إننا نعيش الآن شهرا جديدا من أيام شهر رمضان، وهذا يستوجب منا أن نعمل بالخطوات التي تضمن لنا الاستفادة الجيدة من الفرص التي يمنحها لنا هذا الشهر الكريم، وأن نؤمن بشكل قاطع على أنه ليس شهرا لتناول الطعام الجديد، ولا لارتداء الملبس الجديد، وإنما هو شهر لبناء الشخصية وزرع الأفكار والمبادئ والقيم الإيجابية في أعماقنا فكرا وسلوكا...
(لابدّ أن نستثمر كل عطاء من عطاءات هذا الشهر المبارك) الإمام الشيرازي
شهر رمضان الكريم يتيح للناس فرصا كثيرة وكبيرة، عليهم أن يستثمروها بالطريقة المثلى، حتى يتحقق لهم ما يصبون إليه، في مجال تحسين السمات والصفات الفردية، فضلا عن تطوير الحياة العائلية والمجتمعية على وجه العموم، وتعد قضية ترصين البنية الاجتماعية، وتحسين الصفات الشخصية من أهم الفرص التي يوفرها شهر رمضان للإنسان، سواء على الصعيد الفكري أو السلوكي.
وبسبب هذه الفرص والمزايا التي يوفرها هذا الشهر الكريم، فإن الناس يستبشرون بقدومه، وينظرون إليه على أنه شهر مختلف ويتعاملون معه بأساليب عيش مختلفة عن أساليب العيش في الشهور الأخرى للسنة، فيكون بالنسبة لهم شهر عطاء وخير وصفاء للنفوس والقلوب، وتعاظم للرحمة وللتآلف بين عموم الناس، لأنه شهر عطاء ورحمة واطمئنان.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يتطرق للمزايا الكثيرة التي يعجّ بها شهر رمضان، ويعدّ هذا الشهر الكريم مختلفا عن بقية شهور العام، لما يقدمه للناس من عطايا تأتي لهم بالكثير من الفوائد المعنوية والإيمانية والمادية أيضا.
فيقول الإمام الشيرازي في كتابه القيّم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(شهر رمضان بلسمٌ يبعث الارتياح والطمأنينة إلى النفوس المعذّبة والقلوب المنكسرة والأجساد المنهكة، انّه ضماد لجراحات القلب والجسد؛ يخفّف عنها عناء الحياة ومشاق العمل والكدّ، في لياليه المقمرة بالآمال وبأيامه الزاخرة بالعلاقات والزيارات وبالمحبة المتبادلة).
كما أن هذا الشهر الفضيل يعدّ شهرا جديدا بالنسبة للشهور الأخرى، بسبب أنماط الحياة التي تختلف فيه عمّا يعيشه الناس في شهور العام الأخرى، فهذا الشهر يهدف أولا إلى تنقية نفس الإنسان من شوائبها، وبذلك يريد للصائم أن يشعر بأنه إنسان جديد نظيف نقي متفائل مختلف، تنفتح أمامه فرص الحياة المتقدمة المتوازنة المطمئنة.
كذلك يهدف هذا الشهر الكريم إلى أن يجعل من الإنسان جديدا في روحانياته ومعنوياته ونظرته المتفائلة للحياة، أي أنه يصبح إنسانا جديدا في أعماقه وأفكاره وتعامله مع الحياة، وليس جديدا في شكله، لأن الشكل الخارجي لا يعبر عن جوهر الإنسان، لذلك فإن شهر رمضان وأجواؤه الإيمانية تركز على باطن الإنسان وجوهره، وتهدف إلى بناء الإنسان من الداخل.
فالإنسان لا يكون جديدا بارتدائه للملابس الجديدة كما يفعل بعض الصائمين، وعلى الإنسان أن لا يكون جديدا بالملبس الذي يلبسه في هذا الشهر، وإنما بأعماقه وأفكاره وبكيفية التعامل المعنوي والإنساني مع الآخرين، وبهذا يكون قد استثمر شهر رمضان بطريقة تصب في صالحه كإنسان صائم متجدد في رؤيته للحياة وفي نظرته للحاضر والمستقبل، وفي سعيه لتحقيق التقدم في حياته على المستوى الفردي والجمعي أيضا.
تجديد الإنسان في شهر رمضان
يقول الإمام الشيرازي: (شهر رمضان، شهر جديد من بين بقية الشهور لأنه يمتاز عنها بأشياء كثيرة، يريد للمؤمن ان يكون جديداً في كل أيامه، جديداً لا بملبسه.. حيث اعتاد البعض ان يرتدوا أجمل ما عندهم من الملابس).
كذلك هناك من يعتقد أن شهر رمضان يتيح له تناول الجديد والمختلف من الأطعمة، وكأنه ليس بشهر صيام وإنما هو شهر طعام!، هذه النظرة وهذا النوع من التفكير قاصر، ولا ينطبق على شهر الله، شهر الخير، شهر الفقراء، حيث يصوم الناس جميعا ليشعروا بعضهم ببعض، الغني يشعر بما يعانيه الفقير، فيهبّ لمساعدته ويقتسم معه معاناته وأوضاعه الصعبة التي يعيشها بسبب هشاشة الوضع المادي الذي يعيشه الفقير.
لكن هناك من يجدد نفسه في شهر رمضان بطريقة أخرى لا علاقة لها بهذا الشهر المبارك، حيث يجدد بعضهم حياتهم في هذا الشهر من خلال الطعام الجديد، أي أنه يأكل كل ما هو جديد في هذا الشهر، وهذا ليس بصحيح، لأنه لا يمثل الغاية التي يهدف إيها شهر رمضان المبارك من خلال الصيام.
للأسف هناك من يقتحم الأسواق بنهم شديد، لكي يشتري أنواع الأطعمة وأكثرها لذّة، وكأنه يعيش في شهر طعام وليس صيام، وكأنه ليس شهر التدريب على الجوع من خلال الصوم، حتى يعرف الأغنياء ما يقاسيه الفقراء جراء ضيق الحال، لهذا لابد أن يتنبّه الصائم إن الجديد في شهر رمضان ليس الملبس ولا الشكل وإنما النفس والروح والفكر والعقل والإيمان.
كذلك الجديد في هذا الشهر الكريم ليس الإقبال على الطعام بنهم شديد، وإنما الهدف هو البساطة والعيش بطريقة الفقراء عندما لا يجدون ما يسد رمقهم وقوتهم اليومي، ولا يجدون ما يلبسونه من ملابس تليق بالإنسان، هذا هو الهدف الأهم الذي على الصائم أن يتعلمه من صوم الشهر الكريم، وليس الهدف تناول الأطعمة الغالية اللذيذة.
الإمام الشيرازي يؤكد على هذه النقطة في قوله:
(شهر رمضان شهر جديد لا بمأكله.. حيث اعتاد بعض الناس ان يأكلوا في هذا الشهر كل شيء جديد. فكل ما لم يعتادوا على أكله.. يبتاعونه في هذا الشهر ليتناولوه وكأنه ليس شهر الصيام بل شهر الطعام. وكأن الهدف ليس هو التدريب على الجوع والعطش ليتذكّر الإنسان المؤمن جوع وعطش الفقراء والمساكين ليواسيهم، وليتذكّر جوع وعطش يوم القيامة بل الهدف هو التعود على تناول ألذّ الأطعمة!).
الصائم النموذجي للآخرين
لذلك من الأهمية بمكان أن يؤمن الصائم بأهمية تفوقه على نفسه في هذا الشهر، وأن يكون أقرب إلى الله تعالى، وأن يصبح النموذج الذي يتشبّه به الآخرون في الخير والسعي نحو التقدم ويكون نموذجا لغيره من الناس لضمان الحياة الأفضل للجميع، حتى يعرف الآخرون الفضائل الكبيرة والنتائج الباهرة التي تتحقق للأمة في هذا الشهر الكريم.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(على المؤمن أن يصمم في هذا الشهر مع نفسه أن يكون أفضل مما كان عليه، وأن يعاهد الله سبحانه وتعالى ان يكون لبنةً جديدة تُضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشرية).
وحتى تتحقق هذه الأهداف الرمضانية الكبيرة، يجب أن يستعد الصائم للدخول في هذا الشهر الكريم، بما يضمن تحقيق النتائج المرجوّة من الصوم، فالصوم ليس انقطاع مجرد عن الأكل والشرب، والالتزام بعدم تناول الطعام في ساعات محددة، وإنما الصوم عبارة عن منظومة متكاملة من المبادئ والالتزامات الأخلاقية والدينية والمعنوية والإنسانية، تتضامن فيما بينها لتصنع حياة مشرّفة تضمن التقدم والعدالة والعيش الكريم لجميع الناس.
إذًا على الإنسان أن يستعد لدخول شهر رمضان لكي نضمن كأفراد وكجماعة أو مجتمع، النتائج التي تضمن لنا العثور على سبل التقدم والتمسك بها والسير فيها، بعد أن نروض أنفسنا من خلال الاستفادة مما يوفره لنا هذا الشهر الفضيل من مزايا وتمكين يجعلنا أقرب إلى الحياة السليمة المتقدمة.
يقول الإمام الشيرازي:
(لابدّ من غربلة تمهد الطريق إلى الدخول في شهر رمضان، ولابدّ من نقضٍ لما علق بالإنسان من غبار الجهل واليأس والتخلف، والأخذ بشآبيب الأمل والتقدم للمضي في طريق راسخ نحو تجديد الحياة الفردية ليكون هذا التجديد هو السبيل لتقدم حياة الجماعة نحو الامام).
إننا نعيش الآن شهرا جديدا من أيام شهر رمضان، وهذا يستوجب منا أن نعمل بالخطوات التي تضمن لنا الاستفادة الجيدة من الفرص التي يمنحها لنا هذا الشهر الكريم، وأن نؤمن بشكل قاطع على أنه ليس شهرا لتناول الطعام الجديد، ولا لارتداء الملبس الجديد، وإنما هو شهر لبناء الشخصية وزرع الأفكار والمبادئ والقيم الإيجابية في أعماقنا فكرا وسلوكا لبلوغ مرحلة سبّاقة من التقدم الإنساني المتوازن.
اضف تعليق