لتأكيد التباين والاختلاف بين تهذيب الحضارات المادية للإنسان وبين تهذيب الشريعة الإسلامية لـه نقول: إن تهذيب الإنسان وسلامته هو أحد المبادئ التي عمق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين كما قال سبحانه: (وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَىَ دَارِ السّلاَمِ) فأصبحت جزءً من كيانهم، وعقيدة من عقائدهم...
(في الحضارة المادية حين تزداد معارف الإنسان، تتعدد أهدافه فيسيطر على الحياة فيفسدها)
الإمام الشيرازي.
من المفردات التي تتردد على ألسن البشر بصورة مُغالى بها، هي مفردة التحضّر ومشتقّاتها، والحضارة هي المفردة الأكثر وضوحا وقربا من نفوس الناس وقلوبهم، كونها تعبّر عن السلوك والفكر المهذَّب الخالي من العنف والتجاوز بكل أشكاله، حتى وُصِفَ الإنسان المتحضّر بأنه يحتل قمة السلوك الإنساني بسبب فكره ومبادئه التي يؤمن بها.
لقد هبطت الرسالات الإلهية عبر الأنبياء لكي تبني أناسا متحضرين، كما أن الفلسفة في جانبها الجيد، ركّوت على مسألة تهذيب الإنسان، وتخفيف غلواء العنف في فكره وسلوكه، لأن الإنسان الفرد والجماعة بلا حضارة، يعني العيش تحت سطوة قانون الغاب، فأي مجتمع غير متحضّر سوف تضمحل فيه الحضارة، وتغيب عنه المبادئ البناءة، ويعلو فيه سقف التنمّر والتوحش بشكل مضطرد.
المادية من المظاهر المؤثرة في تدمير حضارة البشر، وإلحاق الهزيمة بالجانب الإنساني المضيء في تكوين الإنسان، ومن طبيعة الحضارة المعاصرة أنها تقوم على المرتكز المادي الصرف، مما أعطى انطباعا عن عالم اليوم بأنه عالم مادي تُخنَق فيه الحضارة الإنسانية.
من الأديان التي سعت إلى تهذيب سريرة الإنسان، وجعل باطنه يشبه ظاهره في الجمال والانتصار للحق ورفض الظلم، هو الإسلام، وقد ركز على تهذيب الإنسان، والسعي لتحقيق سلامته وسلامة المحيط الاجتماعي به، وجاء هذا البند في عمق المبادئ الإسلامية.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّ م الموسوم بـ (فقه: السلم والسلام/ الجزء الثاني):
(لتأكيد التباين والاختلاف بين تهذيب الحضارات المادية للإنسان وبين تهذيب الشريعة الإسلامية لـه نقول: إن تهذيب الإنسان وسلامته هو أحد المبادئ التي عمق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين كما قال سبحانه: (وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَىَ دَارِ السّلاَمِ) فأصبحت جزءً من كيانهم، وعقيدة من عقائدهم).
الغرق في المادية ومظاهرها
من المؤسف حقا أن البشر في ظل التمدّد المادي يتحول إلى غول متعطّش للمادة بكل أنواعها، فتغدو مظاهرها طابعا عن العصر الحالي، وهذا دفع بالناس إلى التسارع في الاستزادة من المعارف والمعلومات، ليس من أجل خلق عالم أفضل تسوده العدالة ويسمو فيه الحق، وإنما على العكس من ذلك تماما.
فقد أخذ إنسان العصر المادي، يستزيد من العلوم، وهذا أمر حسن، بل هو واجب مهم، وقد طالبت به الأديان ومنها الإسلام، الذي حث الإنسان على التعلّم (اطلبوا العلم ولو في الصين) وهو حديث يحث الناس على تحصيل العلوم حتى لو كانت في أبعد نقطة من الأرض، ومعروف في حينها أن الصين كانت بعيدة عن المسلمين.
ولكن المشكلة التي رافقت عصرنا الراهن، أن العلوم باتت سببا في دفع الإنسان نحو المادية أكثر فأكثر، حتى يكاد الجانب الإنساني في يضمحل أو يُمحى، فصار يسعى نحو العلم لكي يوظف ذلك في الإفساد بالأرض!
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(إن الإنسان يختلف عما هو عليه في الحضارة المادية حينما تزداد معارفه فتتعدد أهدافه فيسيطر على الحياة فيفسدها بعد أن يزداد حرصه وتتشعب طموحاته).
لكن الإسلام رفض تحويل العلم من غايته الإنسانية إلى غاية مادية تسيء للبشر، وتجعل من حياتهم موبوءة بالأخطاء والمشكلات، نتيجة للصراعات الفردية والجماعية (بين الدول) بسبب المكاسب المادية، فهناك حروب كبيرة أشعلتها النيران المادية، وبدلا من أن يكون الإنسان رحيما بنفسه وبني جنسه، صار فتّاكا بهم، وماتت الرأفة في قلبه.
لذلك ركز الإسلام على بناء الإنسان المتوازن، الذي يتفوق عنده النزوع الإنساني على المادي، لهذا فالمسلم الحقيقي هو الذي لا يدخل في صراعات مادية، لأن دينه منعه من هذه الصراعات التي تمنع بناء المجتمعات والدول الرحيمة، لهذا صار الاستقرار والتطور هدفا أساسيا من أهداف الدين الإسلامي، ودخل في تعاليمه ومبادئه.
الإمام الشيرازي يقول:
(أما الإسلام فهو يعمل من أجل التطور والاستقرار والازدهار والسلام والتقدم في كافة مجالات الحياة ونواحيها، وقد أُمر الإسلام المسلمين بذلك، في الآية الكريمة: وَأَنتُمُ الأعْلَوْن).
كيف نحقق الاستقرار والازدهار؟
التركيز على تقليل النزعة المادية لا يعني محاربتها، ولا يعني أن المادة سيئة بشكل كلّي أو مطلق، بل هناك جوانب مهمة للجانب المادي والتطور فيه بما يحقق متطلبات العيش الكريم للمجتمع، لكن هناك نقطة مهم في هذا الصدد، وهي خلق حالة من التوازن بين المادي والروحي والمعنوي أيضا، بما يحقق الاستقرار والازدهار.
هذه الموازنة المادية الروحية تخلق نوعا من السلام الداخلي والاطمئنان عند الإنسان، لذلك نراه يُنتج ويبدع ويزدهر ويتطور، لأن الإنسان الخائف لا يمكن أن يكون منتِجا، لهذا السبب ركز الإسلام على السلم والسلام للفرد والمجتمع على حد سواء.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(الإسلام هو رسالة السلم والسلام الذي يريد للإنسانية الرقي والتقدم والحضارة والسكينة والاطمئنان، فإن الإنسان غير الآمن في مجتمعه ومسكنه وحياته لا يتمكن من أن يحقق الازدهار والنمو).
لابد أن يكون هناك حرص شديد من المعنيين بتربية الناس، سواء كانوا صغارا أم مراهقين أم شبابا وحتى كهولا، وهذه التربية يجب أن تقوم على حمايتهم من القلق والخوف من الحاضر والمستقبل، لسبب واضح، فالإنسان الخائف بشكل دائم يكون أشبه بالمشلول، ويصبح عاجزا عن تقديم أي عمل كان بسبب خوفه وقلقه.
لذا يجب الحرص على وضع الإنسان النفسي والصحي، ولابد من تنبيهه إلى الأسباب الحقيقية التي تصيبه بالخوف، وهي تتمثل بالإيغال المادي، والنزوع الاستهلاكي المفتوح، فهذا النوع من الخوف يؤدي إلى تحطيم الإنسان، ويسهم في تقليل ثقته بنفسه، وقلة إيمانه أيضا، مما يجعل منه معطَّل الطاقات، وعاجز عن المساهمة في بناء المجتمع المزدهر.
حيث أكد الإمام الشيرازي قائلا:
(كثيراً ما يؤدي فقدان الأمن ـ الناشئ من الخوف ونحوه ـ إلى تحطيم الإنسان في أبعاده المختلفة واستنفاد معنوياته السامية التي تحافظ على كرامته وإنسانيته).
لابد من التذكير بأن الإسلام وضع المرتكزات الناجحة والمناسبة لخلق التوازن المادي الروحي المطلوب، لأنه دين الرحمة والسلام، وقد تمكن الإسلام من صنع الإنسان المسلم المتواضع الرحيم، المؤمن بالحضارة الإنسانية الحقيقية وليس الشكلية، وهذا ما تحقق في بواكير الرسالة النبوية، وهو ما أشار له مؤرخون منصفون من أمم أخرى، كما نلاحظ ذلك في شهادة أحد المؤرخين الأجانب بحق الإسلام والمسلمين.
حيث قال غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: (إن القوة لم تصمد أمام قوة القرآن، وأن العرب تركوا الماديين أحراراً في أديانهم، فإذا كان بعض النصارى قد أسلموا واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما كان يتّصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السبل التي لم تعرفها الأديان الأخرى، فقد عاملوا أهل سوريا ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم وحفظ الأمن بينهم، والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب).
اضف تعليق