هناك مؤتمرات يتم عقدها لتخليص الأرض والبشرية من آفة الفقر، وهي مشكلة صنعتها البشرية بنفسها لنفسها، وقد ذكرنا الأسباب التي أدت لذلك، ولكن قبل فوات الأوان، يجب معالجة ظاهرة الفقر والقضاء على التفاوت الطبقي ليس بين الغرب والشرق فقط، أو بين الشمال والجنوب، بل بين بني البشر كلهم، حتى في المجتمع الواحد...
(الإسلام يقضي على الفقر وذلك بسلمه وسلامه الاقتصادي) الإمام الشيرازي
لم يعد خافيا على أحد أن عالمنا اليوم يعاني من مشكلة كبيرة وخطيرة أسمها الفقر، وهي مشكلة تتعقد وتغيب حلولها الجرية كلّما تقدمت البشرية في المجالات الصناعية والتكنولوجية، وبدلا من أن يكون هذا التقدم البشري الهائل حافزا وطريقا للحلو والمعالجات للقضاء على مشكلة الفقر، صار سببا في تفاقم هذه المشكلة، وهذا أمر قد يبدو غريبا.
معنى الفقر هو بحث الإنسان عن حاجة مادية أو معنوية، فهو قد يكون جائعا يصعب عليه الحصول على ما يكفيه من طعام، وهذا يسمى فقير، وفقره من النوع المادي، وكذلك حين يفتقد الإنسان للملبس اللائق والسكن الجيد والحياة الكريمة، يُقال إنه إنسان فقير مادّيا.
لكن هناك أنواع أخرى للفقر، ومنها الفقر المعنوي وهو متشعب ومتعدد المجالات، فقد يكون فقرا فكريا، أو دينيا أو أخلاقيا أو علميا، أو سوى ذلك مما يُحسَب على أنواع الفقر المعنوي، وفي كل الأحوال يبقى الفقر مشكلة تحتاج إلى حلول جذرية، والإنسان الذي يعاني من أحد أنواع الفقر المعنوي كأن يكون ضعيف التفكير، أو قليل التعليم، فيكون فقيرا في الجانب العلمي، هذا الإنسان لا يقل فقرا عمّن لا يستطيع إشباع نفسه ماديا كما في مجال السكن والطعام مثلا، ففي كل الأحوال لابد من معرفة الفقر وأسبابه ونتائجه ومن ثم حلوله.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ ( الفقه: السلم والسلام):
(هناك معان كثيرة للفقر وهي أعم مما هو شائع عنه، وتنقسم إلى معنوية ومادية. ومثال المعنوية: فقر الإنسان إلى الله تعالى فمهما كانت صفته فإنه فقير إلى الله تعالى، أي محتاج إلى رحمته وعفوه، وهو الذي أشار له الدعاء: اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك).
من المفارقات العجيبة أن يكون الغني فقيرا، فتجده يمتلك الأموال الكثيرة لكنه في نفس الوقت يعاني من الفقر لأسباب كثيرة، يقف في مقدمتها الطمع، فحين يكون الإنسان الغني طمّاعا فهو في هذه الحالة فقيرا، لأنه لا يزال يطلب المال ويسعى إليه حثيثا وكأنه لا يمتلك شيئا حاله حال الفقير في هذا الأمر.
كذلك الأمر بالنسبة للإنسان البخيل، فهو أيضا يعاني من مشكلة الفقر، كونه يمتلك الأموال ولا ينفقها في مكانها الصحيح، بل أحيانا لا ينفقها حتى على نفسه وعلى عائلته أيضا، فيكون في هذه الحالة مشابها للفقير الذي لا يمتلك مالا، إذ ما فائدة أن يمتلك الإنسان المليارات لكنه بخيل إلى حد أنه لا ينفق منها على نفسه!
العوامل التي تقودنا للفقر
الإمام الشيرازي يشير إلى هذه الحالة فيقول عنها: (يأتي الفقر بمعنى الطمع أو شدة القنوط، فالغني الذي جبل على الطمع يصطلح عليه بالفقير، لأنه لازال محتاجاً لما يريده، والبخيل أيضاً فهو يملك مالاً ولكن ينكر وجوده عملاً فيطلبه، ورغم امتلاكه للمال قد لا يقال عنه: غني، بل هو والفقير الواقعي يعيشان في الدنيا سواء، يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء).
بالطبع هنالك أسباب كثيرة للفقر، ونحن هنا لسنا بصدد الفقر الفردي، بل نتطرق للفقر كظاهرة جماعية عالمية ومحلية أيضا، فهناك عوامل تؤدي إلى مشكلة الفقر منها أو في المقدمة منها قلّة الموارد أو ندرتها، ومن الغريب حقا أن تكون هنالك موارد في بلدان معينة وفيها ثروات هائلة، ومع ذلك تبقى شعوبها تعاني من نسبة عالية للفقر.
يعود سبب ذلك إلى سوء إدارة الموارد، وهو ما يحصل في العديد من الدول التي تختزن في بطون أراضيها ثروات معدنية هائلة، وتصدرها بعشرات أو مئات المليارات من الدولارات، لكنها في نفس الوقت تشكو من شظف العيش أو نسبة كبيرة من أفرادها، وهذا يعود إلى سوء استخدام الموارد المالية وحتى البشرية التي تحصل عليها مما يؤدي بها إلى ظاهرة التفاوت الطبقي الذي ينتج عنه ظاهرة الفقر، والفقر المدقع.
كذلك نلاحظ في الدول التي تعاني من الفقر على الرغم من كونها غنية بالثروات الطبيعية، أن ثرواتها لا يتم توزيعها بشكل عادل بسبب ضعف حكوماتها، وضعف التشريعات والقوانين السارية فيها، وبالتالي تبرز مشكلة ضعف القدرة الشرائية للفرد، بسبب سوء إدارة الموارد، والفشل في توظيفها بالشكل الجيد، مضافا إلى الفشل في التوزيع العادل.
وهذه كلها أسباب بحاجة إلى أن تتنبّه لها الدول (الغنية/ الفقيرة) في نفس الوقت، لاسيما في ظل هذا الموج المادي الهائل الذي اكتسح العالم كله، حتى باتت كثير من الدول ذات الإدارة السيئة لمواردها، أسواقا مفتوحة للصناعات والسلع المادية التي باتت تغزو الدول الضعيفة الهشة حتى تستنزف مواردها، فتنعكس مظاهر الترف عند الأقلية، فيما تعاني الأكثرية من شظف العيش، ومن حالات الجوع التي تفتك بها.
الصناعيون والعبث بموارد الطبيعة
هكذا تجتمع أسباب عديدة لتكون أمامنا نتائج وخيمة بسبب هيمنة الفقر على نسبة عالية من سكان العالم، ليس لأن العالم فقير، أو لأن مورد الأرض قليلة، بل على العكس من ذلك موارد الأرض كثيرة، لكن تم استنزافها من الصناعيين الذين عبثوا بالطبيعة، وصنعوا ظاهرة الفقر العالمية، وتسببوا بظواهر خطيرة غير الفقر، ومنها مشكلة التغيّر المناخي.
يقول الإمام الشيرازي:
(توجد عدة عوامل لنشوء مشكلة الفقر، فهي في رأي الرأسماليين نابعة من قلة الموارد الطبيعية، وفي رأي الماركسيين سببها بقاء المظالم الاجتماعية عبر التاريخ، وهو ناتج من عدم بلوغ التطور مراحله المتقدمة. وهناك أمور أخرى تسببّت في هذه المشكلة، منها كثرة الحاجات وقلة دخل الفرد، الذي ينشأ بسبب سوء تنظيم الإنسان في توزيع الثروة والدخل).
وقديما قيل إذا عُرِف السبب بطل العجب، ونحن نقول إذا عرفنا أسباب ظاهرة الفقر، وهي معروفة للجميع، فما بقي هو المعالجات التي يجب أن تكون مهمة عالمية جماعية، وأن تبدأها الدول التي تببت بها، ونعني بها الدول الرأسمالية، والشركات الاحتكارية.
كذلك هنالك من تقع عليه مسؤولية وأسباب الفقر وعليه العمل على معالجتها، وهؤلاء كما يشير إليهم الإمام الشيرازي هم (الدولة، والمجتمع، والإنسان)، فإذا لم يتحرك هؤلاء معا وفي خطوات مسؤولة سوف يصعب التصدي للفقر بصورة جادة وجذرية.
لهذا يذكر الإمام الشيرازي إن (من أسباب الفقر هو تخلف الشعوب وتأخرها عن الركب الحضاري في العالم. والحقيقة أن مشكلة الفقر لا يمكن أن يحددها سبب معين وإنما هي نتيجة عوامل متعددة، ترجع إلى ثلاثة عناصر أساسية وهي: الدولة والمجتمع والإنسان، وهذه العناصر الثلاثة إن اشتركت بأجمعها في أداء ما عليها من حقوق اجتماعية واقتصادية لا يبقى لمشكلة الفقر أي أثر، وإن حدث تقصير من أحد هذه العناصر الثلاثة تبقى مشكلة الفقر حاضرة لا يمكن القضاء عليها).
هناك مؤتمرات يتم عقدها لتخليص الأرض والبشرية من آفة الفقر، وهي مشكلة صنعتها البشرية بنفسها لنفسها، وقد ذكرنا الأسباب التي أدت لذلك، ولكن قبل فوات الأوان، يجب معالجة ظاهرة الفقر والقضاء على التفاوت الطبقي ليس بين الغرب والشرق فقط، أو بين الشمال والجنوب، بل بين بني البشر كلهم، حتى في المجتمع الواحد، والأمة والدولة والمدينة والأسرة الواحدة لابد من إيقاف عجلة التفاوت والتمييز بشكل فوري.
اضف تعليق