صناعة المجتمع المستقبلي ليست مستحيلة، وهي تعني أن أفراد المجتمع لدهم نظرة مستقبلية مبنية على قراءة جيدة وسليمة للواقع، ومنطلقة من منظومة قيم سليمة وراسخة ونامية في المجتمع نفسه، بمعنى إذا قررنا صناعة الأمة المستقبلية، فهذا الأمر يقوم على ركيزتين، الأولى، لا مجال للتنصل من القيم، والثانية علينا قراءة الواقع بطريقة صحيحة...
(إن القيم تجعل الإنسان مستقبلياً؛ لأنها تضفي البعد المستقبلي للواقع)
الإمام الشيرازي
صناعة المجتمع المستقبلي ليست مستحيلة، وهي تعني أن أفراد المجتمع لدهم نظرة مستقبلية مبنية على قراءة جيدة وسليمة للواقع، ومنطلقة من منظومة قيم سليمة وراسخة ونامية في المجتمع نفسه، بمعنى إذا قررنا صناعة الأمة المستقبلية، فهذا الأمر يقوم على ركيزتين، الأولى، لا مجال للتنصل من القيم، والثانية علينا قراءة الواقع بطريقة صحيحة.
هناك دراسات تؤكد أن الخلل في قراءة الواقع، وعدم فهمه بدقة، يمنع أية رؤية مستقبلية من الانبثاق والتكوّن، فالرؤية المستقبلة يجب أن تنطلق من فهمنا للواقع بصورة جيدة، ثم هنالك عنصر مكمّل آخر، وهو يتمثل بعدم التفريط بالقيم الصالحة، بل التمسك بها وتنميتها وترسيخها، والسعي المستمر لصناعة فرد ومجتمع مستقبلي واقعي مؤمن بالقيم السليمة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):
(لابد أن تقوم التربية المستقبلية للأمة على ركيزتين هما، الأولى: التمسك بالقيم والأخذ بها. والثانية: ملاحظة الواقع واستكشافه بكل دقة).
توجد حالة تكاملية بين الواقع ومنظومة القيم، ولا يصح التعامل مع هاتين الركيزتين كلّا على انفراد، بمعنى لا فائدة في النهوض بمجموعة من القيم الجيدة والسعي لتطويرها وتنميتها، ما لم يقترن ذلك بفهم سليم وحثيث لواقع ذلك المجتمع، فالقيم وحدها تبقى عاجزة عن التأثير في واقع غير مفهوم، ومرتبك وفوضوي وتائه.
الواقع الذي نريد أن نزرع فيه القيم السليمة، يجب أن نعرفه جيدا بتفاصيله الكاملة، ومن ثم نبدأ في عملية تكاملية بين هذا الواقع وبين منظومة القيم التي نريد أن ننشرها فيه ونجعله يؤمن بها، فكلاهما الواقع والقيم يجب أن يقترنان معا، لاسيما أن القيم تساعد الإنسان على أن يكون ذا روح سامية متطلعة إلى الأمام دائما، مبتعدة عن الصغائر والتوافه.
لذلك يرى الإمام الشيرازي بأن: (القيم وحدها لا تؤدّي ثمارها، فلابدّ من ملاحظة الواقع أيضاً، إذ لا يمكن تحقق القيم بدون الواقع، ولا يمكن تحقق الواقع السليم بدون قيم، والقيم هي التي تسمو بالإنسان فوق الواقع، وتجعله متطلعاً، واعياً، مدركاً لمهام مستقبله).
لماذا كل هذا التركيز على القيم، ولماذا يُشترَط في نهوض الفرد والمجتمع مراعاة منظومة القيم، والتمسك بها، ما الدور الذي تؤديه القيم؟، الجواب بوضوح، أن القيم تحرر الإنسان من نظرته وعقليته الفردية، وتزج به نحو العمق الإنساني للعلاقات بين الناس، فحين يكون الفرد ذا قيم أصيلة ومتمسك بها، فإنه من المحال أن يفكر تفكيرا فرديا ينظر فيه إلى مصلحته فقط وينسى الآخرين، كذلك من المستحيل أن يسلك سلوكا فرديا.
يتخلّص الإنسان بفضل القيم من أنانيته وفرديته، ويترك نظرته الضيقة جانبا، ويربط مصلحته مع مصالح الجميع، ولا يفكر بنفسه وأهله وينسى الآخرين، بل هناك نوع من السمو الأخلاقي الذي تدفعه نحوه القيم، فيمضي باتجاه المصالح الجمعية، ويتمسك بها، ويرفض أن يتصرف بشكل فردي حيال مصالحه الشخصية.
إنقاذ الإنسان من نظرته الضيقة
هذه هي الفوائد الكبيرة التي تنتجها منظومة القيم حين يتمسك بها الإنسان، ويؤمن بها عن قناعة، فهو ينسى فرديته، ويندمج مع الجميع، ويعمل ليس من أجل نفسه، بل من أجل الجميع، ولنا أن نتصور مجتمعا يتكون من أفراد كلهم يترفعون عن مصالحهم الفردية، ويربطونها بمصالح الجميع، في هذه الحالة تصنع القيم مجتمعا متماسكا مثاليا.
يقول الإمام الشيرازي:
(القيم تُخرج الإنسان من شخصانية نظرته، ومن أفقه الشخصي المحدود، بل تخرجه من نصفية نظرته المحلية والموضعية وشبهها إلى إطلاقية نظرته الإنسانية، لتشمل العالم الذي يعيش فيه على امتداده واتّساعه).
في نفس الوقت تجعل منظومة القيم الإنسان الذي يؤمن بها إنسانا مستقبليا، أي أنه ينطلق نحو التفكير في بناء المستقبل ويسعى إلى ذلك من خلال رؤية فردية تنطلق نحو الفعل الاجتماعي المتآزر، لهذا نلاحظ أن القيم تصنع إنسانا مستقبليا، وتنمّي فيه روح الإيثار والإنسانية، حتى لو تعلق الأمر بالعمل السياسي.
فإذا ارتبطت القيم بالعمل السياسي، سوف يتم تأطير هذا العمل بالفعل والمبدأ الأخلاقي، أي أن السياسة القائمة على القيم سوف تكون أخلاقية، وهذا وحده كفيل بصناعة واقع متوازن يقوم على العدالة، ومستقبل مشرق ينطلق من قاعدة الحاضر المتوازنة، وبهذا تبتعد السياسات عن الأنانية والمصلحية بسبب القيم الأخلاقية التي تحسّن الأداء السياسي.
هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله:
(إن القيم تجعل الإنسان مستقبلياً؛ لأنها تضفي البعد المستقبلي للواقع. فالسياسة واقع، ولكنها عندما تمتزج بالأخلاق تصبح السياسة أفقاً واسعاً لا ينحصر في المصالح الضيقة، والأنانيات وبردود الأفعال الآنية، كما هي اليوم بعض السياسات الدولية التي تتعلق بالواقع فقط دون الأخذ بالقيم).
لماذا كل هذا التركيز على الربط بين الواقع والقيم؟، سؤال لابد من طرحه، ولابد من الإجابه عنه، وهناك مثال فعلي يجيب عن هذا السؤال أيضا، فهناك مجتمعات تقدمت واقعيا بشكل كبير، أي أننا نلاحظ واقعها متقدما، لكنها بسبب إهمالها للجانب القيمي تعرّضت إلى هزّات مؤلمة، وكان عليها أن لا تهمل إقران الواقع بالقيم.
لا قيمة للأشياء إلا بالأخلاق
عزل الواقع عن القيم يشبه عزل الأعمال المختلفة عن الأخلاق، وكل شيء يخلو من الأخلاق لا قيمة له، ونتائجه غالبا ما تكون مؤلمة وتعود بالضد مما خُططت له، العالم الغربي تقدم واقعا بشكل كبير، وتفوق على القيم، لكن ما هي نتيجة ذلك؟، إن النتيجة نلاحظها في مسلسل الأزمات التي تضرب الغرب والعالم أيضا، بسبب فصل القيم عن الواقع.
يقول الإمام الشيرازي:
(الملاحظ أنّ بعض الشعوب تقدمت كثيراً في صُنع الواقع، لكنها لم تتقدّم في مجال القيم. فعلى سبيل المثال: إنّ التقدم العلمي والصناعي في الدول الغربية لم يواكبه تقدم في نطاق القيم، سواء كانت عقدية أو أخلاقية أو إيمانية.. فالمطلوب أن يقترن هذا الجزء بذلك الكل، حتى لا تشهد الانفصام الذي أضرَّ بالبشرية كثيراً).
على العكس من ذلك، فإذا تآزرت القيم مع الواقع، فإن البناء الكبير المتطور سوف يكون مباركا، ثابتا، وحقيقيا، لأنه يقوم على الأخلاق، وليس على الصراع وافتعال الأزمات، والاقتتال من أجل المصالح الفردية أو الفئوية، لهذا فإن انتعاش القيم في الواقع العالمي سوف ينعش البشرية كلها.
وسوف تضمحل نسبة الأزمات، وتقل نسبة النزاعات، وتندحر حالة الصراعات بين الدول، أو داخل الدول نفسها، وسوف يعيش الجميع في حالة من الأم والسلام والاطمئنان، لأن الشعور الجماعي بالعدل وهيمنة القيم الضابطة للأفعال البشرية، تساعد بقوة على نشر السلام ودحر الأزمات والنزاعات والصراعات وإلحاق الهزيمة بها.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(عندما يتحقق التكامل بين الواقع والقيم تذوب الصراعات، وينتهي التنافس غير المشروع، وتعم العدالة، ويسود السلام، ويعلو صوت الحق، ويعيش الناس في طمأنينة وأمن، ويزدهر المستقبل يوماً بعد يوم).
إذاً يمكننا أن نصنع مجتمعا ذا نظرة مستقبلية، تقوم على القيم الصالحة التي تساعد على بناء الواقع المتوازن المسالم المستقر، هكذا يكون دور القيم فاعلا، وهكذا يمكن لنا صناعة مجتمع مستقبلي النظرية والرؤية والتفكير، وفي نفس الوقت هناك سمو أخلاقي كبير تصنعه القيم التي تعتمدها المجتمعات وتؤمن بها.
اضف تعليق