أن أكبر علامة على فشل الأنظمة السياسية عبر التاريخ، تتمثل بغياب الحريات أو ضعفها، وعدم حماية حرية الرأي والفكر، فهذه العلامة الملازمة للأنظمة الفاشلة، دليل قاطع على استبدادها، وعد استعدادها للتعامل مع المعارضة، ولا مع الآراء المعارضة لها ولأفكارها ولسياساتها، فما أن يلوح القمع في سياسات الحكومة، حتى يبدأ العد التنازلي لسقوطها الحتمي...
(كان الإمام الحسن (عليه السلام) أسوة في تطبيق الحريات الإسلامية)
الإمام الشيرازي
يكاد يُجمِعُ أهل الشأن، أن أكبر علامة على فشل الأنظمة السياسية عبر التاريخ، تتمثل بغياب الحريات أو ضعفها، وعدم حماية حرية الرأي والفكر، فهذه العلامة الملازمة للأنظمة الفاشلة، دليل قاطع على استبدادها، وعد استعدادها للتعامل مع المعارضة، ولا مع الآراء المعارضة لها ولأفكارها ولسياساتها، فما أن يلوح القمع في سياسات الحكومة، حتى يبدأ العد التنازلي لسقوطها الحتمي.
أما الحاكم الذي يحمي الحريات، ويمنع مصادرتها، ويصون حق المعارضة، فهذا دليل على أنه حاكم قوي واثق من نفسه، ومن سياساته، وهو لا يمكن أن يحمي الرأي المعارض له ما لم يكن حاصلا على شرعية الحكم، من خلال قبول الناس به واختياره قائدا لهم، وهذا هو البون الشاسع بين أن تكون حاكما مستبدا مفروضا على الشعب، وبين أن تكون حاكما استشاريا حاصلا على شرعية حكمه من الشعب.
الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، دخل في مدرسة أبيه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتعلّم منه أبجدية القيادة والحكم، ونهل من مدرسة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) القيادة باللين والعفو وكسب قلوب الناس، من خلال احترام حرياتهم، وفتح أبواب المشاركة الواسعة في صياغة سياسات الحكومة، وجعل القرار من مهمات أفراد الشعب، مؤيدا كان أو معارضا، فحقّ المعارضة مكفول عند الإمام الحسن (عليه السلام).
هذا ما تعلمه من جده وأبيه، ومن بيئته الاجتماعية التي تربى فيها على تطبيق الحريات الإسلامية بحذافيرها، ولهذا صار أسوة للجميع في التعامل مع المعارضين، ومع المؤيدين باعتباره قائد الدولة والأمة، فكانت الحريات الإسلامية في عهده في أنصع صورها، وهذا ما وصل إلينا عبر سجل التاريخ، وما حمله من مواقف تاريخية للإمام المجتبى (عليه السلام).
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (من حياة الإمام الحسن عليه السلام):
(الحريات الموجودة في الإسلام لا مثيل لها في سائر القوانين، وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الحريات الغربية بسبب إشكالاتها، لا تصل لمقدار عُشر الحريات الإسلامية. وكان الإمام الحسن (عليه السلام) أسوة في تطبيق الحريات الإسلامية، والمطالبة بها، والدفاع عنها).
من الغريب حقا أن من يمتلك هذا التاريخ السياسي الوضّاء، وهذه التجارب الحافلة بالدروس من حيث التعامل مع المعارضة، أن لا يتم تطبيق الحريات الفردية والحقوقية في ظل بعض الأنظمة السياسية التي تطلق على نفسها (حكومات إسلامية)، أو أنها تتخذ من الدين الإسلامي دينا رسميا لها، لكنها في نفس الوقت لا تحرص على تطبيق الحريات الإسلامية في سياساتها وإدارتها لشؤون السلطة والدولة.
دروس من تجربة الإمام الحسن (ع)
لو أن الأنظمة السياسية الحديثة أخذت مأخذ الجد، الدروس التي قدمها الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في تعامله مع المعارضين له، وفي قضية حماية الرأي والمعارضة، لكان المسلمون اليوم ينعمون في ظل حكومات استشارية تتفوق على جميع الحكومات الغربية التي تتبجح بكونها الأنظمة الديمقراطية الأفضل في العالم.
الإمام الحسن (عليه السلام) كان معارضوه يقفون في وجهه علنا وبشكل مباشر، ويعلنون رأيهم المعارض بوضوح، ودونما تردد أو خوف، وكان يعرف أنهم يضمرون له العداء، وعدم التأييد، لكنه تعامل معهم وفق ما يطبقه الإسلام في مواقف كهذه، فليقل رأيه وفقما ما يريد، وليكن معارضا للحاكم ولحكومته ولسياسته، الإمام (الحسن عليه السلام) لم يمنع المعارضة، ولم يوجّه بقمعها أو اعتقال المعارضين أو زجّهم بالسجون.
بل كان أسلوب حكمه فتح الحوار مع المعارضين، وسماع آرائهم، ومناقشتها بشكل متبادَل، وفي حالة كانت الأرجحية لهم عبر ما يشبه الاستفتاء الشعبي، يميل إلى الرأي المعارض، وهذه قمة (الديمقراطية) في عصرنا الراهن.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك في قوله:
(كان المعارضون يأتون ويقفون بوجه الإمام الحسن (عليه السلام) ويبدون آراءهم بكل حرية، بل كانوا يتجاسرون أحياناً على الإمام (عليه السلام) وربما وصفوه بمذل المؤمنين وما أشبه، لكنه كان يتلقى ذلك برحابة صدر ولم يأمر بمقاضاتهم بل كان يحاورهم بالمنطق ويسعى في إقناعهم بالحكمة والموعظة الحسنة).
بعض المعارضين كان من المتآمرين على قائد دولة المسلمين الإمام الحسن (عليه السلام)، وهو يعرف مؤامراتهم، وما يضمرونه من غل وأحقاد، إلا أنه كان يتعامل معهم وفق سياسة غض النظر، وتركهم وشأنهم، فلا اعتقال، ولا مطاردة، ولا محاكمات، كما تحدث في ظل حكومات إسلامية، لا تطبق الحريات الإسلامية كما طبقها الحسن المجتبى (عليه السلام).
حماية الحريات من مهام قادة اليوم
هذه حرية المعارضة بعينها، وإلا كيف يسمح الحاكم لمن يتآمر عليه، ويعارضه في كل شيء، ولا يؤيده في كل شيء، بأن يمضي في حال سبيله، فحتى في أرقى الأنظمة الديمقراطية الحديثة، لا يوجد مثل هذا التعامل مع المعارضين.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان هناك كثير من الخوارج وأعداء الإمام (عليه السلام) يتآمرون ضده، ولكنه تركهم وشأنهم، حتى الذين طعنوه بالرمح لم ينتقم منهم. وهذا ما يسمى اليوم بحرية المعارضة).
حين تأزمت مشكلة الخلافة بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية، عرض الإمام هذه القضية على الناس، وهذا ما يسمى اليوم (بإعلان الحرب)، فالحرب في النظام الاستشاري ليست من القرارات الفردية التي يتخذها الحاكم، وهذا ما فعله الإمام الحسن، وأخبر الناس بذلك في عمليه استفتاء، رفض فيها الناس قتال معاوية، فاستجاب لهم.
هل هناك ديمقراطية تتعارض مع ما قام به الإمام الحسن (ع) حين استشار الناس (هل نحارب أم لا؟)، هذه هي الديمقراطية، وليس اتخاذ القرارات الفردية التي تهم مصائر الناس، فالقائد الفرد ليس هو الذي سيخوض الحرب، بل الشعب هو من سيخوضها، لذلك من حقه أن تُعرَض عليه وأن يوافق أو يرفض، وهذا بالضبط ما فعله الإمام الحسن (عليه السلام)، وحين رفضت الناس الحرب، لم يجبرهم الإمام على ذلك، وهذه هي الحرية بعينها.
يقول الإمام الشيرازي:
(لمّا طرح الإمام (عليه السلام) في خطبة له قضية معاوية وسأل أصحابه عن رأيهم، فاختار الناس الهدنة وعدم الحرب، فقالوا: (بل البقية والحياة)، لم يفرض عليهم خلاف ذلك ولم يستفد من صلاحياته كقائد وإمام ورئيس دولة، بل احترم حرية الناس في اتخاذ الموقف والتعبير عن الرأي).
المفارقة أيضا يمكن أن نلاحظها في اعتراض بعض الناس على عقد الهدنة مع معاوية، على الرغم من أنهم طالبوا بالهدنة قبل عقدها، وأبدوا رفضهم لخوض القتال، وهذا ما استجاب له الإمام الحسن (عليه السلام)، لكن بعد عقد الهدنة، جاء بعضهم معاتبا الإمام على عقدها، ولائما للإمام، وبعضهم من خاطبه بألفاظ بذيئة.
ومع هذا كله، كانت سياسة حماية الرأي المعارض هي السائدة، وهي المحمية من الإمام الحسن نفسه، فلم يمنع أحدا رفض الهدنة بعد أن قبل بها مسبقا، فعفا عن الجميع، وهذه هي سياسة حماية الحريات التي اتبعها الإمام الحسن (عليه السلام) في عهده.
(بعد الانتهاء من الصلح والهدنة غيّر البعض رأيه وجاء يعاتب الإمام (عليه السلام) على قبوله بالهدنة، ويخاطب الإمامَ بأفكار معادية وبألفاظ بذيئة، ولكن الإمام (عليه السلام) عفى عنه ولم يمنعه من قوله وإبداء رأيه).
اليوم ونحن نعيش ولادة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ونستذكر الدروس والعبر من حكمه، حري بقادتنا أن يستلهموا تلك الدروس العظيمة، وأن يحموا حرية الرأي، ويتعلموا القبول بالمعارضة، بل ومساندتها، حتى تكون الرقيب العادل والمصحح المفيد لأخطاء الحكومات، هذه الدروس الكبيرة نحن اليوم أحوج لها من أي وقت مضى كما تدل على ذلك أوضاعنا الراهنة.
اضف تعليق