الصراع بين البشرية يوجد له وجهان سلبي وإيجابي، فأما الأول: فله مظاهر كثيرة منها صراع من أجل السيطرة الفردية على الحياة ومميزاتها وسحق الآخرين وحقوقهم، فالبعض يريد أن يجلب لنفسه أكثر قدر من النفع ودفع أكثر قدر من الضرر عنها، وآخر يسعى للتحكم بما ينفعه وما ينفع غيره، وثالث يسعى لإلحاق الأضرار بالآخرين...
(إن طبيعة الإنسان تنزع إلى المشروع وغير المشروع) الإمام الشيرازي
الصراع ظاهرة حتمية لا يمكن إزالتها من السلوك البشري، لسبب واضح أن زُرِعَت في كينونة الإنسان، فصار الصراع جزءا من تفكيره وسلوكه وتحركاته المختلفة، بحيث لا يمكن تحييد هذه الظاهرة، ومن المحال إيقاف وجودها بين البشر، والحقيقة التي يشير إليها العلماء المختصون أن الحياة بلا صراع قد تميل إلى الترهّل والكسل، خاصة إذا أخذنا الجانب الإيجابي من الصراع واستطعنا كبشر أن نزيح الجانب السلبي جانبا.
فللصراع كما هو معروف جانب الشر وجانب الخير، فإذا كان عنيفا متأججا وقائما على قواعد لا إنسانية، هدفها الغلَبة والتفوق من دون وجه حق، و وسائلها غير مشروعة، فهذا هو الصراع السلبي الذي لا يخدم الإنسانية في أي شيء، لأنه سيكون سببا في تدمير كل ما يبنيه الإنسان من منجزات ومكتسبات كبيرة، بل يفني الإنسان نفسه ويحطمه وينتهي به إلى الموت، وهذا ما يحدث في الحروب بين الأمم أو الدول، حيث تنتهي الحروب غالبا بخسائر هائلة لاسيما في الأرواح التي تُزهَق من الجانبين المتحاربيْن.
بل حتى على المستوى الفردي يمكن أن يكون الجانب السلبي للصراع مدمرا، فالحاكم الطاغية بسبب فرديته ونفسيته المعقدة المريضة يمكن أن يحصد أرواح شعبه ويذل الناس باستخدام القوة المفرطة ضدهم، وهذا هو منهج الطغاة في تركيع الشعوب لحماية العروش الآيلة للسقوط، لهذا يوجد أنواع من الفردية البائسة كلها تنتهي إلى الصراع السلبي ضد الناس، وتتجاوز على حقوقهم وتنتهك كرامتهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الجزء الثاني):
(الصراع بين البشرية يوجد له وجهان سلبي وإيجابي، فأما الأول: فله مظاهر كثيرة منها صراع من أجل السيطرة الفردية على الحياة ومميزاتها وسحق الآخرين وحقوقهم، فالبعض يريد أن يجلب لنفسه أكثر قدر من النفع ودفع أكثر قدر من الضرر عنها، وآخر يسعى للتحكم بما ينفعه وما ينفع غيره، وثالث يسعى لإلحاق الأضرار بالآخرين).
لذلك لا فائدة من الصراع الذي يدمر البشر ومنجزاتهم، لكن هنالك الوجه الآخر للصراع، وهو الذي يتسم بالإيجابية ويعود على الناس أجمع بفوائد لا حدود لها، بل يعود لهذا النوع من الصراع كل المنجزات العظيمة التي حققتها البشرية على مر التاريخ، سواء كانت منجزات حضارية أو صناعية أو زراعية أو سياسية أو علمية أو صحية وسواها.
هذا الوجه الإيجابي يتشكل ويصبح فاعلا وقويا حينما يتمكن الناس من تحويل إلى (حالة تنافس مشروع)، يدور فيما بينهم وفق قواعد وضوابط تحكم عملية التنافس في حدود وخطوات وثوابت لا يمكن تجاوزها، وبهذا يصبح الصراع الإيجابي حالة تنافس بين الجميع، تقوم على أسس ثابتة ومنصفة، تأخذ من العدل منهجا لها، وبهذا سوف يتراجع الصراع السلبي، وتخبو نيران الحروب وينطفئ العنف بكل أشكاله.
أشكال الصراع الإيجابي
أحد أهم أشكال الصراع الإيجابي هو ذلك الذي يدور بين في الجانب المعنوي، وهو صراع يدور بين الإنسان والشيطان، أما ساحة هذا الصراع فهي الحياة والمغريات التي تضج بها، ويسعى الشيطان لتدمير الجانب المعنوي للإنسان من خلال توريطه بالمغريات والملذات الهائلة التي تحتوي عليها الدنيا، لكن حينما يتمكن الإنسان من تحقيق النصر على الشيطان سوف يتساوى من حيث القيمة والسمو مع الملائكة.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(أما الوجه الإيجابي لهذا الصراع في هذه المسيرة فهو التنافس الذي يؤدي إلى تقدم الحياة، فعلى سبيل المثال نأخذ الصراع في الجانب المعنوي، فلو لم يوجد بين الإنسان والشيطان هكذا صراع، لم يتمكن الإنسان من التقدم إلى الدرجات الرفيعة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يمكنه الاختبار ليخرج فائزا، وينال درجة تسمو لدرجات الملائكة).
من الواضح أن الصراع بين دول العالم والبشرية بكل مشاربها، هو الذي يقف وراء ما أنتجه الإنسان من مكتشفات هائلة طورت حياة الناس في كل مكان، وجعلتها أكثر يسرا، وفيها الكثير من المستجدات التي ما زالت تتواصل في كل يوم، وهكذا تحول الصراع بين البشر من نقمة إلى نعمة، ولكن متى يتحول الصراع إلى هذا النمط الجيد من الجودة والمنجزات؟
لقد دفع الصراع الإيجابي الإنسان إلى تحقيق مكاسب كبيرة تتعلق بالناس والبشر في حيّز الأرض، لكن لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان الصراع هو السبب الأهم الذي دفع بالدول والشعوب نحو الاهتمام بما يؤكد بأنه من أهم الإنجازات البشرية على الاطلاق، لاسيما ما يتحقق على مدار الساعة في عمليات اكتشاف الفضاء المتواصلة منذ عشرات السنين، حيث وصل الإنسان القمر، وهو يخطط لبلوغ أهداف كانت في السابق في عداد المستحيل، كل هذا يحدث ويحدث بسبب الصراع الذي يدور بين البشر.
الإمام الشيرازي يقول عن ذلك:
(كذلك لولا الصراع والتنافس بين دول العالم في الجانب المادي لما حصل هذا التطور الذي تنعم فيه البشرية في المجالات المختلفة. إذ به تمكن الإنسان من الاكتشافات الكبيرة، ولم يقتصر في طموحه على اكتشاف أسرار الأرض، في بحارها وجبالها وأنهارها وأعماقها، بل شجعه البحث إلى اكتشافات جديدة في الكواكب الأخرى، حتى وصل إلى المريخ بل يريد اليوم الوصول إلى سائر المجرات).
غياب الصراع يؤدي لترهل الكائنات
لقد ذكرنا آنفا استحالة القضاء على الصراع، ولكن يمكن التحكم به أو احتوائه وهذه هي الطريقة الأسلم للتعامل مع ظاهرة الصراع، خصوصا أن العديد من الدراسات والتجارب أكدت ضمور الحياة في حال غاب الصراع عنها، وقد أثبت علماء هذه الحالة من خلال التجارب الفعلية العديدة، ومن بينها ما ذكره الإمام الشيرازي في قوله:
(لقد أكدت بعض الدراسات الحديثة على أن الصراع هو الذي يؤدي إلى نمو الحيوانات وكمالها، وقد قام فريق من العلماء ببعض التجارب في هذا المجال وذلك حينما أخلوا جزيرة من الحيوانات المفترسة المؤذية وملأوها بالوعول والغزلان وما أشبه ذلك، وبعد مدة رأوا ظهور الترهل على هذه الحيوانات وسقوطها عن الكمال والجمال).
لهذا من الأفضل للإنسان أن لا يمحو الصراع لأنه غير قادر على ذلك، لكن يمكنه التعاطي معه بصورة تخدمه وتطور حياته، حيث أن طموح البشر لا يتوقف عند حد معين، وأن هذا الطموح هو المحرك الذي يقف وراء الصراع، مع العلم أن طموح الإنسان لا يقف عند حد معين، وهو دائما ما يغلب إرادة الإنسان.
وهذا ما أشار له الإمام الشيرازي في قوله:
(إن منشأ هذا الصراع والتنافس بين البشرية في الوجه الأخير هو الطموح وهو حسن في نفسه إذا استعمل في موضعه، وطموح الإنسان عادة يغلب إرادته كما هو طبيعة التنازع بين النفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة).
بالنتيجة هناك صراع لا يمكن التخلص منه، والسبب أن طموح الإنسان لا يتوقف عند حد، وهو بذلك قد يرغب بالأهداف المشروعة وغير المشروعة، وبالتالي سوف يتسبب ذلك في حدوث مشكلات وتصادمات بين الناس، وهو ما لا يُحمد عقباه، مما يتطلب الأمر اعتماد أسلوب حالة احتواء الصراعات، مع أهمية تقنين أو ضبط درجات ومستويات الطموح في حدود يتوافق عليها الجميع في دائرة التفاهم والانسجام والتمسك بالقواعد والثوابت، لأن ضرب هذه القواعد تعني الانفلات والخروج إلى ما يسمى بالعنف والإرهاب.
يقول الإمام الشيرازي:
(من هنا نرى أن طبيعة الإنسان تنزع إلى الطموح المشروع وغير المشروع، وهذا يؤدي إلى الخلاف مع الغير، والخلاف يقود إلى النزاع والصراع، وكثيرا ما يوجب ذلك العنف والإرهاب).
وهكذا فإن الإجابة عن السؤال المطروح في عنوان هذا المقال، تنتهي بنا إلى أن الصراع لا يمكن القضاء عليه، ولكن من الممكن التحكم به واحتوائه، وبالتالي إبعاد العالم والبشرية جمعاء عن خطر العنف والإرهاب، وهذا ما ينبغي أن يتم التركيز عليه من قبل القوى العالمية التي تعرف جيدا أسباب الصراع العالمي لكمنها تغض الطرف عنه بل وتغذيه سعيا وراء أهدافها الفردية المؤسفة وغير المشروعة.
اضف تعليق