حث الامام الشيرازي، في الكثير من كتاباته وتوجيهاته ومحاضراته على تأسيس الاحزاب والهيئات المتنوعة، وجعلها ممارسة سياسية وثقافية وتوجيهية، يستفيد منها المسلمون امام الكثير من الاحزاب والتيارات التي تتأسس في المجتمعات المسلمة. فقد نظر الى الحزب على انه القائد للامة نحو الدفع بها المقدمة، واصلاح الفاسد من امورها...
حث المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي، في الكثير من كتاباته وتوجيهاته ومحاضراته على تأسيس الاحزاب والهيئات المتنوعة، وجعلها ممارسة سياسية وثقافية وتوجيهية، وفيما يلي بعض كتاباته حول مفهوم الأحزاب:
لم تكن مفردة الحزب او الاحزاب بغريبة عن الذائقة اللغوية العربية او الاسلامية.. فسور القران الكريم حين يتم جمع عدد منها في مجموعة واحدة يطلق عليها (الحزب) اضافة الى وجود سورة كاملة في القران الكريم تحمل اسم (الاحزاب) وتحمل الرقم ثلاثة وثلاثون في ترتيب آيات المصحف المقروء بين ايدي المسلمين، وهي سورة مدنية تبعا لزمن النزول وآياتها ثلاثة وسبعون آية..
الا ان مفردة الحزب، والاحزاب لم تأخذ معانيها الاصطلاحية والمفاهيمية كما عرفتها الكتابات السياسية الا بعد قرون طويلة جدا من حاضر العرب والمسلمين في حياتهم اليومية.
على الرغم من ذلك فان كثير من الباحثين يقطعون بوجود احزاب او تنظيمات تتشابه معها في التأسيس او التنظيم، منذ بواكير الاسلام الاولى، الا انها تتقاطع معها في الكثير من المدلولات والعناصر التي تحيل اليها مفردة الحزب في دلالاتها الاصطلاحية والمفاهيمية.
وربما تعود نشأة الاحزاب في الاسلام الى العام 11 للهجرة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وقد سبقه حديث له (صلى الله عليه واله وسلم): (أنا مع الحزب الذي فيه ابن الادرع) غوالي اللآلئ ج3 - ص266، بوصفه مفهوما حاكيا عن المعنى اللغوي للحزب أي الجمع والجماعة، وليس المعنى الاصطلاحي أي الحزب السياسي، ثم ظهور الفرق والاحزاب بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان في العام الخامس والثلاثين للهجرة، مع زيادة ملحوظة في ظهور تلك الاحزاب او التجمعات او التكتلات بعد استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) في العام واحد وستين للهجرة، وبعدها ظهور الفرق الكلامية والاحزاب السياسية في العصر الاموي، واستمرار ظهورها واختفائها في العصر العباسي والعصور الني تلته.
في العصر الحديث، وخلال الحقبة العثمانية، وما تلاها من دخول للاستعمار البريطاني والفرنسي والايطالي الى البلدان العربية والاسلامية، عرف العرب والمسلمون الحزب والاحزاب من خلال القوى التي احتلت بلدانهم. الا ان تلك المعرفة تخللتها الكثير من العوائق والتصادم بحكم ان الحزب دائما ما يتعارض مع التشريع الاسلامي في قراراته او قوانينه، وخاصة في حالة تسلمه للسلطة في اي بلد اسلامي.. وهو تعارض كثيرا ما استمر حتى وقتنا الراهن.
(ومن هنا ذهب البعض الى حرمة الحزب السياسي، ولكن الحرمة ترتفع فيما لو كان الحزب يقتصر عمله على تأطير القوانين بشرع الله، وهذا ما يبحثه الكتاب في مبحث خاص تحت عنوان (هل الحزب مشرّع؟)، فليس للحزب الاسلامي أن يشرع ما يخالف قطعيات النصوص، وإلا خرج كونه حزبا اسلاميا ودخل في دائرة الأحزاب الغربية أو غير الاسلامية بصورة عامة، بلحاظ أن غاية الحزب الاسلامي هو تطبيق أحكام الإسلام تطبيقا كاملا شاملا، وهذا يقتضي عدم التشريع بما يخالف الإسلام).(1)
من المعروف ان (الحكم في الإسلام يدور مدار الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهية، وتقف بين الطرفين الإباحة، وللحزب أن يسبح في فضاء المباحات، كما له أن ينظر في الكليات، وقد تتغير الأحكام الشرعية: أولا: بالعنوان الثانوي أو بتحويل الموضوع، وثانيا: بالإكراه والإجبار والاضطرار والحرج، وثالثا: بالتعارض وذلك بتقديم الأهم على المهم كتعارض المصلحة الشخصية مع المصلحة العام، فتقدم الثانية على الأولى. كما إن العرف بوصفه حجة، للحزب أن يعمل بما يقتضيه العرف).(2)
بسبب شرعية ومشروعية الحزب والعمل السياسي، وما يتجاذبها، من حلية او حرمة، اصبح موضوع الحزب والاحزاب من المواضيع ذات الحساسية على صعيد الفقه السياسي اجتهادا وتنظيرا، وهو مانلاحظه من قلة الاشارة الى العمل الحزبي ومشروعيته، الا في النادر القليل جدا، وهو مانجده بشكل واضح (لدى فقهاء الشيعة الإمامية، لاعتبارات عدة، ربما أهمها تفاوت موقف الفقهاء من حجم ولاية الفقيه الجامع لشرائط الفقاهة، بين من ضيقها على الولاية في الأمور الحسبية من قبيل الولاية على اليتيم، وهم الطبقة العظمى من الفقهاء، وبين من وسّعها الى الولاية المطلقة استصحابا لولاية المعصوم، ومن ذلك إنشاء الحكومة الاسلامية والسعي الى إيجادها، وهم قلة قليلة جدا، وبينهما من قال بالولاية العامة دون المطلقة وفوق الخاصة، وهم قلة أيضا، وبعضهم وجد الحرمة في إقامة الحكومة الاسلامية قبل ظهور الامام الحجة المنتظر).(3)
على الطرف المقابل، اي اهل السنة، تعتبر جماعة الاخوان المسلمين، من ابرز الجماعات التي اهتمت بالبعد السياسي في عملها. واول حزب انبثق عنها هو (حزب التحرير) الذي اسسه القاضي تقي الدين النبهاني تأسس مطلع العام 1953 في مدينة القدس، ودعا إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية وتوحيد المسلمين تحت مظلة الخلافة.
وقد أثير الكثير من الجدل وقتها، بين الفقهاء والمفكريـن المسلميـن فـي شرعية قيام هذه الأحزاب والجماعات الإسلامية.
رغم القيود التي وضعها فقهاء الشيعة على العمل الحزبي، الا انه وبعد الكثير من التطورات السياسية، نشأت عدة احزاب ذات صبغة اسلامية وبمباركة من الفقهاء.. ولعل اشهر الامثلة على ذلك هو تأسيس حزب الدعوة الاسلامية، بمباركة الفقيه محمد باقر الصدر (قدس سره)، وكان يعرف اولا بتسمية (الحزب الفاطمي) ودعا الى تجديد المؤسسة الدينية التقليدية.
وهناك عدة تواريخ لتأسيسه، فمنهم من يقول انه تأسس في 12 تشرين اول 1957، الى قائل انه ولد بشكله النهائي عام 1968.
وقد سبقت حزب الدعوة في التأسيس منظمة العمل الاسلامي، وهي منظمة سياسية شيعية أسست في كربلاء عام 1964، تعتقد بأن الإسلام نظام كلي للحياة وبأن طبيعة الإسلام (ثورية) بدأت أعمالها السياسية تحت اسم (الشيرازيون) نسبة إلى عائلة مؤسس المنظمة السيد محمد الشيرازي (قدس سره)، وبدأت المنظمة بالنشاط الديني أثناء الحكم الشيوعي للعراق ثم عملت تحت غطاء المعاهد التربوية.
وقد حملت منظمة العمل الاسلامي عدة تسميات، هي: (الحركة المرجعية، والحركة الرسالية، وحركة الطلائع الاسلامية) كما ظهرت في الثمانينات من القرن الماضي تنظيمات عدة مثل (حركة الجماهير المسلمة، وحركة المهجرين العراقيين، وحركة علماء الدين).
اضافة الى نشاط الامام الشيرازي الراحل في تأسيس مجموعة من المؤسسات الدينية والثقافية، وهيئات وقوى وحركات اسلامية عديدة. تبع ذلك بعد سنوات، وخصوصا بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، تأسيس حركة (الفتح الاسلامي) و(حركة الوفاق الاسلامي).
بوادر الأحزاب في العراق
سبق ذلك ظهور بوادر الأحزاب في العراق في العقد الأول من القرن العشرين على شكل مشاركة شخصيات عراقية في الجمعيات العربية التي تشكلت بعد الانفراج الدستوري العثماني لسنة 1908، فقد شاركت تلك الشخصيات في الانتماء وتأسيس جمعية الإخاء العربي العثماني (1908) وشخصيات أخرى مثلت العراق في مؤتمر باريس (1913) الذي نظمه حزب اللامركزية الإدارية العثماني بهدف الدفاع عن القومية العربية بشكل عام، وهكذا بالنسبة إلى جمعية العربية الفتاة (1911) وجمعية الإصلاح وجمعية العهد (1913) وجمعية النادي الوطني وجمعية الإصلاح (1913).(4)
وبعد الاحتلال البريطاني ظهرت جمعية العهد العراقي، وتأسست في بغداد جمعية حرس الاستقلال في شباط 1919 برئاسة السيد محمد الصدر.
فيما تأسس نادي الإصلاح في النجف الأشرف أوائل سنة 1920، الذي اشترط لقبول الأعضاء فيه أن يكونوا عرباً متصفين بالأخلاق العالية.
وشهدت الفترة من 1922 حيث صدر قانون الجمعيات، و1924 حيث تأسس البرلمان العراقي، تنظيم أحزاب وجمعيات عكست الاتجاهات السياسية والفكرية ذات الامتداد لحركة النهضة العربية.(5) واستمرت الاحزاب العراقية في التأسيس والاختفاء.
الأحزاب بين الجواز والتحريم
حث الامام السيد محمد الشيرازي، في الكثير من كتاباته وتوجيهاته ومحاضراته على تأسيس الاحزاب والهيئات المتنوعة، وجعلها ممارسة سياسية وثقافية وتوجيهية، يستفيد منها المسلمون امام الكثير من الاحزاب والتيارات التي تتأسس في المجتمعات المسلمة.
فقد نظر الى الحزب على انه القائد للامة نحو الدفع بها المقدمة، واصلاح الفاسد من امورها ودفع الاخطار عنها (أما الحزب بالمعنى السياسي الصحيح لهذه الكلمة فهو جزء من الأمة له هدف تقديم الأمة إلى الأمام وإصلاح المفاسد ودرء الأخطار فهو جزء من الأمة يمتاز عنها بالتنظيم وكثرة التفهم للواقع وكثرة العمل فيكون من الأمة والى الأمة).(6)
حين يتحدث الامام الشيرازي الراحل عن موقف الإسلام من الأحزاب، فهو لا يرى أن تأسيس الحزب واجب شرعي، لذا يتناوله من حيث الجواز والتحريم قائلاً:
(نبين هنا رأي الإسلام في الحزب، وهل أنه جائز أو حرام؟ فنقول:
1 ـ الحزب إذا كان مقدمة البرلمان الذي يحكم حسب الآراء والأهواء كان حراماً، وذلك لأنه مقدمة الحرام، وتعاون على الإثم والعدوان، بل يعدّ في عرف المتشرّعة من أبشع المنكرات، حيث إنه يهيئ لهدم الإسلام كله، وإحياء الباطل كله، وانتهاك الأعراض والأنفس والأموال والحقوق، ولا يخفى أنّ مثل هذه الأمور تجعل الشيء من أشدّ المحرّمات، وإن قيل في الأصول بعدم حرمة مقدمة الحرام.
2 ـ وكذلك يحرم الحزب إذا كان سبباً لقبض أزمّة السياسة في البلاد من دون الانضواء تحت لواء الفقيه العادل الجامع للشرائط، إذ الإسلام قرر الولاية لله سبحانه، ثم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الإمام علي عليه السلام، ثم الفقيه الذي هو نائبهم.
3 ـ ويحرم أيضاً إذا كان الحزب سبباً لتسليط من لا ترضى به أكثرية الأمة ولو كان فقيها عادلاً، إذ قد ذكرنا في كتاب (الحكم في الإسلام) وهنا أن رئيس الدولة في البلاد الإسلامية يجب أن يكون بالإضافة إلى كونه مرضياً لله سبحانه، منتخباً من قبل أكثرية الأمة).
وبعد أن يقرر سماحته أن الحكم لله والولاية للفقيه العادل الجامع للشرائط، تطرق إلى التزوير الانتخابي وألزم بضرورة أسلوب الشورى وأكثرية الأمة، رافضاً فكرة الحزب الواحد جملة وتفصيلاً نظراً لوجود اختلافات بين الناس حتى بين أتباع المذهب الواحد أو الدين الواحد:
(لا يستبد الحزب بالأمر، فالحزب الواحد استبداد لا يجوز شرعاً، لأنه إضاعة لحق سائر المسلمين.
لا يقال: إذا كان الحزب الآخر يريد الإسلام تشريعاً وتطبيقاً فلا داعي إلى تنظيم حزب ثان، بل ينضمّ من يريد ذلك إلى هذا الحزب الواحد، وإن كان لا يريد الإسلام تشريعاً أو تطبيقاً، فلا يجوز له تشكيل الحزب السياسي، ولم لا يحقّ للحزب الأول منعه عن التشكيل؟
لأنه يقال: نختار الشقّ الأول ونقول إن الحزب الثاني يريد إقامة الإسلام لكن له رأي خاص في كيفية التأطير وكيفية التطبيق، فمثل الحزبين في ذلك مثل المجتهدين، اللذين كلاهما يستنبط في دائرة الأدلة الأربعة لكن يختلف استنباط هذا عن ذاك، فكلا الحزبين يعملان استنباطاً وتطبيقاً في دائرة الإسلام، وإن كان لهما اختلاف في الاجتهاد واختلاف في انتخاب الأصلح لحال الأمة في السلطة التنفيذية وما أشبه.
لا يقال: إذا كان الأمر كذلك، بأن يكون عدم إجازة الحزب الثاني آئلاً إلى الدكتاتورية ومحرماً من جهة أنه إضاعة للحقوق، كان اللازم إجازة حزب ثالث ورابع، وهكذا إلى أن يؤول الأمر إلى الفوضى؟
لأنه يقال: اللازم إجازة كل حزب، مؤطراً بإطار عدم الفوضى، لأن ذلك لا يجوز شرعاً وعقلاً، ومن الواضح عدم التلازم بين أن يجوز الحزب الثاني وبين الفوضى، كما أنّ من الواضح أنّ أي استدلال للحزب الواحد، ليس إلا جنوحاً للاستبداد).
وعلى العموم فإن السيد الشيرازي يرى أن الأحزاب لها معطياتها السلبية والإيجابية، ويحدد لها الأطر التي تجعل سلبياتها منعدمة أو في حدودها الدنيا، وتزيد من إيجابياتها وتجعلها في حدودها القصوى، فإضافة إلى القواعد العامّة التي ذكرناها، يقرر سماحة الإمام ما يلي:
(الأحزاب السياسية ذكرت لها فوائد وأضرار، وفي هذه المسألة نذكر جملة من الفوائد التي ذكرت لها:
1 ـ انتخاب الأصلح:
(الأولى) إن الحزب السياسي هو الصيغة الكاملة لتطبيق الشرط الثاني الإسلامي، في باب الحكم، في الواقع الخارجي، فإن الإسلام، كما تقدم، يشترط في الحاكم أن يكون مرضياً لله، وحسب شورى الأمة، أي برضاهم، الذي هو رضا الأكثرية، كما هو مستفاد من الشورى، إذ انتهاء الشورى إلى توافق أداء الكل، أمر نادر غالباً.. فاللازم كون الحاكم منتخباً بين متعدد كل واحد منهم يحمل مواصفات الفقيه العادل، مرضياً لأكثرية الأمة.
أما الشرط الأول (أي الفقاهة والعدالة و..) فذلك واضح غالباً لأهل الخبرة الذين يتوفرون في المراكز العلمية.
ويبقى الشرط الثاني، وهو اختيار أكثرية الأمة له، وذلك ما يحصل بالانتخاب، وتلك غالباً تتحقق بواسطة الأحزاب السياسية، حيث إنهم أهل الخبرة في تحديد الأصلح لإدارة الدين والدنيا، بين المتعدد).
ثم يناقش سماحته المسألة من جميع جوانبها، لينتقل إلى الفائدة الثانية التي يراها للأحزاب، وهي تحكيم إرادة الشعب، فيقول:
(الثانية: إن الأفراد بما هم أفراد قوى مبعثرة لا يقدرون على تنفيذ آرائهم بالنسبة إلى مصير أنفسهم، فإنّ الحكم، كما هو واضح، إرادة الأفراد والتصرف في شؤونهم، وهذه الإرادة والتصرف سواء كان كلياً كما في البلاد التي تؤمن بالعقيدة والشريعة، حيث الحكام مقيّدون بالإطار الخاص، كما في البلاد الإسلامية لابد وأن تكون تصرفاً في الناس، ولماذا هذا التصرف بدون إرادة المتصرف فيه؟
ومن هنا ينشأ لزوم كون الحاكم هو الذي يريده الناس، سواء كانت إرادة مطلقة، كما في البلاد غير المؤمنة، أو إرادة مقيدة بإطار خاص، كما في الإسلام حيث يشترط في الحاكم الفقاهة والعدالة و...، فاللازم تجميعهم في وحدات كبار تستقي من وحدات صغار، وإلى أن يصل الدور إلى الأفراد كالقطرات التي تتجمّع فتكوّن العيون الصغار، ثم الكبار، ثم الأنهر، حتى ينصبّ الجميع في النهر الكبير أو البحر).
وبعد أن يوضح سماحته جوانب الموضوع، ينتقل منه إلى الفائدة الثالثة التي يراها في أن الحزب يمكن أن يكون مدرسة السياسة التطبيقية لأنه (يوجد الفهم السياسي في أفراده، كما أنه مدرسة علمية للسياسة، حيث إن الأفراد الذين علموا السياسة سواء في المدارس السياسية أو في الحزب، يطبقونها تطبيقاً عملياً خارجياً، حيث التداول اليومي للمواضيع السياسية).
أما الفائدة الرابعة، فيراها في (تحمل المسؤولية السياسية) على أساس أن (المجتمع بحاجة إلى من يحمل المسؤولية السياسية، والحزب هو الذي يقدر على حمل هذه المسؤولية، بينما الفرد ليس كذلك).
ويتطرق سماحته إلى بقية الفوائد التي يمكن أن تنشأ من الأحزاب، كالانضباط الفكري والعملي وصنع التنافس الخلاق وتقديم الشعب إلى الأمام، ولكنه يستدرك على كل ذلك بقوله:
(نعم، يوجد في الأحزاب السرية التي يصنعها المستعمرون أو الأفراد المنحرفون، من لا توجد فيه هذه الصفات، لكن ليس الكلام في مثل هذه الأحزاب حيث إنّ ما يصنعه الاستعمار رتل خامس، وليس بحزب، وان تسمّى باسمه زوراً، وذلك أمثال الحزب الشيوعي والبعثي في البلاد الإسلامية، كما أن ما يصنعه منحرف داخلي، لا يكون حزباً بالمفهوم الصحيح للحزب، بل تجمّع أصحاب عقد، لانتقام أو وصول إلى هدف شخصي، ولذا لا يكون لأي منهما أخلاقيات، ولا يعتمد عليها الناس، وسرعان ما يتشتت أفرادهما، بقطع الاستعمار عونه في الأول وبموت زعمائه المنحرفين في الثاني)(7).
وهكذا طبّق الإمام الشيرازي منهجه الفكري السياسي في مسألة الأحزاب ووضع لها الضوابط الأخلاقية التي تنقذها من المتاهات وتجعلها في خدمة الحركة التغييرية، من أجل إنقاذ العالم الإسلامي من الفرقة لا زيادة تلك الفرقة، على أن يتمّ العمل كله من أجل رفع راية الإسلام، وبناء دولته التي تسود العالم كله. (8)
ينطلق الإمام الشيرازي في تبنيه لحرية العمل الحزبي من أساسيات حضارية، ولهذا كان موقفه عميقاً ورصيناً وعقلانياً(9)، أما مفردات التنظيم والمعايير التي يمارس من خلالها التنظيم السياسي عمله، والكيفية التي يرتكز عليها في مقاربة الغايات السياسية، فالحقيقة أن هذه المرتكزات ذات أبعاد حضارية، ولهذا فللإمام الشيرازي آراؤه الخاصة بالتنظيم الذي ينطبق عليه هذا العنوان بصدق وجدارة وأمانة، فهو لا يعتبر تنظيماً ما حزباً، إذا لم تتوفر فيه الخصائص التالية:
1- الهدف: استلام الحكم.
2- التواصل: إذ يلزم أن يكون الحزب مرتبطاً بالناس ارتباطاً وثيقاً، إذ أن ذلك هو الذي يمكن الحزب من التوسعة الكمية والكيفية والتصاعد(10).
إن الإنشداد الفكري والسياسي الذي عاشه الإمام الشيرازي لأهمية التنظيم بكل أبعاده ومنها السياسية يدفعه أن لا يدع هذا التنظيم خالياً من رؤية يقوم عليها، كمعادلة فكرية سياسية تراقب خطواته وأهدافه التي اتجه إليها والتي هي لبنات مشروعه السياسي، لهذا وضع الإمام الشيرازي النظام الداخلي كأحد الشروط الجوهرية في إيجاد هذا التنظيم، والنظام الداخلي بالنسبة له فلسفة توجب شدّ بعض أجزائه (أي التنظيم) ببعض، وتحدد له هدفاً ووسيلة(11).
هكذا يستشرف الإمام الشيرازي آفاق المستقبل، حيث يستدعي الماضي بلغة الحاضر، فاليوم الأحزاب حلقة رئيسة بين الشعب والسلطة لأنها تتولى تنظيم الرأي العام وبلورة إرادته على نحو يمكن معه بسهولة التعرف على اتجاهه باستخدام آليات الانتخاب أو الاستفتاء أو المداولات البرلمانية وبذلك تغدو الأحزاب مدرسة لتربية الجماهير وتنظيمها والتعبير عن إرادتها(12).
الآفاق المستقاة من نظرية الإمام الشيرازي
وعند تشكيل حزب سياسي، ما هي الاستحقاقات المترتبة على ذلك في ضوء نظرية الإمام الشيرازي؟ بمعنى آخر ما هي الآفاق المستقاة من نظريته التي يمكن الارتكاز إليها في تشكيل الحزب السياسي؟
يمكن القول بإيجاز أنها:
الأفق الأول: مصفوفة الأهداف (استلام الحكم، قيادة الأمة، التغير والتطوير).
الأفق الثاني: مصفوفة الوسائل والأدوات (الإتصال بالجماهير، التوعية، الاستجابة لحاجات الجماهير).
الأفق الثالث: مصفوفة الخصائص العامة للحزب (النظام الداخلي، شورى، الانضباط، الكسب المستمر)(13).
2 - وعدم تبدل السلطة كل فترة من الرئيس الأعلى إلى سائر السلطات. وربما يقال، وهل في الإسلام مثل هذين الأمرين؟ والجواب: إن الحكومة الإسلامية قوامها:
(آ)- شورى المراجع الذين هم مراجع تقليد الناس، حيث يحتل مبدأ الشورى معياراً مهماً في إدارة شؤون الأمة، واقتناعها بهذه الإدارة، والشرعية لا تأتي إلا بممارسة الأمة لحقها الشرعي في المشاركة السياسية واختيارها للقيادة التي تريد، فالشورى قادرة على تأمين هذه الحقوق من خلال ما تتضمنه من آليات واسعة تفتح المجال لمشاركة الأمة في صنع قرارها السياسي، وعليه تعتبر الشورى أهم المبادئ الدستورية السياسية للحكم والدولة، فهي من أساسيات المبادئ المكونة لمفهوم الأمة ومفهوم المجتمع السياسي في الإسلام ولواقعهما في حركة التاريخ وذلك من حيث ما يقومان به من أنشطة وينشآنه من علاقات في داخلها ومع الخارج بصرف النظر عن وجود سلطة حكومية(14).
(ب)- وأحزاب حرة إسلامية، وكلاهما يتعاونان في إدارة البلاد، حسب القوانين الإسلامية.
الأحزاب الحرّة
ليس المقصود بالأحزاب هنا، الأحزاب الهدّامة كالحزب الشيوعي مثلاً والأحزاب المحاربة للديـن أو المخالفة للشريعة، بل المقصود من الأحزاب هنا: الأحزاب الإسلامية المعتدلة التي تنبذ العنف والأحزاب الوطنية التي تعمل من أجل تقدم الأمة الإسلامية. فهذه الأحزاب يجب أن تتكوّن وأن تتوسع وأن تمنح الحرية الكافية للعمل في وسط الأمة.
من هنا فإن من مسؤولية الكتاب أن يتصدوا للكتابة عن هذا المحور المهـم لأنه سيفتـح الطريـق أمـام الأمة، وينقذها من الاستبداد والديكتاتورية المقيتة بمختلف أشكالها وألوانها مما ابتلى به العالم الثالث غالباً وأكثر البلاد الإسلامية.
أليست الحرية من العقل ومن الإسلام وقد أشار القرآن إلى ذلك في وصفـه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يضع عنهم إصرهم والأغـلال التي كانت عليهم)(سورة الأعراف: الآية 157). ففـي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى مسألة الحريات. وإذا ما نظرنا إلى البلاد التي تقدمت نجد أنها لـم تتقـدم إلاّ بالحرية، وقد تقدم المسلمون لأنهم آمنوا بالحرية الإسلامية، تلك الحريـة التي تحـدد بحدود الأحكام الإسلامية، وقد استطاع المسلمـون أن يمتلكوا الشرق والغرب ويفرضوا سيادتهم على العالـم بأسره لأنهـم أخذوا بمبدأ الحرية السياسية وكان للتجمعات الإسلامية الحرية الكافية.
واليوم إذا أردنا التقدم فعلينا أن نكرِّس عوامل التقدم في أنفسنا، وعلى رأس هذه العوامل بالطبع هو الحرية الإسلامية، فحريٌّ بالكتّاب الإسلاميـين الذي كتبـوا عـن كلّ شيء وتناولوا في دراساتهم كل المواضيع الإسلامية حريٌّ بهـم أن يتناولوا موضوع الحكم الإسلامي الذي أصبح منسيّاً وأن يتناولـوا الحريّات التي أصبحت في خبر كان، وأن يكتبـوا حـول الأحزاب الحـرة كي تنتعش التجمعات الدينية والوطنية لتأخذ طريقها فـي العمل الصالح، ولكي تعرف منـزلتها وأدوارها في الحياة، ولكي تدرك الأمة أن الحرية حقٌ من حقوق كل تجمع خير، لابدّ من ضمانه وإعطائه، فكما ليس من الصحيح أن نعدّ أطباء لمعالجة مرضـى القلب وننسـى المصابين بأمراض العين والكبد كذلك ليس مـن الصحيح أن يترك الكتّاب الإسلاميين الكتابة حول الأحزاب الإسلاميـة الحرّة ويكتبوا فقط فـي الموضوعات الإسلامية الأخرى كما هو حاصل اليوم.
من هنا فأنا أناشد أخوتي الكتّاب الإسلاميين أن يتحسّسوا المشاكل الإسلامية وأن يكتبوا برؤية ثاقبة عن هذه المشاكل، وأن يضعوا نصب أعينهم كيفيـة إنقاذ الأمـة مـن المشاكل العالقة في حياتهم وذلك بالاهتمام بصورة مركّزة بموضوع الأحزاب الحرة التي هي المفتاح لأي تقدّم في حياة الأمة.(15)
اضف تعليق