السيد الشيرازي رجل استطاع ان يعيد كتابه التاريخ ليثبت للجميع ان صناعة التأثير الإيجابي في محيطه وزمانه ليست حكراً على الأنظمة الحاكمة او أصحاب السلطة او الأغنياء وغيرهم من الجماعات التي تمتلك عناصر القوة، بل يمكن لفرد يملك روح التجديد وقوة الإصلاح والايمان، ان يحرك المياه الراكدة ليعيد...
ان التأثير الذي تركه المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي في حركة التأريخ والافراد كان كبيراً كنتيجة طبيعة لما قدمه من نشاط طرق كل أبواب المعرفة والعلم والثقافة والعمل والجهاد، حتى تجاوزت مؤلفاته الاف كتاب في مختلف صنوف العلوم الانسانية، واستطاع رعاية وافتتاح العشرات من المؤسسات العلمية والخيرية والصحية والتعليمية والإعلامية والثقافية وغيرها في عدة دول، ولم يتوقف عن الدرس ومجالس الارشاد وتحفيز الشباب حتى أواخر عمره الشريف، رغم معاناته الطويلة مع الأنظمة المستبدة التي لم تتوقف عن مطارته والتضييق عليه بعد انتقاله من بلده الام (العراق) الى المنفى.
ان السيد الشيرازي (رحمه الله) رجل استطاع ان يعيد كتابه التاريخ ليثبت للجميع ان صناعة التأثير الإيجابي في محيطه وزمانه ليست حكراً على الأنظمة الحاكمة او أصحاب السلطة او الأغنياء وغيرهم من الجماعات التي تمتلك عناصر القوة، بل يمكن لفرد يملك روح التجديد وقوة الإصلاح والايمان، ان يحرك المياه الراكدة ليعيد الحياة في المجتمعات الميتة، مثلما فعل نبي الله إبراهيم (عليه السلام)، عندما تحول الى (امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين)، وكما عبر عنه القران الكريم، وهو ما آمن به الامام الشيرازي وطبقه في منهاج حياته، حيث يقول في معرض حديثه عن النشاط الذي يمكن ان يقوم به الفرد خلال شهر رمضان الكريم –على سبيل المثال- ان: "في شهر رمضان تترجم الأفكار إلى وقائع، وتتحول الحروف إلى حركة والكلمة إلى حياة، يتحول الإنسان إلى أمة كإبراهيم (عليه السلام) حيث كان أمة قانتاً لله، يكون أُمة بتقدمه في هذا الشهر".
ان ما كتبه الباحث في الفكر الإسلامي سماحة الشيخ مرتضى معاش يمثل حقيقة ما قام به الامام الراحل من صناعة التاريخ وقوة التأثير حيث قال: "إن الإمام الشيرازي الراحل هو إرادة فذة اخترقت قيود التاريخ المفروض أن يكتب لنفسه تاريخ مميزا ومختلفا تكاملت فيه كل صفات الإنسان الحر والمؤمن والمجاهد في زمن كان كل شيء فيه يسير ضده ويتآمر عليه ويخطط للقضاء عليه، لقد كان تاريخه معركة حاكمية خاضها بقوة التحمل والصبر والاستقامة دون أن تستثيره نوازع الغضب والانتقام الضعف فربح معركة التاريخ عندما رحل شامخا لم يرضى بالذل والعبودية ولم يستسلم لأهواء الصفات والمساومة والانتهازية".
ان صناعة التأثير في حركة التاريخ والافراد والمجتمعات هي من نوع السهل الممتنع، ولا يمكن ان يقوم بها سوى العظماء الذين يملكون مقومات خاصة تسهل لهم تطويع الصعاب وقيادة دفة التغيير والإصلاح والتجديد مع كل حركة او انتقاله يقومون بها، ولعل أبرز تلك المقومات التي جمعت في شخص الامام الشيرازي كانت:
1. القدرة على فهم واستيعاب حركة التأريخ والتفاعل معها بطريقة التأثير والتجديد والإصلاح وليس التقليد والتقهقر واستهلاك الماضي، لذلك استطاع الشيرازي ان يؤسس لحركة إصلاحية ومعرفية وثقافية واسعة جذبت مختلف شرائج المجتمع، وكان في مقدمتهم الشباب الواعي، كان قوام هذه الحركة النهوض من الواقع المزري المفروض على المجتمعات الإسلامية، ومحاربة الجهل والظلم والاستبداد، واحلال قيم التقدم بدلاً من قيم التخلف، وغيرها الكثير من القيم الإسلامية والإنسانية العليا.
2. التنظيم الحركي والمعرفي، اذ كان الامام الشيرازي دقيق ومنظم في اختيار خطواته المعرفية وتحركاته الإصلاحية، ولم يكن يعيش رهن انفعالات آنية وعشوائية او يتحرك كرد فعل ضد فعل آخر، بل كان يرسم الأهداف ويتحرك لتحقيقها منذ صغر سنه، حتى ان بعض الأهداف التي كان يسعى لتحقيقها كانت شبه مستحيلة في وقتها، لكن مع الإصرار والعزيمة أصبحت حقيقة وآتت ثمارها.
3. فكر يحمل ريادة التجديد والإصلاح، وهو اهم ما ميز فكره (رحمه الله)، وقد أثر هذا الفكر بأجيال من الشباب، والكثير من الكتاب والباحثين والأكاديميين والمثقفين وغيرهم، من المسلمين وغير المسلمين، لأنه فكر صادق نابع من الحاجة الى تغيير الواقع الذي يحكمه المستبدون والمنحرفون بآخر أكثر اشراقاً واعتدالاً، ففي مقال كتبه الشيخ عبد الله احمد اليوسف، قال فيه: "يعتبر الإمام الشيرازي واحداً من أبرز دعاة الإصلاح والتجديد في القرن العشرين، فقد كان مجدداً في الفقه، ومجدداً في الفكر والثقافة، ومجدداً في الحوزات العلمية، ومجدداً في المرجعية الدينية، وقد امتلك الإمام الشيرازي عقلية مبدعة ومبتكرة مكنته من الإبداع والتجديد والتطوير في مختلف حقول المعارف الدينية، وقد قام الإمام الشيرازي بالفعل بتأليف الكثير من الكتب التي تتناول القضايا المعاصرة، والمسائل المستجدة، كما أجاب في العديد من كتبه عن الكثير من الإشكاليات المطروحة عن الإسلام، وتمكن من عرض مبادئ الإسلام وقيمه ومثله للأجيال المعاصرة".
فيما يقول نجله آية الله السيد مرتضى الشيرازي: "انه كان رائدا للإصلاح وجسد لنا مدرسة فكرية نظرية وعلمية متكاملة وكان رائدا المسيرة الإصلاحية طوال أكثر من نصف قرن، كان يدعو إلى السلم وكان يدعو إلى شورى الفقهاء، ويدعو إلى التعددية ويدعو إلى سعة الصدر ويدعو إلى الحرية ويتحدث ويكتب عن طريقة التعامل مع المعارضة وعن كل قضية تهم الإنسان شيخا كان آم شابا رجلا آو امرأة وقد خلف من التراث في هذا الحقل الشيء الكثير الكثير".
4. الاخلاق والتواضع صفتان صنعتا له قوة التأثير الإيجابي في الاخرين، ان من عاش في زمن الامام الشيرازي والتقى به، او من شاهد وسمع محاضراته، وحتى من قرأ كتابه يعرف مقدار ما يحمله من اخلاق كريمة وتواضع عجيب يملك القلوب والعقول من الوهلة الأولى، وهذا الامر تحلى به علمائنا الاعلام وهم يتأسون برسول الله محمد (صلى الله عليه واله) واهل بيته الكرام (عليهم السلام) لقوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنه لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا)، حيث يقول عنه الله (عز وجل) (وانك لعلى خلق عظيم)، كما يقول تعالى (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).
5. قوة الكاريزما والقيادة الناجحة، اذ من النادر ان يستطيع رجل واحد، بعد توفيق الله (عز وجل)، ان ينجح في تقديم مختلف أبواب العلم والمعرفة والنبوغ فيها، وطرح العديد من النظريات في مختلف العلوم الفقهية والسياسية والاقتصاد والاجتماع وغيرها، إضافة الى اهتمامه بتنشئة وتعليم جيل مثقف وواعي تخرج منه العديد من العلماء والمثقفين والمؤثرين في مجتمعاتهم، فضلاً عن دوره الريادي في إقامة العشرات من المؤسسات الخيرية والتعليمية والثقافية والدينية والصحية وغيرها في مختلف دول العالم، لولا قدرته على القيادة الناجحة وقوة الشخصية التي تمكنه على تحدي الصعاب وخلق الفرص من العدم والنجاح في تحقيق الأهداف.
والخلاصة ان الامام الراحل السيد محمد الشيرازي كان شعلة من العطاء والنشاط طوال عمره الشريف، وقد استطاع تحقيق العديد من الإنجازات في مختلف الأصعدة التي خدمت العالم الإسلامي والإنساني، وما زال تأثيره الفكري والمؤسساتي حي ومستمر ولم يتوقف او ينتهي برحيله عن عالمنا، لأنه كان عملاً خالصاً لوجه الله تعالى، لم يبتغي من وراءه تحصيل الزعامة او الشهرة او الوجاهة، بل كان همه الأول والأخير تحقيق المنفعة للجميع، وتحريك الهمم لدى الافراد، وايقاظ المجتمعات الإنسانية من سباتها وغفلتها، وكان يحارب خلال ذلك كل امراض العصر من جهل وتخلف وفقر واستبداد وعنف، ويدعو الى تكريم الانسان وتحريره من قيود العبودية والخضوع.
لقد استطاع (رحمه الله) التأثير في الأجيال التي عاصرته والاجيال التي تلت عصره، لأنه مثل حالة فريدة من التميز، ومثال حي على تجاوز العقبات والصعاب، وان الفرد الواعي له القدرة على صناعة التأثير في حركة التأريخ مهما كان الامر في غاية الصعوبة، وان اعترضت طريقة المحن والمشاكل، ففي النهاية سيكون النجاح حليفه.
اضف تعليق