توجد مجموعة من القيم والسلوكيات، تقود الناس نحو حياة معتدلة، ينسجم فيها الجميع مع بعضهم لشعورهم بعدم التمايز، وهذه القيم لا تقع تحت وطأة الموجات المادية التي تكتسح عالم اليوم بأكمله، فالرضوخ إلى ما يجري في عالم الاقتصاد والمخططات التي تضعها وتتبناها القوى الكبرى اقتصاديا وسياسيا، يعني التفريط بالقيم السليمة...
(شهر الصيام هو مناسبة جيدة لتربية الإنسان على قيم الاستقامة) الإمام الشيرازي
توجد مجموعة من القيم والسلوكيات، تقود الناس نحو حياة معتدلة، ينسجم فيها الجميع مع بعضهم لشعورهم بعدم التمايز، وهذه القيم لا تقع تحت وطأة الموجات المادية التي تكتسح عالم اليوم بأكمله، فالرضوخ إلى ما يجري في عالم الاقتصاد والمخططات التي تضعها وتتبناها القوى الكبرى اقتصاديا وسياسيا، يعني التفريط بالقيم السليمة، والابتعاد عن منهج الاستقامة الذي يحمي الفرد والمجتمع من الانحدار نحو الأسوأ.
شهر رمضان يوفر فرصة مناسبة لكبح الجنون المادي الذي بات يهدد البشرية كلها، فيبعدها عن الجانب الآخر الذي يخلق التوازن في حياتهم، وهو جانب المعنويات، فالتركيز على المادة وحدها، واللهاث وراء التطور والرفاهية المادية وحدها، يجرّد الإنسان من إنسانيته، ويساوي بينه وبين البهائم التي تعيش بغرائزها فقط.
السؤال الأهم كيف يمكن غرس المعنويات في أعماق الإنسان، في عقله، في أفكاره، حتى تكون عنده قدرة على مواجهة الموجات المادية مهما كانت قوّتها ونوعها، وكيف يتحلى بالاستقامة التي تحميه من الميل والضياع في التيارات المادية المتشابكة؟، هذا الشهر الكريم يمكن أن يوفر الحل المناسب للفرد والمجتمع في عالم اليوم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقدم رؤيته لمعالجة هذه الإشكالية الصعبة، فيقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(إن شهر رمضان هو أفضل موسم لتركيز فكرة التخلّص من الهيمنة المادية، حيث ينسلخ الإنسان - إلى حدّ ما- من عالم الماديات ويزداد تحليقاً في سماء المعنويات، فيقترب إلى فكرة الآخرة وما فيها من نعيم، جعله الله للمتقين وللمؤمنين وما فيها من عذاب أعدّه الله للعاصين والمذنبين).
التهافت على المغريات الدنيوية
الانسياق وراء ما يجري في عالم اليوم ماديا، لا يساعد على استقرار حياة الفرد ولا المجتمع، حيث تغيب الضوابط، وتُخترَق الحقوق والحدود، وتضعف أو تغيب العدالة، وتتراجع آلية تكافؤ الفرص، ويسود الظلم والغبن بين أفراد المجتمع، وتتصاعد نسبة التفاوت الطبقي، وتزيد من ظاهرة التشاحن والتخالف المجتمعي التي تخلخل البنية الاجتماعية.
وهو ما نلاحظه في المجتمعات والدول الضعيفة في ثقافاتها، وفي مبادئها، وفي عقائدها، لأن هيمنة المادة تنتج عن ضعف الإيمان، وغياب قيمة أو منهج الاستقامة، والتهافت على المصالح دونما حدود ودونما وجه حق، وتسود لغة الغلبة بين الناس، ومن ثم تضيع الضوابط والحقوق معا، لهذا يعدّ شهر رمضان فرصة للتصحيح.
الدعاء في هذا الشهر، وتنمية المعنويات، وتطوير الجوانب الروحية، تجعل من الناس أكثر أمنا واستقرارا وبالتالي أقرب إلى الاستقامة والعدالة في التعامل مع الآخرين، لهذا هناك أهمية كبيرة لشهر رمضان كي تلجأ الناس إلى الدعاء، والتقارب، والسعي نحو الاستقامة التامة، وطلب المغفرة والرحمة الإلهية، وهذه تتضاعف في شهر رمضان.
لذا لابد من السعي للانسلاخ من الهيمنة المادية، وإيقاف النفس عن الركض وراء المغريات المادية التي يتم طرحها بطرق مخادعة، وأساليب ماكرة، لاستمالة النفوس وخداع العقول، وجرّ الناس إلى الحرام، لذا عليهم التمسك بالدعاء في هذا الشهر، والتفكير بالثواب الإلهي المجزي لمن لا تغريه الأساليب المادية ولا تخدعه الأكاذيب المغرضة.
يقول الإمام الشيرازي بهذا الصدد:
(سوف تكون حصيلة ترسّخ هذه الفكرة – الانسلاخ من الماديات- هي الاستقامة الدائمة في مختلف مناحي الحياة، فمن أعمال شهر رمضان طلب الغفران والجنة، والتعوّذ من نار جهنم؛ والباعث لهذا الدعاء هو الشوق الكبير إلى رياض الجنة).
كذلك ينبغي التفكير الجدي بإمكانية الفوز بالجنة نتيجة للاستقامة في حياة الإنسان، لأن هذا النوع من التفكير يعطي حافزا وسعادة كبيرة للمؤمن، فهو بمجرد التفكير بالجنة يصبح سعيدا، فما بالك لو وصل إليها فعليا، ورآها بأم عينيه: (إن تفكير المؤمن بالجنة وما أعدّه الله له في الآخرة من الدرجات العليا يسبب السعادة له، فكيف ستكون سعادته في الآخرة إذا رأى الجنة بأمّ عينيه) كما يرى الإمام الشيرازي.
هنالك نوع من الترابط القوي بين الاستقامة والخلاص من الهيمنة المادية، فالإنسان الذي يسير في الطريق المستقيم بحياته، تجده يتعامل بصورة مناسبة وصحيحة مع الماديات، فهو لا يهملها بالكامل، ولا يغرق فيها بالكامل، وإنما يأخذ منها ما يحفظ له عيش متوازن، غير مغرَق بالرفاهية والكماليات الشكلية، وهذا يتحقق بسبب معنوياته الجيدة التي يحصل عليها من استقامته في تعامله مع الآخرين.
تعزيز منهج الاستقامة
هذا النوع من الناس تجده يتعامل بجدية مع ثنائية أو معادلة (الرجاء والخوف)، فهو تجده يخاف ارتكاب الخطأ ويخشى العقاب الإلهي، لكنه في نفس الوقت عنده رجاء بالرحمة الإلهية وبالتوفيق الربّاني، فالرجاء بلا خوف يصيب الناس بالغرور، ويجعلهم في حالة من الطيش تغمرهم اللذات، وجماليات الحياة، أما إذا كان الإنسان يشعر بالخوف من الخطأ ونتائجه، فإنه سوف يعزز الإيمان في ذاته وقلبه.
يقول الإمام الشيرازي: (إن أمراً واحداً هو الذي يضمن استقامة الإنسان واستمراره على الطريق الصحيح، وهذا الأمر هو الشعور المزدوج بالرجاء و الخوف، فالرجاء بلا خوف يدفع الإنسان إلى الغرور، والخوف بلا رجاء يدفع الإنسان إلى اليأس).
ويضيف الإمام رحمه الله قائلا: إن (كل خطوة يخطوها الانسان في هذه الحياة هي بحاجة إلى الرجاء والخوف).
وهكذا يحتاج الإنسان للرجاء والخوف معا، وهي حالة من التوازن النفسي التي لابد منها، لكي تعطي معادلة الخوف والرجاء نتائجها الصحيحة، فهناك عنصر التشجيع (الرجاء)، وهناك عنصر التثبيط (الخوف)، وكلاهما موجودان في ذات الإنسان وأعماقه، وكل قطب من قطبيّ هذه المعادلة له تأثيره على الإنسان إيجابا وسلبا.
الرجاء يشجعه، والخوف يثبطه، إنها نوع من الموازنة بين الأشياء والحالات المختلفة، الحالات الروحية والحالات المادية، الرفاهية و العوز، الاستقامة و الانحراف، ثنائيات وتوازنات تقوم عليها حياة الإنسان، كلها تحكمها معادلة الرجاء والخوف، وما على الإنسان المؤمن سوى التحلي بها لأنها تنتهي به إلى استقامة الحياة.
كما نقرأ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(عندما تريد ان تقول كلمة ما بوجود جمع من اصدقائك، وعندما تريد ان تقوم بعمل ما في داخل المجتمع، فانت بحاجة إلى عامل محفّز وعامل مثبّط؛ فالتحفيز يدفعك إلى عمل البرّ والخير، والتثبيط يمنعك من عمل الشر. وهكذا تستقيم حياة الإنسان المؤمن).
ونتيجة للصراع المستمر بين (المادي و الروحي)، تبقى أمام الإنسان فرصة الاستقامة متاحة، لاسيما إذا تعامل بطريقة عقلانية وحكيمة مع ما يُتاح له من الفرص الروحية الكثيرة في شهر رمضان، وعليه أن لا يخسر تلك الفرص، وأن يتصدى بعقلية جيدة وروح ثابتة الجنان، للمغريات الدنيوية الهائلة المعروضة أمامه.
(إن شهر الصيام هو مناسبة جيدة لتربية الإنسان على قيم الاستقامة ليكون انساناً مستقيماً) كما يقول الإمام الشيرازي.
وأخيرا فإن فرصة التحليق عاليا في سماء المعنويات، هي السبيل الممكن الذي يفتح أمام الإنسان أبواب الارتقاء الروحي، وصنع حالة التوازن بين ما يديم حياة الإنسان المادية، وبين تعميق الجانب الروحاني، وتطوير المعنويات والتركيز عليها في خصوصا في شهر رمضان، لمواجهة حالات المدّ الدنيوي البحت، الذي يهدف إلى تدمير منهج الاستقامة ومن ثم تدمير حياة الإنسان، مما يتطلب إفشاله عبر التركيز على التعزيز المستمر للمعنويات.
اضف تعليق