجماليات الحياة، بل على العكس من ذلك فإن الإنسان حر في امتلاك الجمال في كل شيء، ولكن عليه أن لا يفرّط بالعمق المعنوي والفكري للأشياء المادية، وبهذا يكون قد كسب المعنويات والماديات في نفس الوقت.
اضف تعليق