لقد تولّدت مشكلات معقدة، منها اجتماعية أثرّت على حياة الناس بشكل كبير، ونتيجة للإيغال المادي، والاهمال المتعمّد للجانب المعنوي وفروعه الأخرى، نشأت أزمات كبيرة، وعانى منها الناس بسبب الانشغال بالقشور وترك الأصول، فانحرف الشباب وضعفت الأخلاق، وتدهورت القيم، حتى العادات الاجتماعية الجيدة بدأت تضمحل وتزول ليحل محلها ما هو سيئ...
يكاد أن يكون الخطأ البشري مرافقا للإنسانية منذ نشوئها، وهذا أمر يتفق مع المسار التكويني للبشر، فالإنسان بسبب التجريب ومحاولات الإنجاز في المجالات المختلفة، عملية أو فكرية أو سواها، نجده معرَّضا للخطأ، وهذا ليس بعيب بل هو أمر طبيعي، وأحيانا يكون مطلوبا حتى يتعلم الإنسان من أخطائه وتجاربه.
لكن حين تتجاوز الأخطاء حدود المسموح به، فإنها تتحول إلى مشاكل قد تبدأ صغيرة، لكنها مع الاستمرارية تصبح كبيرة، ويصعب حلها، فتسبب أخطارا كثيرة لمن يقع فيها ولا يتنبّه إليها، وهذا ما حدث بالضبط لصنّاع الحضارة الراهنة، فهؤلاء رغم صحة الهدف النظري لتخطيطهم بإنتاج الحضارة، إلا أنهم تجاوزوا حدود الأخطاء المسموحة.
كيف حدث ذلك؟؟
الحضارة، أية حضارة، بالمفهوم الشائع لها، هي التطور، وسعة العقل، ونفاذ البصيرة، وتحسين حياة الناس، على المدى البعيد والآني، فكيف يمكن تحقيق هذا الهدف؟؟، لابد أن تكون الحضارة قائمة على دعامتين مهمتين بل ملزمتين:
الأولى: دعامة التطور المادي.
الثانية: دعامة التطور المعنوي.
وهذا يعني أن هناك معادلة دقيقي تقوم عليها الحضارة، وهناك طرفان لهذه المعادلة يشبهان إلى حد كبير كفَّتيّ الميزان، فمن جهة الكفة المادية، ومن جهة مقابلة الكفة المعنوية، وأي اختلال بين طرفي هذه المعادلة يؤدي ذلك إلى اهتزاز الحضارة، وإذا استمر هذا التعثّر بين التكافؤ المادي والمعنوي الذي تمثله (القيم، الأخلاق، الروحانيات، الدين)، فإن الحضارة سوف تكون وجها لوجه أمام الانحراف!!
حدث هذا في مراحل عديدة من عمر البشرية، وحين جاء الإسلام كان سكان الأرض يغطّون في ظلام دامس، فبدأ نور الإسلام يكشف عنهم الظلمات، بداية من مجتمع الجزيرة، ومن ثم حدث الامتداد والتطور الهائل في نور الإسلام ليصل إلى سكان الأرض في ربوعها وأصقاعها البعيدة والقريبة، وتخلّص الناس من كتل الظلام التي كانت تهيمن على قلوبهم وبصائرهم.
لذلك يرى الإمام الشيرازي أهمية عودة المسلمين إلى دورهم التنويري، لاسيما أن عالمنا اليوم يغطس في لجج الظلام بكامل حجمه أرضا وسكانا، عالم محتقن، متصارع، تتآكله الحروب والأزمات والجوع والتفاوت الطبقي لذلك: (يجب على المسلمين أن يعيدوا الكرّة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ولإعادة الحياة السعيدة لكل البشريّة. المصدر كل فرد حركة وفلسفة التأخر).
إهمال التجارب الذاتية
لم تستفد البشرية من أخطائها، ولا تجاربها الرديئة، بل على العكس من ذلك أوغلت في أخطائها، وأكثرت منها، واستطابت السقوط في الاختلال والتهتّك والانحراف، لاسيما أن الحضارة الغربية تمسكت بالمادية، وتمحورت حولها، وتركت المعنويات والأخلاقيات والقيم تراوح في مكانها، بل طمرتها تحت بهرجة المادة الصاخبة، لهذا نبّه الإمام الشيرازي إلى ذلك قائلا:
(إن البشرية حين وقعت تحت الحضارة المادية دخلت في نفق مظلم (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)، وقد اغتر البشر بشيء من العلم والصنعة والجمال والنظام، لكنه وقع بذلك في مشكلات لا تعدّ ولا تحصى، وفي آلام وأمراض وأسقام وفقر وذُلّ لم تكن موجودا من قبل).
غاصت هذه الحضارة في وحل المادية الآسن، وظلت تتلوث وتتلطخ بآثامها، غارقة في البذخ واللهاث المادي المحموم، وخرجت بعيدا عن (دائرة الأنبياء) الذين طلبوا الموازنة بين كفتي ميزان الحضارة (المادة/ المعنويات والقيم)، لكن صناع الحضارة وقادتها، تشبثوا بالمظهريات وتركوا الأعماق، وأعمت الأضواء بصائرهم وأبصارهم، وراحوا يوغلون في المظاهر المادية والقشور السطحية اللمّاعة، فغرقوا في العماء.
(إن الحضارة الحديثة الخارجة عن دائرة الأنبياء ووحي السماء، أخذت أكثر وأكثر مما أعطت، وانطبق عليها قول الله سبحانه: مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا). هذا ما يؤكّده الإمام الشيرازي ويضيف قائلا:
(إنّ الحياة أصبحت في ظل الحضارة المادية، خارجة عن دائرة الأنبياء وقوانين السماء، فابتليت بالمشكلات، في جميع النواحي، فالنساء صار الكثير منهن عانسات، وبعضهن تورطن في البغاء وصرن بضاعة وصوراً دعائية، أو عاملة في أماكن الرجال وقد نجم عن ذلك الكثير من الأمراض، والقلق والوحشة، والذل والمعاناة، والفقر والمسكنة).
مشكلات بلا حلول
لقد تولّدت مشكلات معقدة، منها اجتماعية أثرّت على حياة الناس بشكل كبير، ونتيجة للإيغال المادي، والاهمال المتعمّد للجانب المعنوي وفروعه الأخرى، نشأت أزمات كبيرة، وعانى منها الناس بسبب الانشغال بالقشور وترك الأصول، فانحرف الشباب وضعفت الأخلاق، وتدهورت القيم، حتى العادات الاجتماعية الجيدة بدأت تضمحل وتزول ليحل محلها ما هو سيئ وفي غير صالح الإنسان:
(لقد كثر الطلاق بنسبة كبيرة، والشباب أصابهم كثير من هذه الأمراض، والعوائل أصبحت تعاني من سوء الأخلاق ومن الابتعاد وانفصال بعضها عن البعض، وكثير من الناس أصبح لا شغل لهم ولا عمل ونجم عن ذلك الفقر والحرمان، والقلق والفساد، والسرقة والقتل، والحروب والثورات الاقتصادية). هذا ما أكده الإمام الشيرازي في كتابه (كل فرد حركة وفلسفة التأخّر).
كل هذا وغيره حدث ولا يزال يحدث، والأسباب معروفة، والحلول أيضا معروفة، لكن أهل الحضارة لا يريدون الصحو من ضياعهم في القشور، وانبهارهم بالأضواء الكاذبة، مما أدى ذلك إلى الطبقية، والفقر، والبطالة، بسبب سياسات الحكومات الفاشلة، بحجة التطور والحضارة حيث الاهتمام بالمظاهر المادية وعدم معالجة مشكلات الناس من جذورها... ومحاصرة الحريات، وإهمال حقوق الناس، والسقوط في الرغبات والابتعاد عن القيم النبيلة، لهذا (انتشرت البطالة نتيجة لسياسة الحكومات والقوانين الموضوعة المنحرفة، فلا انطلاق ولا حريّات، وكل شيء ممنوع يُعاقب عليه الإنسان، إما بالسجن أو التعذيب، أو الغرامة أو الحرمان) كما أكد ذلك الإمام الشيرازي.
ديمقراطيات مغلّفة بالاستبداد
حتى الديمقراطيات ومحاولة تسويقها لم تكن موفقة، لأن القوانين كانت في حقيقتها ذات طابع استبدادي حتى وإن تغلّفت بالمظهر الديمقراطي، وبدلا من أن ينشغل الحكام باحتياجات الناس، والاهتمام بما ينقصهم، ذهبوا إلى صرف الأموال بطرق الاحتيال والاختلاس والسرقة العلنية أو الخفية، مما ولد نسبة كبيرة من الفقر.
كل هذا كان ولا يزال نتيجة لاهتزاز القيم الصالحة، والانغماس التام في الاستهلاك المادي الكبير، ولا يرى الحاكم مشكلة في صرف أموال الناس على الأسلحة أو استيراد الكماليات الثمينة كالسيارات الفارهة، وترك الجوع يطحن بالفقراء، وإذا ساد الفقر في دولة ما أسقطها في الحضيض. وهذا ما أكده الإمام الشيرازي حينما قال: (زاد فقر الناس ومرضهم وجهلهم، والأخيران من نتائج الأول غالباً، وهما تابعان للاستبداد والقوانين التابعة له، سواء كانت مغلفّة بنوع من الديمقراطية أم لا، فإن الأموال تصرف في السرقات القانونية والاستبدادية، وفي التجميل الزائد، وفي شراء الأسلحة، فلا عمل ولا مال، ومن المعلوم أنه إذا دخل الفقر إلى وطن قال للمرض والجهل والفوضى والفساد تعالوا معي).
كل هذا وسواه الكثير من الأخطاء حدثت بسبب التمرد الحضاري، أو تمرد الحضارة وقادتها على تعاليم السماء التي سعت وحاولت تكريس القيم، بالتوازي مع الاهتمام المادي، لذلك يؤكد الإمام الشيرازي على أن (الحضارة المادية متمردة على تعاليم السماء، فهي قد أباحت المحرمات في المطاعم والمشارب وغيرها، مما تسبب بمختلف الأمراض والكوارث)
الإيمان بالله هو الحل
وهكذا نجحوا في صنع حضارة قشرية، خالية من عمق القيم، ومن قوة المعنويات، ومن سداد الأفكار المنقذة للبشرية من الظلام والجهل، وهذا هو دور الإسلام والمسلمين، لكي ينهضوا مجددا بدورهم الريادي في التنوير والتطوير وإعلاء قيمة الإنسان وكرامته.
الإمام الشيرازي يصف ما يحدث اليوم في العالم قائلا:
(لقد أسّسوا حضارة مادية جميلة في ظاهرها، فما أجملها بالمعامل والمصانع ووسائل النقل ووسائل الاتصال، وكان بالإمكان أن يسهل ذلك في أن تخلو الحياة من الموبقات والمفاسد، كالفقر والأمراض والهرج والمرج، والاستعمار والسجون والتعذيب، والعزوبة والعنس، والكبت والإرهاب، وسوء الأخلاق وفساد الضمير وعدم الإيمان، والاستهتار والإباحية والمفاسد الأخرى التي يزعم البعض أنها من لوازم الحضارة الحديثة، لكنها من نتائجها، وذلك نتيجة لعدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وعدم الإيمان بشرائع الإسلام كما أُنزلت).
الإيمان هو الحل، وتغليب الفكر والمعنى على الرغبة المادية، أمر لابد من التمسك به كمنهج بشري شامل، للخلاص من مظاهر العنف والأزمات، وقلة الإيمان، والخوف الذي يهيمن على عالم غاطس في الماديات، وتارك بشكل تام للمعنويات.
اضف تعليق