منهج الدفع (بالتي هي أحسن)، يعد من المواقف الإيجابية الفاعلة والمؤثرة، حيث يسهم بشكل كبير وفعال في احتواء النزاع، والتقليل من الصدامات، من خلال أسلوب الاحتواء الفاعل، لأن إلغاء النزاعات أمر غير ممكن بسبب طبيعة الإنسان وتكوينه الذي يقبل النزاع ويتعامل معه، لذا لا يمكن إلغاء النزاع ولكن يمكن احتواءه...
(الموقف الإيجابي سيقلل من المشكلات الناجمة عن الصراعات الاجتماعية)
الإمام الشيرازي
يعرَّف النزاع بأنه حالة تصادم بين إرادتين متضادّتين، وهو مشتق من كلمة منازعة أو منازعات، تحدث بسبب تضارب المصالح والأهداف والغايات، ولهذا فإن الذين يدخلون في نزاعات لأي سبب كان، وبغض النظر عن كونهم على حق أو العكس، ينشغلوا بأمور النزاعات التي تعمل على تأخّرهم بسبب حدوث الاضطرابات والتهيئة المستمرة لإدامة مستلزمات النزاع حتى لا يتعرض للهزيمة سواء كانت فعلية أو معنوية.
لهذا فإن النتائج التي تتمخض عن النزاعات هي الفشل المستمر للأطراف المتنازعة، وعلى العكس من ذلك تماما، حينما يتم تجنّب النزاع والابتعاد عنه قدر الإمكان، فإن هذا النأي بالنفس عن النزاعات يكون سببا مهمّا لحدوث التقدم المستدام للأمة أو الدولة أو المجتمع، فمن يلجأ إلى النزاع يفشل ويتأخر، ومن يتحاشى النزاع يتقدم لسبب واضح، إنه لا يهدر وقته ومهاراته وطاقاته وممتلكاته وموارده دونما طائل، وهذا هو ديدن الحكماء والعقلاء من الحكام أو المسؤولين عن إدارة الدول والمجتمعات.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول عن هذا الموضوع في كتابه القيّم الموسوم بـ (لكي لا تتنازعوا):
(لقد وجدتُ في حكايات الذين تنازعوا ففشلوا، وحكايات الذين توحّدوا وتعاونوا فتقدّموا، دروساً وعبراً لمن يريد التقدم ويخشى التأخر، ووجدت في قصص هؤلاء وأولئك عاملاً مهماً في التقليل من الخصومات والنـزاعات بين أبناء الأمة الواحدة).
اختلاف الآراء ليس بالضرورة يقود إلى تضارب المصالح، ولا يؤدي إلى تناقض الأهداف والإرادات، وليس من المحتّم أن تؤدي الآراء المختلفة إلى الاقتتال أو الحروب، ولذلك لا يمكن إجبار أحد على تغيير رأيه بالقوة، بل يجب أن تكون هناك قناعة وفهم في حالة تغيير الرأي، وإلا فإن إكراه الناس على تغيير آرائها لا يصب في صالح أحد.
اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية
البقاء على الرأي والثبات عليه من حق كل إنسان، وكفله الدين والشرع والقوانين الحقوقية الوضعية، لذلك لا يمكن أن تؤدي الآراء المختلفة إلى النزاعات، ولا يصح أن تكون بوابة للتصادم، بيْدَ أن المهم في هذا الجانب هو وجوب أن يتحرّى الإنسان الرأي الصواب والحقيقي وليس الرأي أو الفكر الزائف، وهنا يبرز دور الحوار في إبداء حالة التفهّم، ومن الممكن أن يتغيّر رأي الإنسان من الخطأ إلى الصواب ولكن عبر المعرفة والإفهام.
يقول الإمام الشيرازي:
(هذا لا يعني أنَّ الاختلاف أدّى بهما إلى حدِّ الخصومة والنـزاع، فليس المقصود بتعدد الآراء تعدد النـزاعات. وليس المقصود أيضاً دعوة أصحاب الآراء المختلفة أن يتركوا آراءهم ويأخذوا بآراء الغير ـ بصورة مطلقة ـ فليس كلامنا في هذا الاتجاه، بل ما نريد قوله هو: اجتهدوا لتحرّي الحقيقة من بين الآراء المختلفة والمتناقضة).
أحيانا قد تكون الآراء المختلفة مصادر للنزاعات، حيث يقوم أحد الأطراف بالتمسك برأيه حتى لو كان متناقضا مع غيره، مما يتسبب له ذلك في أعداء لا يتناغمون مع رأيه أو فكره، ولكن حتى لو تسبب الرأي بصنع العدو لا يجب اللجوء إلى التنازع، بل من الأفضل احتواء هذا الاختلاف، لأن الإصرار على التناقض قد يقود إلى حرب أو نزاع من أي نوع كان.
كذلك من الأفضل في حال حدوث اعتداء بسبب الرأي، فمن الأفضل عدم الرد على العدوان، حتى لا تتسع دائرة الاختلاف، وتتوسع دائرة العدوان والتناحر، وتزداد النزاعات وتأخذ طابع الاستمرارية، فتحرق الأخضر واليابس كما يُقال.
لذا لابد من اعتماد منهج الدفع (بالتي هي أحسن)، هذا النص القرآني الكريم الذي يدعو إلى عدم المضّي بالتناحر والتنازع قُدُما، بل لابد من امتصاص السخط والنقمة والتناقض في الرأي، والتعامل بنيّة حسنة مع الآخر، واعتماد الأسلوب الخالي من العنف لفظا أو فعلا، فمنهج الدفع بالتي هي أحسن يغلق جميع الأبواب التي تقود الناس إلى النزاعات.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(إذا تمَّ التمسك برأي ما، بعد طول اجتهاد وعناء، فلا يعني اختلاف الرأي انتشار البغضاء والعداء. وإذا أظهرتم العداء ـ لا سمح الله ـ فيجب أن يكون لهذا العداء حدّ معقولٌ، فالشيء إذا جاوز حدَّه، انقلب إلى ضدِّه. ثم إذا أظهر أحد الطرفين العداء فلا موجب للطرف الآخر أن يردّ على العدوان؛ لأنّه الأفضل في قانون الإسلام: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
منهج المواقف الإيجابية الفاعلة
هذا المنهج الحكيم، منهج الدفع (بالتي هي أحسن)، يعد من المواقف الإيجابية الفاعلة والمؤثرة، حيث يسهم بشكل كبير وفعال في احتواء النزاع، والتقليل من الصدامات، من خلال أسلوب الاحتواء الفاعل، لأن إلغاء النزاعات أمر غير ممكن بسبب طبيعة الإنسان وتكوينه الذي يقبل النزاع ويتعامل معه، لذا لا يمكن إلغاء النزاع ولكن يمكن احتواءه.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(الموقف الإيجابي سيقلل من المشكلات الناجمة عن الصراعات الاجتماعية، وسيقلل من نتائج المواجهة بين الأطراف المتناقضة).
وهناك قضية أخرى مهمة تتعلق بموضوعنا هذا، موضوع النزاعات، حيث على الإنسان الذي يدخل في النزاعات مع آخرين أن يبحث عن الأسباب التي تقود إلى التصادم مع الآخرين، وعليه أن يسأل نفسه، ما هو السبب الذي يثير التنازع بينه وبين الآخرين، هل هو الجهل؟ أو هو التكبّر، وفي حال أجاب نفسه بالشكل الصحيح والصادق، عليه أن يعالج الأمر في ضوء الإجابة الصادقة التي يحصل عليها.
الإمام الشيرازي ينصح قائلا: (على من يريد التنازع أن يطرح على نفسه هذا السؤال؛ ما هو مصدر التنازع، هل هو الجهل أو الكِبَر؟).
في حال توصل إلى الإجابة الناجعة، وعرف مثلا أن الجهل هو الذي يقف وراء اندلاع النزاع، فهذا يحتّم عليه أن يتغلب على الجهل في ذاته، وعليه أن يغذي عقله بالحكمة والمعرفة، وأن يحارب الجهل بدلا من محاربته للآراء والأفكار التي تتناقض مع آرائه، وعليه القيام بعملية (غسيل الجهل) لعقله وسلوكه، والتخلي عن تعصبه الأعمى.
أما إذا كان التكبر هو السبب الذي يقوده إلى التنازع والتصادم مع الآخرين، فإن التكبر من أسوأ الصفات التي تدمّر شخصية الإنسان، كما أنها صفة محرّمة ومكروهة شرعيا، إذا لا يجوز للإنسان أن يتكبر على غيره مهما كانت الأسباب التي تدعوه إلى ذلك، فالتكبر مرض كريه يجب على الإنسان أن يتخلص منه بشكل فوري لأنه يعبر عن مرض نفسي خطير يدمر حياة المتكبر، ويجعله معزولا عن الآخرين إلا أصحاب المصلحة المتملقين.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(من هنا، فإذا كان منطلق النـزاع هو الجهل، يجب أن يكفّ عن ذلك؛ لأن نزاعه لا مورد له، وهو هواءٌ في شبك. وإذا كان منشأ النزاع هو الكِبر، فليعلم أن التكبر مذموم في الشريعة، ولذا يجب الابتعاد عنه).
إذًا الكيفية التي تبعدنا عن النزاعات واضحة، وتتمثل بتحييد الأسباب التي تدفع بالإنسان نحو النزاع، ومن هذه الأسباب وأخطرها (الجهل و التكبر)، لذا يجب التخلص من هاتين الصفتين الكريهتين، كذلك لابد من التركيز على أسلوب التعامل القويم والسليم والمتوازن (ادفع بالتي هي أحسن)، كي يتجنب الإنسان النزاعات، ويسهم في صنع مجتمع غير متنازع.
اضف تعليق