حرية الروح مفهوم ينتمي إلى حرية الإنسان، وهي الحرية التي كفلها الإسلام للجميع، لكن التركيز على حرية الروح أخذ مساحة كبيرة من الاهتمام الإسلامي بمفهوم الحرية بشكل عام، الحرية كما يفسرها المهتمون والمعنيون هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار...
(الحرية من ميزات الدين الإسلامي، حيث يجعل الروح حراً أمام كل الشهوات)
الإمام الشيرازي
حرية الروح مفهوم ينتمي إلى حرية الإنسان، وهي الحرية التي كفلها الإسلام للجميع، لكن التركيز على حرية الروح أخذ مساحة كبيرة من الاهتمام الإسلامي بمفهوم الحرية بشكل عام.
الحرية كما يفسرها المهتمون والمعنيون هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة. والحرية هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما.
أما في اللغة، فالحريّة هي مصدر صناعي، مركّب من الصفة المشبّهة «حُرّ»، ومن اللاحقة المصدرية (الياء المشددة والتاء المربوطة) «يّة»، ثم بعد تركيب هذا الاسم، تحوّل من صفة إلى اسم جامد، وحريّة الشعب هي سيادته على نفسه، وحرية التجوّل والتعبير والاعتقاد هي حق الإنسان في اختيار ما يريد وفقاً لاقتناعه واعتقاده.
وهكذا فإن الحرية قائمة على قناعة الإنسان بعد الاطلاع والتمحيص والفهم والإدراك، ولا يمكن قبول الأفكار أو الأفعال وتنفيذها قسريا في إطار مفهوم الحرية، لذلك تقوم الحرية على قناعة الاختيار وليس على سلطة الإجبار، وهذه هي القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الحرية في الإسلام، ومن أهم مفاهيم الحرية الإسلامية (حرية الروح) وهي تختلف عن الحريات المادية، سواء كانت فردية أو جماعية، سياسية أو سواها.
لقد ادعت جميع الحضارات على مر التاريخ بأنها حامية للحريات، لكن ما يجري في الواقع المُعاش أمر يختلف عن إطلاق الكلام، فلا جدوى من فكر أو كلام أو معانٍ دون أن تتحول إلى ملموس يثبت وجودها وصحّتها، وهذا ما عمل عليه الإسلام بخصوص التركيز على الحريات بشكل عام، والتأكيد على حرية الروح كونها تمثل الجانب المعنوي الداخلي.
غطاء الحرية المنحرفة
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه: السلم والسلام/ الجزء الثالث):
(لم تعطِ أرقى الحضارات مبدأ الحرية حقها، وإنما طبقت منها ما يتلاءم مع مصالحها الضيقة، ومع ذلك نجد المسلمين في واقعنا المعاصر تركوا الحريات الإسلامية ــ التي فيها كل خير وسيادة وسعادة ــ إلى القيود التي (مّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ).
الحرية أساسية في الإسلام، وقد وردت في تعاليم ومبادئ ومضامين واضحة، وسهلة التطبيق بمجرد أن يفهمها المسلم ويطلع عليها، بيد أن ما حدث للأسف، أن المسلمين ابتعدوا عن الحرية الإسلامية في جوهرها العميق، وانخرطوا في موجات وافدة من الغرب، وتعلقوا بشكل مهلهل بالأفكار المنحرفة، تحت غطاء الحرية الغربية المكشوف.
وقد أدى هذا الانحراف الخطير من حرية الروح الحقيقية، إلى الحريات السطحية الشكلية الزائفة، إلى تقهقر المسلمين وتراجعهم على المستويات كافة، مما جعلهم في أسفل قائمة الأمم من حيث التحضّر وقيادة البشرية نحو البناء السليم، فكانت سياسة التبعية للغرب بديلا للتمسك بحرية الروح وفق المنظور الإسلامي لها، مما تحول ذلك إلى وبال عليهم، وأسهم بتأخرهم وتراجعهم عن الأمم التي كانت أقل منهم تقدما وتطورا.
هذا ما أكده الإمام الشيرازي في قوله:
(حين ترك المسلمون الحريات الإسلامية تسبّب لهم ذلك بالتأخر، وهذا أمر لم يكن مسبوقا في تاريخ الإسلام الطويل، وإنما جاءت هذه التبعية للغرب والشرق منذ أقل من قرن، فذاق المسلمون وبال أمرهم حيث سقطت سيادتهم وسعادتهم واستقلالهم، وحرموا من الحرية الممنوحة من قبل الإسلام).
لقد ركز الأفكار الغربية الحديثة على الحريات المادية، وهذا ما شجع على اتباع الشهوات والملذات واللهاث وراءها، وهو ما أصاب المسلمين بأمراض مادية كانوا في منأى منها، لكنهم سرعان ما أصيبوا بها، بعد أن تخلوا عن الحريات الإسلامية التي ضمنت لهم موقع الصدارة من بين الأمم الأخرى، وأعطتهم مقود القيادة للبشرية كلها.
كيف نحمي ونرسخ حرية الروح؟
حدث هذا حين انغمس المسلمون في الشهوات المنفلتة، وابتعدوا عن الحريات الروحية، وأهملوها، فصاروا أبعد ما يكون عن التقوى، وعن القيم الحميدة، وعن الأعراف التي تصون كرامة الناس وحقوقهم وحرياتهم، فهيمنت عليهم شهوات الجسد والمال والسلطة، وتنكروا لحرية الروح الإسلامية وانجرفوا بقوة في مهالك الحريات المادية المتهورة.
يقول الإمام الشيرازي:
(لابد أن يتمتع الإنسان بحرية الروح وقوة النفس، فلا يقع ضحية المال أو الجاه أو الشهوة الجنسية أو السلطان أو الحسب أو النسب، فإن كل ذلك يخالف الحرية).
إن السلطة تستعبد الإنسان، وكذلك يعمل المال والشهوات الأخرى، فحين تحيط بالإنسان وتكبله فإنه يكون غير قادر على التحرر منها، كما أنه يبتعد عن الحرية الروحية التي تصونه من السقوط في فخ الهيمنة المادية المعاصرة، حيث أشاعت حضارة الغرب ثقافات مادية منفلتة تحت بند إطلاق الحريات الشخصية وعدم مضايقة الإنسان فيما يرغب ويريد حتى لو كان ذلك مخالفا للقيم أو مسببا لتدمير البنية الاجتماعية والأخلاقية.
ومما تم إثباته بالتجربة الفعلية، أن الإنسان عندما ينصاع لرغباته المادية، فإنه سوف يفقد حريته، ويكون عبدا تحت سطوتها، ويغدوا الخلاص منها صعبا أو مستحيلا.
كما أكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(إذا وجد الإنسان نفسه خاضعا بتأثير أي أمر من تلك الأمور المادية وأشباهها فإنه لا يتمتع بحرية كاملة حيالها، كما قال عيسى بن مريم لأصحابه: إنكم لن تنالوا ما تريدون إلا بترك ما تشتهون وبصبركم على ما تكرهون. قال علي (عليه السلام): إياكم وغلبة الشهوات على قلوبكم فإن بدايتها ملكة ونهايتها هلكة).
لهذا أثبتت حرية الروح في إطار البعد والمنظور الإسلامي، بأنها حامية للإنسان من هفواته وأخطائه الجسيمة، وكلما كان الإنسان ملتزما بحرية الروح، مؤمنا بالتقوى متمسكا بتطبيقها في حياته، كان أقرب إلى الاستقرار والتقدم من غيره، فالبحث عن المال أو الجاه أو السلطة أو المركز الاجتماعي لا يعوض الإنسان عن حرية الروح وقناعة الاختيار وصلابة التقوى.
الذنوب كما اثبت الواقع تذل صاحبها ومرتكبها، والمعاصي تبني بينه وبين الخير حاجزا شاهقا يجعله تائها في حيالته، لا يعرف ماذا يريد وماذا يصنع، إنه يغرق في شهوات المال والسلطة والنفوذ والحرام، فينسى حرية الروح التي تحميه من كل هذه الفخاخ التي تحيط به وتلتف حوله لتغريه بمغرياتها وتسقطه في حبائلها.
الإمام الراحل يقول:
(الكرامة ليست للمال، ولا للسلطان، ولا للعشيرة، ولا للمكانة الاجتماعية وإنما الكرامة للتقوى، كما عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: ما نقل الله عزوجل عبدا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه من غير مال، وأعزه من غير عشيرة، وآنسه من غير بشر).
إذًا في الخلاصة يدعو الإسلام الناس إلى صيانة حرية الروح، وبناء التقوى في قلوبهم ونفوسهم، وحماية أنفسهم من الانخراط في الأفكار السطحية المادية المنحرفة، وهذا يدعونا إلى ترسيخ القيم الصحيحة للحرية في نفوس وقلوب أطفالنا وشبابنا وأنفسنا، حتى يُصان الكل من الأفكار والحريات الوافدة المنحرفة.
اضف تعليق