المخرجات الإيجابية الكبيرة التي تنتج عن اعتماد الدولة والحكومة على المنهج الاستشاري، هي صناعة المجتمع المستقر المتكافئ في الفرص وفي التعاون على تدعيم التعايش، والذهاب بشكل جماعي نحو تصاريف السلوكيات الناجعة التي تتحلى بها المجتمعات والدول المتحررة من قيود الاستبداد ومنهج الحكم الفردي...
(الشورى والاستشارة هي الإطار الصحيح للآراء المتعددة)
الإمام الشيرازي
ورد في معاجم اللغة عن معنى مفردة استشارَ يَستشير، استشِرْ، استشارةً، فهو مُسْتَشير، والمفعول مُستشار، اِسْتَشَارَهُ فِي أَمْرٍ يَهُمُّهُ: طَلَبَ رَأْيَهُ، طَلَبَ مِنْهُ الْمَشُورَةَ. و اِسْتَشَارَ الأمْرُ: تَبَيَّنَ، اِتَّضَح، فالاستشارة هنا تعني الاستيضاح، وهذه مفردة تدل على طلب العقل للتوضيح أكثر لكي تتحقق فوائد أكثر، لهذا يقول الإمام علي (عليه السلام) كما ورد في كتاب غرر الحِكَم: (وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا).
النقيض لمفردة الاستشارة هي مفردة الاستبداد، والمستبد هو الذي يجعل من رأيه وحيدا، فيُقصي جميع الآراء لظنّه القاصر بأن عقله هو الراجح الوحيد، وأن العقول الأخرى عاجزة عن مجاراته، وأن الآراء والمناهج الأخرى قاصرة عن مباراته ومضاهاته، وهذا الشيء أو التصوّر لا أساس له من الصحة، إنما هو مرض يستفحل في ذات الإنسان بسبب نرجسيته المريضة، وغروره، وشعوره الخاطئ بأنه الأفضل من الجميع.
فيدفع به هذا التصور المريض إلى الاستغناء عن استشارة الآخرين، فيسقط في مصيدة الفردية المستبدة، لينحدر يوما بعد آخر في مستنقع الدكتاتورية المتعنتة، بعد أن يقصي منهج الاستشارة الذي يقدم للحاكم، ولمجمل الأنظمة السياسية الحلول الناجعة للقضاء على الإرهاب والعنف والتوترات التي تعاني منها الدول والمجتمعات، وإحلال السلم والسلام فيها.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الجزء الثالث):
(هنالك عدة أمور تُعدّ من جملة المفاهيم التي يقوم بها السلام السياسي، فإذا طُبِّقت وفق تعاليم النظرية الإسلامية سيعم السلم والسلام والأمن في المجتمع، وتزول عنه مظاهر العنف والإرهاب والجور والظلم، ومن أهم هذه الأمور استشارية الحكم وعدم الاستبداد به).
ولا يُحصَر منهج الشورى في جانب محدد فقط، كالسياسة مثلا، وإنما يمكن أن تكون الاستشارة منهج حياة يشمل المجالات كافة، فيمكن أن يشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، فالمهم في هذا المنهج أن يتفرّد المسؤول الأعلى بصناعة القرار، وأن لا يقصي الآراء الأخرى، وأن تكون المخرجات جماعية دائما، ومن الأفضل أن تسمح لأكثر عدد ممكن من صناعة الرأي والقرار أيضا.
حتى على مستوى الفعل الاجتماعي داخل العائلة يكون للمنهج الاستشاري إيجابيات كبيرة على حياة أفراد هذه العائلة، وقد أكد علماء الاجتماع بأن العائلات (الاستشارية) أي التي لا ترزح تحت السلوك الأبوي السلطوي القمعي، هي التي ينجح أفرادها فيحققون أفضل النتائج سواء على المستوى العلمي أو العملي والوظيفي، فالأسرة التي تُدار بطريقة حوارية ويتم فيها أخذ الآراء جماعيا، وتربية الأبناء على السلوك الانتخابي الحر، هذه الأسرة ستنجح.
حماية الرأي وضمان الحريات
أما ما يختص به مقالنا هذا فهو الاستشارية السياسية التي تنصح الحاكم أو القائد أو السياسي بعدم التفرد في إدارة البلد، بل يجب عليه أن يشجع على حرية الرأي واختلاف الرأي وصناعة الرأي الحر وحمايته، فهذا دليل على رجاحة عقلية الحاكم، وحكمته، لأن المسؤولية كلما كانت جماعية كانت أقرب إلى النجاح وقطف الثمار اليانعة، وعلى العكس من ذلك حين تغيب الاستشارة والمشورة والشورى والحوار الحر، تتنمر السلطة وتدمر الدولة والناس.
لهذا يجب أن يحرص الحاكم على الابتعاد التام عن الاستبداد، بل عليه أن يكون راعيا استشاريا من طراز خاص لأفراد الشعب، وينشر أساليب الحوار والنقاش، ويشجع على حرية الآراء والانتخاب والاختيار، لأنها الأساليب المضمونة التي تقود الدولة والمجتمع نحو التقدم ومواكبة التطور الهائل الذي يحدث اليوم على مستوى العالم في كل المجالات.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن المجالات التي يمكن أن تتدخل فيها الشورى والاستشارة كثيرة جدا، فلها دور في المجال التربوي والاقتصادي، ولها مساحة واسعة في البعد الاجتماعي، ولها ميدان واسع في العديد من مجالات الحياة، والحديث هنا عما يتناول بعدها السياسي، أي استشارة الحاكم لرعيته في مجال السياسة والحكم وعدم استبداده به).
لكن يبقى الركن الأقوى والأهم للشورى في مجالها السياسي أكثر وضوحا ورسوخا وأهمية، فالشورى إذا تغلغلت في العمل السياسي سوف تحقق نتائج باهرة، والأهم من ذلك أنها لا تنحصر بجودة السياسة وحدها، بل تنعكس على المجالات الأخرى كلها، فيتم الاستعانة بمنهج الشورى في شؤون الحياة المختلفة، فمثلا يتم تدريب الطلاب في المدارس والجامعات على انتخاب أعضاء الاتحادات الطلابية التي تمثلهم في المؤسسة التعليمية، ويعتاد هؤلاء الطلاب الشباب على أسلوب الانتخاب الحر فتنتظم حياتهم كلها وفق هذا الأسلوب.
أما حرية الرأي فهي الركن الأهم الذي تركز عليه الشورى، حيث يتعلم الفرد والجماعة، وحتى الحكومات، تتعلم على تسيير شؤون الحكم وشؤون الناس وفق الأساليب الاستشارية التي لا تقصي أحدا، بل تفتح أبواب المشاركة للجميع لصناعة المشهد السياسي، أو الاجتماعي، أو التعليمي، أو الاقتصادي والحياتي بشكل عام، فالشورى هي الميدان الحر الأوسع لمجالات الحياة المتعددة.
وهذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله: (من خصائص الشورى إنها مجال خصب وميدان واسع لحرية التعبير والانتخاب في الميدان السياسي. وبما أن حرية الرأي في الانتخاب من الأمور الضرورية في المجتمع الإسلامي فقد أولاها التشريع الإسلامي عناية بالغة، حيث ورد الحديث عنها في القرآن الكريم فقال سبحانه: وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ) وقال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ).
ومن المخرجات الإيجابية الكبيرة التي تنتج عن اعتماد الدولة والحكومة على المنهج الاستشاري، هي صناعة المجتمع المستقر المتكافئ في الفرص وفي التعاون على تدعيم التعايش، والذهاب بشكل جماعي نحو تصاريف السلوكيات الناجعة التي تتحلى بها المجتمعات والدول المتحررة من قيود الاستبداد ومنهج الحكم الفردي.
صناعة المجتمع المتكافئ
وهكذا تُسهم الشورى في صناعة مجتمع مستقر متكافئ، وأيضا تنجح في صناعة حكومة رشيدة قادرة على المساواة بين الناس، ويمكنها دعم الفعاليات المختلفة للمجتمع في إطار النقاشات والحوارات وإطلاق الحريات الضامنة للرأي والفكر، فيتم تحقيق مخرجات سياسية مهمة، بل متميزة نراها في حياة الناس وفي النجاحات الكبيرة التي تحققها الحكومة الرشيدة للمجتمع من خلال تشبثها بمنهج الاستشارة بأسلوب عملي جاد.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(الشورى والاستشارة هي عملية تكامل للإنسان على المستوى الفكري والسياسي، ولها دور إيجابي في إرساء دعائم كيان المجتمع السليم، والحكومة الرشيدة، إذ فيها تتم عملية التنظيم السياسي بأنجح صوره).
هناك من ينتقص المنهج الحر، ويدّعي ظاهرة التسيّب والتشرذم، ويدعو إلى الفردية والدكتاتورية والاستبداد، لكنه ينسى أن التاريخ البشري القريب والبعيد علّم البشرية كلها أن الفردية والاستبداد هما اللذان تسببا بكل ما عانته البشرية من حرمان وكوارث وانتهاكات لا تزال العديد من الأمم تعاني وتئن من ثقل وطأتها، ومن عذاباتها وحرمانها.
أما الشورى والاستشارة فهي الحاضنة الأوسع لجميع الآراء المختلفة، بحيث يتم ضمان حرية الرأي دونما إكراه، وكل هذه الآراء المختلفة يمكن الموازنة فيما بينها في إطار الشورى، فتكون نتائجها ومخرجاتها ناجحة جدا، وقيد جاء القول المعروف (إذا اختلفت الآراء صحت) و (إن اختلاف الآراء لا يفسد للود قضية)، وهذه هي مهمة الاستشارة بالتحديد.
الإمام الشيرازي يؤكد على أن: (الشورى والاستشارة هي الإطار الصحيح للآراء المتعددة، وهي الضابط الذي يجعل الآراء المتخالفة في توجيه سليم).
الخلاصة أن جميع الحكومات الرشيدة بالفعل نأت بنفسها عن الاستبداد، ووجدت في منهج الشورى ضالتها، وهذا ما يجب على الدول والأمم والمجتمعات أن تتنبه إليه، فمن يريد أن يتطور ويحقق النجاح والتعايش والتقدم المستدام، عليه التمسك بالمنهج الحر التعددي المؤمن بالتنوع وبحماية الرأي وكفالة الحقوق المشروعة وضمان الحريات.
اضف تعليق