من أبرز مواطن الضعف عند الإنسان عدم اعتداله في الأمور المادية، والأهواء النفسانية، الأمر الذي يوقعه إما في الإفراط أو التفريط، فالركون إلى العقل المعتدل يعدّ من أسرع طرق الوصول إلى سلّم الارتقاء، والإفادة من شهر رمضان، وأجوائه الإيمانية العميقة والمميزة، بوابة الموجود البشري لشخصية معتدلة تفهم الحقوق وتهضم الواجبات...
مما برع فيه الإمام الشيرازي (قده) من أفكار واكبت العصر، أنهُ وضع الكائن البشري على طائلة التشريح النفسي الروحاني من جهة، والجسدي المادي الغريزي من جهة أخرى، ففي كتاب مائز يعدّ من أهم الكتب العقلية، بحث الإمام الشيرازي في الحقوق الذاتية وحقوق الآخرين، وسعى إلى معالجة مشكلة العقوق البشري، في الكتاب الذي حمل عنوان "العقل ورقيّ الإنسان دراسة في الحقوق والعقوق" نقتبس منه فقرات محددة، كي نغْني بها مقالنا هذا الذي يبحث في ثنائية متلازمة، احتوت عليها التركيبة الخَلْقية للإنسان.
هذا الكتاب الذي يحمل عنواناً مثيراً للاهتمام "العقل رقيّ الإنسان"، يفصّل قضية الحقوق والواجبات، ويسلّط الضوء على خطورة العقوق وتداعياتها على تمزيق التماسك الاجتماعي، وإسهام العقوق في صنع المشاكل الكبرى التي يمكن أن تفتك بالمجتمع، في حال إهمال الروح على حساب الجسد!
تعرَّف الروح حسب ذوي الاختصاص من العلماء بأنها كيان خارق للطبيعة، غالباً ما يكون ذو طبيعة غير ملموسة على غرار كيانات مماثلة أخرى كالأشباح والجنيات والملائكة، يحمل المصطلح طابعا دينيا وفلسفيا وثقافيا يختلف تعريفه وتحديد ماهيته في الأديان والفلسفات والثقافات المختلفة، واستناداً إلى بعض الديانات والفلسفات، فإن الروح مخلوقةً من جنسٍ لا نظير له في الوجود، مع الاعتقاد بكونها الأساس للإدراك والوعي والشعور عند الإنسان.
ويختلف مصطلح الروح عن النفس حسب الاعتقادات الدينية، فالبعض يرى النفس هي الروح والجسد مجتمعين، ويرى البعض الآخر إن النفس قد تكون أو لا تكون خالدة، ولكن الروح خالدة حتى بعد موت الجسد، أما الغريزة "التي تلتصق بالجسد وتمثل حاجات مختلفة له" فهي الجزء الأكبر للسلوك الوراثي، وهي تمثل النزعة السلوكية والآليات الفسيولوجية للحيوانات العليا، وتوجد الغريزة في أشكال مختلفة ويقع مجال دراستها في عدة علوم كالبيولوجيا الحيوانية، وعلم النفس وطب النفس والأنثروبولوجيا، وعلم الإنسان وعلم الاجتماع والفلسفة.
يصف الإمام الشيرازي الإنسان بأنه "موجود" ذو بعدين، محسوس ومدرَك، مادي وروحاني، عقل ورغائب، مجموعة من النقائض الكلّية التي تتصادم داخل الموجود البشري، لتبقى على صراع لا يهدأ، وتضارب إرادي لا يكف عن جس النبض المتبادَل، فالجانب الأول لتركيبة هذا الموجود هو الروح أو الروحانيات التي تقف بالند من الجسمانيات والشهوة والغرائز، وتسعى الروحانيات لتهذيب وتشذيب شوائب الإنسان الشهوانية، وتسعى لجعله كائنا إيجابيا معتدلا منصاعا للعقل، أكثر من انصياعه للند الجسماني وفورته الغريزية الجامحة.
الإمام الشيرازي في كتابه أعلاه يقول: (الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، فهو مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات، المعنويات تسمو بالروح وتعرّج بالإنسان نحو نيل المحاسن والمكارم، وأداء الحقوق والواجبات، وكسب الأخلاق والآداب، من الحلم والعفو، ولين الجانب وحسن العشرة، وغيرها).
وبقدر حاجة الموجود البشري إلى البعدين المادي والروحاني، إلا أنه سوف يقع في فخ وخطأ جسيم لو أنه ترك الحبل على الغارب للمادي الشهواني، حيث الجسد يتلّهف للغرائز ويكون رهنا بها محكوما بالرغبة المتأججة في حال الامتثال الكلّي له، وهو في هذه الحالة سيقع في مشكلة الإفراط، يجيء شهر رمضان ليصبح خير عونٍ للموجود البشري على الموازنة بين ما يرغب الجسد وما يجيزه العقل السليم.
يحذّر الإمام الشيرازي من ترك زمام قيادة الإنسان بيد الماديات، فهي سوف تهبط به إلى مستويات من الوضاعة لا يُحسَد عليها، فتتلاشى الفوارق بينه وبين الحيوان الغريزي المفتقد للعقل، شهر رمضان يساعد هذا الموجود كي يعدل في غرائز حب الطعام والشراب والنوم والجماع وسواها، مما يهفو إليها الجسد إذا غاب عنه دور العقل الذي يسعى لارتقائه إلى مصاف الموجودات الحيّة الراقية.
(الماديات لا تسمو بالجسم لو أفرط فيها، وتهبط بالإنسان إلى مستوى إشباع الغرائز من الأكل والشرب والنوم والجماع وغيرها)، هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في بحثه ودراسته للصراع المحتدم والأزلي بين المادة والروح، بين الغريزة والعقل، بين الشهوات والروحانيات.
لهذا وضع الله شهر الصوم كي يستعيد الموجود البشري زمام السيطرة على الغرائز، ويقتدر في خوضه للصراع المرير ضد الابتذال والوضاعة والهبوط بجلالة الروح إلى حضيض المادية التي تغالي في رغائبها، فتسعى أن تسحب الإنسان إلى حيوانية متدنيّة، لا يحكمها عقل راقٍ، ولا تعقلُها قيم أو نواميس، فيصبح شهر رمضان فرصة فريدة كي تكبح الشهوات وتُعلي من قيمة ومراعاة الحقوق لديه.
لأنّ (الماديات والشهوات من طبيعتها أن تجر الإنسان عادة إلى التسافل، وتدعوه إلى التخلي عن الفضائل، وتهبط به إلى ترك الحقوق والواجبات، إلاّ إذا تعامل معها بنحو من الاعتدال والتوازن/ الإمام الشيرازي/ المصدر السابق). يكاد العلاج الأنجع بين المادية والروحانية يكمن في الموازنة العادلة بين الحقوق والواجبات، فما تراه حقّاً من حقوقك هو حق للآخر أيضا، فإن تعاملت في ضوء ذلك بقضية الحقوق، ونظرت لحق الآخر كما نظرتك لحقك، تكون قد وازنتَ باعتدال رزين بين القطبين المتناقضين المادي والروحاني.
الشخصية التي تعتمد العقل لبلوغ سلّم الارتقاء، ومواصلة الصعود، هي تلك التي تكون بارعة في الاعتدال المادي والروحاني، ويكون لديها الهيمنة الكافية على النفس إذا ما اندفعت لتجميل رغباتها، وتبريرها، وتحويلها من خطايا بائسة إلى حقوق جسدية مشرعنة، تحت عناوين فضفاضة منها التحرر الذي هو في حقيقته انفلات وضعف غريزي حيال لذائذ مبطّنة، فليس من حلّ أو خلاص من ذلك، إلا بمجافاة للإفراط، وبحرص على عدم التفريط، إنه الاعتدال بأسمى حالاته وصوره.
كلمة دقيقة للإمام الشيرازي فحواها: (من أبرز مواطن الضعف عند الإنسان عدم اعتداله في الأمور المادية، والأهواء النفسانية، الأمر الذي يوقعه إما في الإفراط أو التفريط/ مصدر سابق)، فالركون إلى العقل المعتدل يعدّ من أسرع طرق الوصول إلى سلّم الارتقاء، والإفادة من شهر رمضان، وأجوائه الإيمانية العميقة والمميزة، بوابة الموجود البشري لشخصية معتدلة تفهم الحقوق وتهضم الواجبات وتضع الاعتدال المادي الروحان رهاناً لحياة متعافية.
اضف تعليق