إن وقائع يوم الغدير يجب أن لا تُمحى من ذاكرة المسلمين، بكل أحداثها الصعبة والمؤلمة، ويجب استذكارها دائما، لأن الخطأ الجسيم لا يتم تصحيحه بإهماله، وإنما باستذكاره والعمل الصادق والمخلص على تصحيحه، ولهذا فإن المسلمين وشيعة أهل البيت (عليهم السلام)، عليهم معرفة ما جرى في واقعة الغدير بالتفصيل...
(الإسلام يرى الإنسان جسما وروحا ومادة ومعنى) الإمام الشيرازي
يوم الغدير مناسبة خالدة في التاريخ الإسلامي، وهو عيد يتفوق بمكانته على كل الأعياد، فهو أعظم أعياد الله تعالى، كونه المناسبة العظيمة التي تم فيها تنصيب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قائدا على المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتم هذا التنصيب بأمر من الله تعالى، وقام به الرسول الأكرم على رؤوس الأشهاد.
بيْدَ أنَّ هناك فارقا واضحا بين أعياد المسلمين وأعياد الأمم الأخرى التي غالبا ما تقوم بتجيير الدين لتحقيق مصالح مادية بحتة، على العكس مما ينتج عن عيد الإسلام، إذ يتم التركيز على مسألة التوازن بين المحصّلات المادية والمعنوية للأعياد، فعيد الغدير وهو أعظم أعياد المسلمين، لا يهدف إلى تحقيق مصلحة مادية فقط، وإنما هناك تركيز على الجوانب المعنوية والفكرية والثقافية والأخلاقية التي تتمخض عنه.
لهذا نلاحظ التركيز على هذه النقطة الهامة التي يدعو لها العلماء والخطباء وغيرهم، حين يطالبون بأهمية الاستفادة الأخلاقية والمبدئية من قيم الغدير، والتركيز على الاستفادة من منهج الغدير في إدارة العلاقات الإنسانية بمختلف أشكالها، بين الحاكم والمحكوم، أو بين الأفراد بعضهم مع بعض، أو بين الجماعات المختلفة، فالعيد في الإسلام له دلالاته الكبيرة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (عيد الغدير أعظم الأعياد):
(إنّ طبيعة الأعياد في الإسلام تختلف عن الأعياد في الأديان الأخرى، فالعيد في غير الإسلام هو غالباً للحصول على مكسب مادي بحت. أما العيد في الإسلام فإنه يختلف اختلافاً كبيراً عن هذه الأعياد من حيث المعنى والدلالة).
وهكذا يسعى الإسلام إلى تحقيق تلك الموازنة الجادة بين المادي والمعنوي، فلا يوجد تركيز على المظاهر المادة وحدها، كما لا يصح إهمالها أو التغاضي عنها، فمثلما نحتفل بالجانب المادي وبقدر ما نمنحه من الأهمية والانشغال، هنالك طرف مقابل للمعادلة، ألا وهو الجانب المعنوي والأخلاقي الذي يجب أن يجاور المادي ويوازيه في مكانته وفاعليته.
كيف يتحقق الانسجام الاجتماعي؟
الإنسان ليس مادة مجرّدة، بل هناك قرين لجسده المادي ونعني به الروح، كذلك يوجد للإنسان معنى، وهذه الأركان التي يرتكز عليها الجانب التكويني للإنسان طالما يركز عليها الإسلام، وينظر إليها على أنها كلٌّ موحَّد متداخل ومتكافئ في ذات الوقت، لهذا لابد من الاستفادة المادية والمعنوية معا، فللعيد مظاهر مادية يجب أن يوظفها الإنسان لصالحه، كذلك عليه أن لا يهمل القضايا الروحية والمعنوية، وبهذا التوازن والتكافؤ تتحقق العدالة والانسجام والتوازن النفسي في داخل الإنسان.
يقول الإمام الشيرازي:
(الإسلام يرى الإنسان جسماً وروحاً ومادة ومعنى، ويحاول التعادل بينهما والتكافؤ فيهما، وينسّق في أعياده بين الماديات والمعنويات، ويؤكد على أنه كما يستفيد الإنسان من مظاهر العيد المادية، يستفيد كذلك من الأمور الروحية والمعنوية أيضاً).
إذًا الاحتفال بعيد الغدير يشمل الجانبين المتكافئيْن المادي والمعنوي، وهناك دعوات متكررة وتأكيدات كبيرة أيضا على أهمية إبراز مناسبة هذا العيد الأعظم، لأسباب معروفة كلها تتعلق بعدالة الغدير وقِيَمه، وبمنهج الإمام علي (عليه السلام) القائم على العدالة والإنصاف واحترام الحقوق والحريات، وكذلك بسبب حاجتنا إلى منهج يصحح مساراتنا الخاطئة.
فنحن اليوم كعراقيين وكمسلمين نعاني من مشكلات كبيرة في علاقاتنا وتعاملاتنا على المستويات كافة، فلو أتينا إلى العلاقة بين الحكام والمحكومين في المجتمعات الإسلامية، لوجدنا الكثير من الأزمات والعُقَد التي تشوب هذه العلاقات، والحاجة لتشذيبها من الأخطاء التي غالبا ما ترتكبها الطبقات الحاكمة أو المتنفذة، فهي نتيجة لعدم قدرتها الموازنة بين المادي والمعنوي، تُسقِط أمراضها وأزماتها ونزعتها الاستبدادية على الناس.
إن منهج الإمام علي (عليه السلام) القائم على القيم الصحيحة، يقدم لنا معالجات واضحة وسهلة التطبيق، يمكنها أن تجعل حياتنا أفضل، وبذلك يمكن أن يتحقق الأمن والسلام والسعادة والانسجام بين الجميع، وهذه هي النتيجة المنطقية لمنهج التكافؤ المادي المعنوي لعيد الغدير والمبادئ التي أفرزها هذا العيد الخالد، وهو ما يجده المسلمون والبشرية في منهج الغدير في صيغة حلول واقعية تطبيقية لمعالجة أزماتنا ومشكلاتنا.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن الاحتفال بـ عيد الغدير هو باعتبار عظمة الذِّكرى أولاً، وباعتبار أنّ الإمام علي (عليه السلام) علّمنا في هذا اليوم كيف نصل إلى الأمن والسلام، والسعادة والهناء).
بمنهج الغدير يتحقق الأمن والسلام
إن التركيز على الجانب المادي ليس أمرا ممنوعا، أو مرفوضا على الدوام، بل على العكس من ذلك، إنما يتعلق الأمر بأهمية الموازنة بين المادي والمعنوي والأخلاقي، فليس هناك فائدة من محصلات مادية خالية من المعنى والروح والأخلاق، وفي نفس الوقت، ليس صحيحا التركيز على المعنوي وإهمال المادي، فحياتنا كلها قائمة على دعائم مادية مهمة، لكن هذا الأمر يجب أن يتم عبر معادلة التوازن والتكافؤ بين المادي والمعنوي.
الإمام علي (عليه السلام)، ركّز في منهجه على كيفية الاستفادة من الجانب المادي لصالح المعنوي، ونظّم سبل التعامل المادي على أساس الاقتران بالأخلاقي والمعنوي، فليس هنالك نتائج ومحصلات مادية جيدة إذا خلت من الدعائم المعنوية والأخلاقية، علما أن التعامل الصحيح مع المادة يُنشئ قاعدة مناسبة للفوز بالآخرة، كذلك من الواجب على الإنسان الموازنة بين دنياه وآخرته من حيث الاهتمام بالاثنتين، فلا تفضيل للدنيا على الآخرة، ولا إهمال للآخرة لصالح الدنيا.
كما يؤكد الإمام الشيرازي في قوله:
لقد (علَّمنا الإمام علي (عليه السلام) كيف نستعمل الأمور المادية لخير الإنسانية، وكيف نستفيد من الحياة لصالح الآخرة ونعيمها، وان لا نبيع آخرتنا الباقية لدنيانا الفانية، ولا العكس بأن نترك دنيانا ونتناساها بالمرة من أجل الآخرة، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه).
من المعروف أن هذا النوع من الموازنة بين المادي والمعنوي، يعدّ من الأهداف صعبة التحقيق، كما أن الدنيا غالبا ما تسحب الإنسان إليها وتقبض على إعجابه وانشغاله بها ومغرياتها، لدرجه أن إهمال الآخرة يكون واردا في هذه الحالة، فيغوص الإنسان في ملهيات الدنيا، ويتناسى ويتنكّر لأهمية التكافؤ المادي والمعنوي والأخلاقي في سلوكياته.
عيد الغدير يقدم المنهج الصحيح لجميع الناس، لكي يتمكنوا من تحقيق هذه الموازنة، لأن منهج الغدير ينبع من مدرسة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولهذا يحثُّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جميع المسلمين وشيعتهم على التمسك بمنهج الغدير، وإحياء هذه المناسبة التي تشكل حالة إنقاذ للجميع، وذلك من خلال الاحتفال بهذا العيد العظيم بأحلى وأصدق مظاهر الاحتفال، وغرس هذه الخاصية في نفوس الأطفال والشباب حتى ترافقهم مسار حياتهم، وتساعدهم على إنجاز التكافؤ بين المادي والمعنوي في سلوكياتهم.
الإمام الشيرازي يقول:
(كان الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) يوصون شيعتهم بالاحتفال بهذا العيد العظيم وإظهاره بأجلى المظاهر، فهم (ع) كانوا يجعلونه يوما فريدا ومشهودا بين أهليهم وذويهم).
إن وقائع يوم الغدير يجب أن لا تُمحى من ذاكرة المسلمين، بكل أحداثها الصعبة والمؤلمة، ويجب استذكارها دائما، لأن الخطأ الجسيم لا يتم تصحيحه بإهماله، وإنما باستذكاره والعمل الصادق والمخلص على تصحيحه، ولهذا فإن المسلمين وشيعة أهل البيت (عليهم السلام)، عليهم معرفة ما جرى في واقعة الغدير بالتفصيل، ومن ثم عليهم المبادرة بالتصحيح والتمسك بمنهج الغدير لإنقاذ أنفسهم وأجيالهم القادمة.
اضف تعليق