اعداد: مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
- حدود ولاية الفقيه ومعالم الحكومة الإسلامية والاستبدادية في فقه الإمام الشيرازي
- هل ولاية الفقيه فعلية أو شأنية؟
- قيود الولاية وحدودها؟
- فوارق ولاية الفقيه عن ولاية المعصومين (عليهم السلام)
- هل تتناقض ولاية الفقيه في الفكر الشيرازي مع الديمقراطية؟
- وسائل وآليات ردع الحكام عن الاستبداد والعدوان.
- الصورة العامة للحكومة الإسلامية في فكر الإمام الشيرازي.
- ملامح الأنظمة الدكتاتورية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
المدخل
اختلف الفقهاء حول ولاية الفقيه وانه هل للفقيه ولاية أم لا؟ وهل هي مطلقة أو مقيدة؟
وقد تصوَّر الكثيرون ان الإمام الشيرازي يقول بالولاية المطلقة للفقيه، لكن الباحث المحقق سرعان ما يكتشف انه قيدها بقيود كثيرة، وان المحصلة النهائية لنظره الفقهي عن ولاية الفقيه هي أولاً: انها مقيدة بقيود كثيرة جداً[1] وثانياً: انها لا تتنافى مع الاستشارية[2] ولا مع حرية الناس في اختيار الحاكم ولا مع التداول السلمي للسلطة ولا مع نظام التعددية في الحكومة. وسيظهر من بعض المباحث الآتية انه يرى الولاية التعليقية للفقيه لا التنجيزية، أي الولاية الشأنية لا الفعلية، وانها لا تكون فعلية إلا بقيود من أهمها رضا الناس به فإذا رضوا به صارت ولايته فعلية منجزة وإلا فلا ولاية له.
هل تكاملت آراء الإمام الشيرازي حول ولاية الفقيه؟
ولكن قبل ذلك لا بد ان نقوم بدراسة أمر بالغ الأهمية وهو انه:
هل تطورت آرائه حول ولاية الفقيه طوال خمسين عاماً من بداية طرحه لنظرية ولاية الفقيه[3]، أو كان مبناه على تفكيك الإرادتين: الجدية والاستعمالية؟
1- تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية في مطلقات (موسوعة الفقه)
الذي استظهره بعض المحققين هو ان مبنى الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) في العديد من المسائل المتعلقة بالشؤون العامة، كان على تفكيك الإرادة الجدية عن الإرادة الاستعمالية، كما جرت سيرة المعصومين الأطهار (عليهم السلام) على ذلك كما حقق في الأصول، ولذلك كثيراً ما كان العام أو المطلق يصدر من إمام فيما يصدر الخاص أو المقيد أو غيرهما من إمام آخر أو من نفس الإمام في زمن آخر، ولذا وجب الفحص عن المخصصات والمقيدات في كلمات كافة المعصومين بدءً من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ووصولاً للإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف وإن ورد العام في كلام الرسول الأعظم أو الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما، وذلك لأن مبناهم (عليهم السلام) على تفكيك الإرادتين، بل كان مبنى الكتاب العزيز على ذلك، وذلك لحِكَم ومصالح شتى ومنها مقتضيات مقام التعليم المغاير لمقام الفتيا.
ومما يرمز إلى ذلك ويشير إليه: الدلالات الثلاثة: دلالة الاقتضاء، ودلالة التنبيه والإيماء، ودلالة الإشارة.
إذا عرفت ذلك عرفت ان إطلاقات كلامه (قدس سره) عن ولاية الفقيه محمولة على المقيدات والمخصصات التي صرح بها في ثنايا الفقه في العشرات من المواطن.
2- تطور الفكر الفقهي
وقد احتمل بعض الفقهاء ان يكون ذلك (الإطلاق في مواضع من الفقه والتقييد في مواضع أخرى) محمولاً على تطور حركته العلمية والفقهية حيث انه كان يرى في البدايات ولاية الفقيه المطلقة ثم انه بعد ذلك عدل عنها إلى المقيدة، وهذا ممكن كما انه ليس نقصاً بل هو علامة الانصاف والموضوعية والتكامل، وما أكثر الفقهاء الذين عدلوا عن آرائهم إلى آراء لاحقة، بل لقد اشتهر عن الشيخ الطوسي انه تناقض في فتاواه حتى حمل عليه ابن ادريس بحملات شديدة، لكن الحق انه كان يعيد دراسة فتاواه من جديد وقد يصل إلى دليل أو وجه دلالة لم يصل إليها من قبل ولقد اجاد صاحب الحدائق في كتابه لؤلؤة البحرين بقوله عن الطوسي: (والحق ان الشيخ "الطوسي" صارت له خيالات متناقضة وأمور متعارضة لأنه كان حديد الذهن شديد الفهم حريصاً مع كثرة التصانيف وجمع التصانيف).
ولكن هذا الرأي على وجاهته في موارد قد يكون مرجوحاً بالنسبة للرأي الأول في هذا المورد (مبحث ولاية الفقيه)، وذلك لوجود شواهد على الرأي الأول ومنها ان جلّ المقيدات لم تأت في اخريات عمره بل انها توزعت على مساحة أكثر من مائة مجلد من مجلدات الفقه، كما ان إطلاقاته أيضاً توزعت على هذا المدى الواسع. فقد بنى إذاً على تفكيك الإرادتين، نعم قد تصح فكرة التطور في بعض القيود.
3- الولاية العامة لا المطلقة والإطلاق إضافي
وهناك رأي ثالث: يرى انه لم يكن يقصد من الولاية العامة الولاية المطلقة، بل المراد بها العامة أي الشاملة للشؤون العامة، وكان يرى (المقيدة) بالنسبة للقيود الكثيرة التي ذكرنا خمسة وعشرين منها.
والملخص: ان تعبير (المطلقة) تعبير إضافي فهو مطلق من جهة ومقيد من جهة أخرى. أي هي مطلقة بالنسبة إلى (ولاية الحسبة) فانها أعم منها لكنها مقيدة بقيود كثيرة جداً وبعضها لم تقيد به (الحسبة) بنفسها[4].
الفصل الأول
حدود ولاية الفقيه وقيود الولاية
لولاية الفقيه في فقه الإمام الشيرازي قيود كثيرة جداً:
من حيث المتعلَّق، فلا ولاية له على الأحكام وعلى الشؤون الشخصية و...
ومن حيث المساحة، فلا ولاية له على سائر الفقهاء ومقلديهم.
ومن حيث الصلاحيات وحدودها، فلا ولاية له إذا لم يتطابق رأيه مع المصلحة العامة للناس، و...
ومن حيث الامتداد الزمني.
ومن حيث شروط العلة المحدثة لفعلية ولايته.
ومن حيث شروط العلة المبقية ككونها مشروطة برضا الناس فلو لم يرض به الناس حرم عليه قسرهم وجبرهم على الرضوخ له.
ومن حيث العلة الغائية، فلا ولاية له إذا لم يقم بمهمته الأساسية وهي عمران البلاد وازدهارها وصلاح العباد وتقدمهم. إلى غير ذلك.
وإليكم فهرساً بعناوين القيود التي قيّد بها الإمام الشيرازي الراحل ولاية الفقيه في موسوعته الفقهية:
1- لا ولاية للفقيه إذا لم يكن مرضيا لله تعالى
قال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه: (الحاكم الإسلامي هو الذي يجمع بين شرطين:
الأول: كونه مرضيا لله سبحانه وتعالى.
الثاني: كونه منتخبا من قبل أكثرية الأمة.
اما الشرط الأول: فان الولاية لله سبحانه، عقلا وشرعاً، فلا يحق لأحد تولي الأمر بدون رضاه سبحانه، اما عقلاً فلأن الله سبحانه خالق الخلق ومالك الملك وكما لا يجوز – عقلاً – ان يتصرف أحد في ملك أحد إلا برضاه، كذلك لا يجوز التصرف في ملك الله إلا برضاه، واما شرعا، فلورود الآيات والروايات بلزوم ان يكون من يلي الأمور مرضيا له سبحانه، مثل آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ}، وآية {اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وغيرهما مما تقدم، ومثل الروايات المتقدمة)[5].
والحاصل: ان ولاية الفقيه ليست ذاتية بل هي – على فرضها – اكتسابية وهي في طول ولاية الله تعالى بل هي في طول ولاية الأئمة (عليهم السلام) فمادام لم يمنحه الله الولاية فلا ولاية له، وأول شرط في منحه الولاية هو كونه مرضياً لله تعالى لكن رضا الله تعالى شرط صعب جداً جداً وما سيأتي يتضمن إشارة إلى ذلك:
لا ولاية لغير العادل
ان اشتراط رضا الله تعالى يشير إلى الشروط المعهودة في مرجع التقليد:
ومنها: الاجتهاد.
ومنها: العدالة، فإذا لم يكن الفقيه عادلاً فلا ولاية له أبداً، ومن الواضح ان ظلم الناس ومصادرة حقوقهم المشروعة من المحرمات بل من الكبائر.
من مقومات العدالة في الولي الفقيه
وهذه عناوين لبعض الكبائر التي يوجب ارتكاب احدها ولو لمرة واحدة السقوط عن العدالة ومن ثمَّ سقوط الفقيه عن الولاية، وذلك حتى إذا قلنا بأن العدالة هي الملكة العاصمة فكيف إذا قلنا بانها الاستقامة على جادة الشرع إذ على هذا الأخير فان الصغيرة أيضاً مسقطة على العدالة فكيف بالكبيرة؟
1- السرقة وغصب أموال الناس، وان مصادرة أموال الناس هي أسوأ من السرقة لأنها ضمّت إلى جانب التعدي على أموال الناس بأخذها بلا وجهٍ حق، القهر والقسر.
2- أكل السحت وهو المال الحرام بوجه مؤكد كأكل مال اليتيم ظلماً والربا، وما حصل عليه من أعمال الولاة الظلمة أو أخذ بحكم قضاة الجور ومنه الضرائب.
3- الكذب، ومنه الفتوى بغير علم، واسوأ أنواعه البهتان.
4- نقض العهد والخيانة.
5-الولاية للظالمين بل مطلق معونتهم.
6-الإسراف والتبذير.
7-المحاربة لأولياء الله والموالاة لأعدائه.
8-سب المؤمنين وإذلالهم وإهانتهم وإيذائهم.
9-غش المؤمنين.
10-غيبة المؤمن.
وحول هذه البنود الهامة تحدث الإمام الشيرازي في العديد من كتبه وقد اقتبسنا[6] بعض كلماته من موسوعة الفقه فراجع الملحق (1)
ولا يخفى ان غش غير المؤمن أيضاً حرام وكذا سب أو إذلال مطلق الإنسان المصون العرض نعم يخرج منه ما كان من باب رد الاعتداء بالمثل لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} و{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
2- لا ولاية تكوينية للفقيه أبداً
وهذا النفي من الواضحات التي قياساتها معها، فانه لا وجه لتوهم ان الفقيه له ولاية تكوينية كالأنبياء والرسل والأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين.
ولعل من البديهيات أيضاً ان التبحر في الفقه والأصول ليس من العلل المعدة ولا المسبِّبات التوليدية للحصول على أدنى درجات الولاية التكوينية فكيف بأوسطها أو أعلاها؛ إذ لا سنخية بين ذينك وهذه أبداً، بل ان كانت علة معدة فهي تهذيب الأنفس وترويضها (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى) فمن فعل ذلك حقاً وإن كان عامياً في الفقه والأصول فقد ينال بعض الدرجات في حدود خاصة، فلا ترابط بين العلم والفقه والمرجعية وبين الولاية التكوينية أبداً.
3- لا ولاية للفقيه على سائر الفقهاء
قال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه العقائد: (س- هل للفقيه ولاية على فقيه آخر أو على غير مقلديه في الفتوى والحكم؟
ج- الفقيه حجة على مقلديه لا على فقيه آخر ومقلديه ولا فرق بين الفتوى والحكم.
س- إذا كان الفقيه حاكماً على بلاد المسلمين وبيده زمام السلطة هل يجب على غيره من الفقهاء أن يطيعوا حكمه؟
ج- لا وإنما اللازم شورى الفقهاء والمراجع).[7]
وستأتي تصريحات أخرى له (قدس سره) في هذا الحقل.
ولا فرق في عدم ثبوت ولاية للفقيه على سائر الفقهاء بين كونه أعلم منهم أو مساوياً فكيف لو كان أدون، والمراد من الفقيه (المجتهد)، كما لا فرق بين كون المجتهدين معارضين للفقيه الحاكم أو منخرطين معه أو محايدين، فانه لا ولاية للفقيه على الفقيه الآخر مطلقاً.
ومن الأدلة على ذلك: ان الفقهاء – على القول بثبوت ولاية لهم وبمقدار ثبوتها – كل منهم في عرض الآخر لا في طوله لأن الأدلة الدالة على ثبوت ولاية لهم – بالقدر وبالحد الذي تدل عليه – هي شاملة لهم بوزان واحد لبداهة اننا في زمن الغيبة الكبرى وان الأدلة تشمل كافة الفقهاء الجامعين للشرائط بوزان واحد فلاحظ مثلاً قوله (عجل الله فرجه الشريف): (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اللَّه...)[8] فان رواة حديثنا جمع مضاف يفيد العموم فالمرجع هم جميعاً لا أحدهم.
4- لا ولاية للفقيه على منع الفقهاء أو الناس من إبداء آرائهم
فانه إضافة إلى انه لا ولاية له عليهم، لا ولاية له للحجر على آرائهم الفقهية المخالفة أو المعارضة له، كما صرح به مراراً.
بل يلزم من القول بذلك[9] نقض الغرض فان (الفقهاء حصون الإسلام)[10] ولو منعوا من إبداء آرائهم لانهدم حصن الإسلام فكيف يُشرِّع من يصرح بأن (الفقهاء حصون الإسلام) صحة وجواز منع أحد الفقهاء لسائر الفقهاء من إبداء آرائهم؟ واما حديث التساقط لدى التعارض فانه يلزم منه عدم حجية رأي أي منهم لدى التعارض لا حجية أحدهم ولغو آراء الآخرين!
ومن المفيد جداً ان ننقل ههنا عن الميرزا النائيني قوله: (إذ من الواضح أن إدارة أمور الأمة وشؤونها من الوظائف الحسبية، ولكن وبغض النظر عن مبدأ الشورى الذي يجب تكريسه في الحكومة الإسلامية، والذي بيّنّاه سابقاً، فإن الشعب بجميع أفراده له حق الإشراف والمراقبة باعتباره يدفع الضرائب والرسومات ويشارك في إعمار البلاد وبنائها هذا أولاً، كما أن أصل العمل بمبدأ الشورى يقتضي ذلك ثانياً، ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثالثاً. ولا يمكن ممارسة هذا الحق إلا بانتخاب الشعب لممثليه).[11]
5- لا ولاية للفقيه على مقلدي سائر الفقهاء
قال الإمام الشيرازي في (الفقه) حول السجن:
(نعم لا إشكال في أنه إذا اقتضت الضرورة جاز، لكن اللازم أن يكون ذلك أولاً بقدر الضرورة[12]، لأن الضرورات تقدر بقدرها، وثانياً: يجب أن يكون تحت نظر شورى الفقهاء، إذ لا ينفذ حكم فقيه في حق مقلدي فقيه آخر، نعم ينفذ في حق مقلديه، كما أن من الواضح أنه لا حق للفقيه أو شورى الفقهاء في أصل السجن إذا أمكن الاستيثاق بدونه كأخذ الكفيل ونحوه)[13]. وقد مضى تصريح له في الفقه العقائد حول ذلك.
6- لا ولاية للفقيه في الشؤون الشخصية للناس
قال الإمام الشيرازي قدس سره في موسوعة الفقه في مسألة أنه إذا طلب الفقيه الزكاة أو الخمس ولكن المكلف لم يدفعه للفقيه بل دفعه بنفسه إلى المستحق، (فالظاهر الإجزاء وإن نهى عنه الفقيه، لإطلاقات أدلة مباشرة المالك للإعطاء.
وربما يستدل لعدم الإجزاء
أ- بأن الفقيه كالإمام فحاله حاله.
وفيه: إنه لا دليل على هذه الكلية، وإن قلنا بعموم أدلة النيابة.
ب- وبأن عدم الإعطاء له مع طلبه رد عليه، والرد عليهم كالراد على الأئمة.
إذ فيه: إن الظاهر من ذلك الرد عليهم – على الفقهاء – في الأحكام الشرعية لا في الموضوعات الخاصة، فهل أنه لو أمر الفقيه بطلاق الزوجة أو بنكاح امرأة أو ما أشبه وجبت إطاعته؟، والقول بوجوب الإطاعة حتى في مثل هذه الأمور، وإن صدر عن بعض الفقهاء، ضعيف خارج عن منصرف الإطلاقات)[14].
وبعبارة ثانية: انه ردّ منهم إليهم وليس رداً عليهم.
وقال: (فإنه إذا أراد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) تصرفاً في مال إنسان أو نفسه، أو قال له: تزوج فلانة أو طلقها، كان واجباً عليه لأنه أولى، وليس كذلك الفقيه إجماعاً، ولأن دليل النيابة لا يشمل مثل ذلك، فإن الفقهاء نوابهم (عليهم السلام) في إدارة شؤون البلاد والعباد حسب المصلحة لا التصرفات الشخصية، فإذا قال الفقيه: تزوج فلانة ولم يُرِدها، أو قال: سافر ولم يُرِد، أو قال: اكتسب الكسب الفلاني ولم يرد، أو بالعكس بأن نهاه وأراد، لم يكن رأي الفقيه مقدماً على رأي الإنسان.
والحاصل: إن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) والإمام (عليه السلام) خليفة الله، فكما لله سبحانه أن يتصرف في ملكه كيف شاء، كذلك لهما بعنوان أنهما خلفاؤه، وليس الفقيه كذلك)[15].
7- لا ولاية للفقيه في تشريع الأحكام
وذلك لوضوح ان التشريع لله تعالى وحده {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} نعم فوّض الله تعالى إلى رسول (صلى الله عليه واله وسلم) تشريع بعض الأحكام مما عبّر عنه بـ(سنة النبي) بعد (فرض الله) وذهب جمع من العلماء إلى تفويض تشريع بعض الأحكام إلى الأئمة أيضاً استناداً للروايات، وما عدا ذلك فانه قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}[16] وإذا كان هذا حال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فكيف بالفقيه؟
قال السيد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه في موسوعة الفقه: السياسة[17] (أما مقررات الدولة الإسلامية الشرعية، فالواجب اتباعها، وإن كان بعضها خلاف بعض الأحكام الأولية،[18] لا من جهة إطلاق ولاية الفقيه، فإن ولاية الفقيه ليست مشرّعة، بل اللازم على الفقيه كغيره ان يسير في النطاق الإسلامي، وإنما يلزم الاتباع في ما كان خلاف الأحكام الأولية، من جهة الحكم الثانوي النابع من الاضطرار، وملاحظة الأهم والمهم، وما أشبه ذلك).
وقال في الفقه العولمة[19] تحت عنوان (احترام حقوق الفرد والجماعة):
(مسألة: يحرّم الإسلام كل أمر يتنافى مع ما شرّعه من قانون السلطنة القائل: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) ومن أبرز مصاديق ذلك الجمارك والمكوس فإنها محرمة شرعاً، مضافاً إلى ما تستوجبه من تبعات مالية واقتصادية.
وقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) (إن الناس مسلطون على أموالهم)[20]
وقال (صلى الله عليه واله وسلم) (لا ضرر ولا إضرار في الإسلام)[21]
وقال الصادق (عليه السلام): (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص)[22]
وقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة)[23]
وعن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام): أن علياً (عليه السلام) كان يقول: أبهموا ما أبهمه الله.[24]
وقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): (على العشار كل يوم وليلة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)[25]
وفي الحديث عنه (صلى الله عليه واله وسلم): (والحمار يلعن العشار)[26]
نعم يلزم دفع الحقوق الشرعية والتي هي الخمس والزكاة والجزية[27] والخراج دون غيرها)[28].
8- لا ولاية للفقيه إذا ظلم أو ضيّع حق أحد
ومن أمثلة ذلك ما صرح به في الفقه كتاب الزكاة: (والحاكم الشرعي إنما يجيز المعاملة، لا أنه يكون مالكاً كالبائع، بل في جواز مثل هذه الإجازة نظر، لأنه يوجب تفويت حق السادة، إلا أن يكون إمام الأصل الذي له الولاية المطلقة)[29].
وبكلمة: فان الفقيه نصب لحفظ الحقوق ورعايتها لا لتضييعها وسحقها فإن ذلك مقتضى كونه أميناً على أموال الناس وأعراضهم وحقوقهم وكونه أميناً على أحكام الشارع الأقدس.
وبعبارة أدق: الولاية متقومة – فيما تتقوم به – بالأمانة فلو خان الأمانة وأكل حقوق الناس وصادرها، سقط عن الولاية قهراً.
وبتعبير ثالث: ان ولايته طريقية لا موضوعية لها أي هي مقدمية، وذو المقدمة هو إقامة العدل والحق، وإذا كانت العلة الغائية هي علة فاعلية الفاعل فكيف يعقل ان يحرك الفاعلَ للفعل[30] نقيضُ العلة الغائية المتوخاة منه؟
قال الإمام الشيرازي في فقه العولمة تحت عنوان: (حرمة الظلم:
(مسألة: لا يجوز الظلم سواء من الحاكم أو غيره، فانه من أشد المحرمات شرعا، كما يجب التحلي بالعدل والإنصاف.
عن أبي بصير قال: دخل رجلان على أبي عبد الله (عليه السلام) في مداراة بينهما ومعاملة، فلما أن سمع كلامهما قال: «أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم» ثم قال: «من يفعل الشر بالناس فلا ينكر الشر إذا فعل به، أما إنه إنما يحصد ابن آدم ما يزرع وليس يحصد أحد من المر حلوا، ولا من الحلو مرا، فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما»
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما حضر علي بن الحسين (عليهما السلام) (الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله»[31]
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد، وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف[32] برضى الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة»[33]
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة»[34]
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من عذر ظالما بظلمه سلط الله عليه من يظلمه فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»[35]
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان.[36]
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل).[37]
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن لله جنةّ لا يدخلها إلا ثلاثة، رجل حكم على نفسه بالحق ورجل زار أخاه المؤمن في الله ورجل آثر أخاه المؤمن في الله).[38]
والظاهر ان المقصود من ذكر روايات كثيرة، إضافة إلى موضوعيتها وفوائدها الذاتية الكبيرة، الاستدلال بتواترها الإجمالي بل بتواترها المضموني، بل نقول فوق ذلك ان مضامينها من المستقلات العقلية والروايات إرشادية لها.
وقال الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة (أما الأمر الأول: فقد تبين لك من المقدمة أن الهدف من تأسيس الحكومة وتنظيم القوى ووضع الخراج وغير ذلك كله، هو حفظ وتنظيم البلاد وتربية الشعب والاهتمام بأمر الرعية، لا لإشباع شهوات وملذات الذئاب، ولا لأجل استعباد رقاب الشعب استجابة لنزوة قاهرة. فمما لا شك فيه أن السلطة التي صرحت بها الأديان والشرائع وأقرها كل عاقل ـ سواء كان المتصدي لها غاصباً أو محقاً ـ هي عبارة عن تحمل الأمانة والمسؤولية صيانةً لنظام الأمة، فبالسلطة تقام الحدود والوظائف التي تعنى بالمحافظة على مصلحة الأمة، ولا تعني القهر والملوكية والتحكّم بالبلاد والعباد على أساس الهوى والنزوات.
الحقيقة إن السلطة هي من قبيل تولية بعض الموقوف عليهم أمر تنظيم وحفظ موقوفة مشتركة وإيصال كل حق إلى صاحبه، لا من قبيل التملك والتصرف الشخصي الدائر مدار قبول المتصدي وأهوائه ورغباته النفسية. ومن هنا عبّر أئمة وعلماء الإسلام عن السلطان بالولي والوالي والراعي، وعن الناس بالرعية).[39]
و(في زيارة الغدير الغراء نقرأ هذه العبارة في وصف سيد الأوصياء (عليه السلام): "وأنت القاسم بالسوية والعادل في الرعية"[40]، حيث تشير إلى ما قلناه بخصوص مبدأ المساواة، ولكن أهمية هذا المبدأ وكونه الركن الثاني في سعادة الشعب وأنه يحول دون استئثار المتصدين بالنعم والملذات ويمنعهم أيضاً من القيام بأعمال استبدادية، كل ذلك حدا بالبعض لأن يرسموا لهذه العبارة صورة قبيحة تثير النفرة والاشمئزاز لدى المسلمين وغير المسلمين).[41]
و(إن مبدأ المساواة هو من أشرف المبادئ والقوانين التي تنادي بها السياسة الإسلامية، وهو أس العدالة وروح القانون، وقد بينّا إجمالاً مدى الأهمية البالغة التي يوليها الشارع المقدس لمسألة تحكيم الأصل الثاني الذي يؤدي دوراً أساسياً في سعادة الأمة؛ فالشريعة المطهرة تقضي بأن كل حكم، مهما كان موضوعه، إذا ما اتخذ صيغة قانونية، يلزم عنه في مرحلة التنفيذ أن ينفذ على تمام مصاديقه وأفراده بشكل واحد وبالسوية، ولا يلحظ في أمر التنفيذ أية محسوبية أو مؤثرات شخصية، ولا يجوز لأحد أن يلغي حكماً أو يغض الطرف في إجراء حكم من الأحكام. ولا مجال للرشوة والتخلف عن التطبيق، وإصدار الأحكام على أساس الهوى والأغراض النفسية.
وبالنسبة للحقوق المدنية الأولية والعامة كأصل التأمين على النفس والعرض والمال والمسكن وعدم التعرض للآخرين بلا سبب والسماح بإقامة منتديات ولقاءات مشروعة وغيرها من الحقوق المدنية العامة، لابد من إجرائها للجميع بنحو واحد. وأما في الموارد الخاصة فيجب أن لا يكون هناك أي امتياز أو أولوية للبعض دون البعض الآخر، فكل أفراد الشعب بعد أن تنطبق عليهم تلك الموارد الخاصة يكونون فيها سواء. فيجب ـ مثلاً ـ أن لا يلحظ في المدعى عليه كونه وضيعاً أو شريفاً، جاهلاً أو عالماً، كافراً أو مسلماً، فالكل يجب أن يأتوا إلى المحكمة مذعنين. وأما الأحكام الصادرة من قبل الحاكم الشرعي النافذ الحكومة بحق القاتل والسارق والزاني والشارب للخمر والراشي والمرتشي والجائر في الحكم والمفسد والمرتد ومن يأكل مال اليتيم فيجب أن تنفذ بسرعة ودون تأخير، فالأحكام الخاصة بالمسلمين أو بأهل الذمة لابد وأن تنفذ بلا تمييز بين أفراد كل من الفريقين. هذه هي حقيقة المساواة والتي تعد روح القوانين والمبادئ السياسية، ولا شك أن عدم جواز التخطي عن هذا الأصل هو من ضروريات الدين الإسلامي الحنيف ومن بديهياته.[42]
9- لا ولاية للفقيه على خلاف المصلحة العامة
بل ان ولاية الفقيه منحصرة فيما لو انبثق رأيه من المصلحة العامة للناس
قال الإمام الشيرازي في الفقه: (الحكم في الإسلام):
(مسألة -5- الظاهر انه يشترط في تصرفات رئيس الدولة الاسلامية ان تكون تابعة للمصلحة، فلا يصح التصرف الذي ليس بمصلحة، وان لم يكن مفسدة.
من الأدلة على اشتراط المصلحة
ويدل عليه الأدلة الاربعة:
الاول: الكتاب الحكيم، قال سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فانه يفهم منه عدم جواز التصرف في امور الامة بدون الصلاح لانه لا شك في كونه اهم من مال اليتيم[43]، هذا بالاضافة الى ان الفقيه بتصرفاته يتصرف في اموال الايتام وانفسهم،ولا يجوز التصرف في اموالهم بقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} بضميمة استصحاب الشرائع السابقة، وان الاخذ بالأحسن لا يراد به ما ليس بمفسدة[44]، بل ما كان صلاحاً.
الثاني: السنة المطهرة مثل: (لا يبطل حق أمرئ مسلم) و(لا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم) فان عدم ملاحظة المصلحة ابطال لحق المسلمين، مثلاً اذا كان قيمة الطائرات في الاسواق مليون دينار وامكنه ان يشتريها بمليون الا خمسين الف فلم يفعل ذلك فانه يصدق عرفا انه ابطل حق المسلمين، بالإضافة الى انه كثيراً ما يصدق عليه انه أضرهم فلا يجوز لدليل لا ضرر ونحوه، وفي الحديث المتقدم، عن الامام الرضا عليه السلام الماع الى ذلك.
الثالث: الاجماع الذي ادعاه بعضهم في شرحه للعروة في باب التقليد في مسألة ولاية الفقيه.
الرابع: العقل، فان جعل الولاية انما هو باعتبار المحافظة على مصلحة المسلمين، فعدم رعايتها والتحول الى عدم المفسدة خلاف الحكمة المجعول لاجلها الولاية، وبذلك يظهر ان قول بعضهم بكفاية عدم المفسدة للاصل، محل منع)[45].
وقال أيضاً في الفقه كتاب الزكاة: (وقد استدل فيه في الأول بإطلاق معقد الإجماع على جواز التأخير، كما استدل له في الثاني بالأصل، لكن لا يخفى أن هذا فيما إذا لم تكن مصلحة بالولاية العامة في الطلب، وإلا كان مقتضى القاعدة وجوب قبول المالك، إذ فيمن له الولاية المطلقة كالنبي والإمام لا إشكال في ذلك، وفيمن ولي من قبلهم (عليهم السلام) كالفقيه لا بد من القول بذلك مع اقتضاء المصلحة، كما لو أريد التجهيز للحرب فيما ليس للمسلمين مال أو نحوه، إذ الاضطرار الحاصل الموجب لطلب الحاكم يقدم فيه ما هو أقل المحذورين، كما لو دار الأمر بين أخذ المال مجاناً أو أخذه زكاة)[46]
من ثمار التقييد بالمصلحة
و(التقييد بالمصلحة) مهم جداً في عالم الثبوت وعالم الإثبات:
أما في عالم الثبوت فان الفقيه الحاكم لو حكم في أمر عام أو خاص بأمرٍ، ولم يكن ذلك من مصلحة الناس أو مصلحة ذلك الشخص، فانه ليس مشمولاً – حسب هذا القيد – للأدلة الدالة على نفوذ حكمه أو ولايته أو الدالة على الاذن له أو وكالته.
واما في عالم الإثبات: فأولاً: يجب على الفقيه ان يستوثق من كون حكمه على طبق المصلحة وليس له ان يستبد بالرأي وينفرد فيه بل عليه الاسترشاد بآراء أهل الخبرة فانه نوع فحص واجب وقد ورد في الأحاديث (من استبد برأيه هلك) (ما خاب من استشار) إلى غير ذلك.
ثانياً: للناس عامة وللشخص خاصة التفحص عن حال الحكم الصادر فإذا وجد انه غير صادر عن مصلحة كان له ان يشتكي على الفقيه الحاكم عند القضاء وعند فقيه آخر، كما انه لو أحرز مخالفته كان له الجهر بذلك والإعلان.
واما الميرزا النائيني فقد قال في (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) (الثاني: أن لا تقوم السلطة على المالكية ولا القاهرية ولا الفاعلية بما يشاء ولا الحاكمية بما يريد، وإنما على أساس إقامة تلك الوظائف والمصالح النوعية المطلوبة من السلطة، وأن تكون اختيارات الحاكم محدودة بحدود هذه الوظائف ومشروطة بعدم تجاوزه حدود الوظائف المقررة عليه.
بخلاف النوع الثاني فإن حقيقته ولبّه الخالي عن القشور عبارة عن ولاية على إقامة الوظائف الراجعة للدولة. وبعبارة ثانية هي أمانة نوعية في صرف قدرات البلد في مصالحه، لا في الشهوات والميول الفردية. ولذا فإن سلوك الحاكم محدود بحدود الولاية على هذه الأمور ومشروط بعدم تجاوزها، وأفراد الشعب شركاء معه في جميع مقدرات البلد التي تنتسب للجميع بشكل متساوٍ. وليس المتصدون للأمور إلاّ أمناء للشعب، لا مالكين أو مخدومين. وهم كسائر الأمناء مسؤولون عن كل فرد من أفراد الأمة، ويؤاخذون بكل تجاوز يرتكبونه، ولكل فرد من أفراد الشعب حق السؤال والاعتراض في جو يسوده الأمن والحرية، وبدون التقيد بإرادة السلطان وميوله)[47].
و: (ومما تقدم يتضح أن أساس النوع الأول من السلطنة ـ الذي هو عبارة عن مالكية مطلقة وفاعلية ما يشاء وحاكمية بما يريد ـ مبني على تسخير الأمة وقهرها بالإرادات السلطانية من جهة، وجعل السلطة أمراً خاصاً بالسلطان، ولا تشاركه فيها الأمة فضلاً عن أن تكون مساوية له، وإيكال كل الأمور إليه وحده من جهة ثانية، ويتفرع عن ذلك عدم مسؤولية السلطان عمّا يقوم به، وكل ما نراه اليوم في إيران من الازمات المدمرة للدين والدولة والشعب، والتي لم تقف عند حد، هي من هذا الباب؛ ولا بيان بعد العيان ولا أثر بعد عين.
وقد عرفت أن أساس النوع الثاني معاكس لأساس النوع الأول، وهو عبارة عن ولاية على إقامة المصالح العامة، ومبني على تحرير الأمر من الرق البغيض من جهة، ومشاركة أفراد الأمة بعضهم مع بعض ومساواتهم مع شخص السلطان في جميع أمور البلاد من جهة ثانية، ويتفرع عن ذلك حق الأمة في المحاسبة والمراقبة ومسؤولية الموظفين.[48]
10- لا ولاية للفقيه في غير دائرة الأحكام الثانوية
وقد صرح الإمام الشيرازي بان ولاية الفقيه لا تنال دائرة الأحكام الأولية، بان يحرم ما أحله الله تعالى أو أوجبه كأن يحرم الصلاة والصيام والحج أو النكاح أو يحلل ما حرمه الله تعالى كشرب الخمر والزنا والسحر وما أشبه، وذلك بمعنى ان يروم جعل قضية حقيقية في مقابل القضية الحقيقية الشارعية عكس ما توهمه البعض وصرح به! وسيأتي تصريحه بعد أسطر.
11- لا ولاية للفقيه خارج إطار أحكام الإسلام
قال في موسوعة الفقه: (أما احتمال أن يكون للفقيه ذلك من باب الولاية، ففيه: إن الولاية إنما تكون في النطاق الإسلامي لا خارج النطاق الإسلامي)[49].
وقد صرح بهذين القيدين الأخيرين بقوله قدس سره: (ومما تقدم علم أن ذلك ليس من باب ولاية الفقيه بالمعنى الذي توهمه بعض من أنه يضع ما يشاء ويترك ما يشاء ولا من باب المصالح المرسلة التي لا نقول بها، إذ ولاية الفقيه إنما تكون في دائرة الأحكام الإسلامية، والمراد بالولاية أن الفقيه يتولى التصرف في البلاد والعباد لا غيره، لا خارج دائرة أحكام الإسلام، لكن تكون في ضمن دائرة الأحكام الثانوية من لا ضرر ولا حرج والأهم والمهم، ورعاية مصالح العباد حتى لا يستلزم اختلال النظام والهرج وغير ذلك)[50].
وقال: (وبذلك تبين، ان لا ولاية للفقيه خارج الإطار الإسلامي، فان الفقيه هو المراعي لأحكام الإسلام، لا الذي يعمل خارج نطاق الإسلام، كما تبين ان لا ولاية للفقيه خارج انتخاب الأمة، بالنسبة إلى التصرف في شؤون البلاد والأمة)[51].
أقول: بل كيف يعقل ان يتوهم خلاف ذلك وقد قال تعالى عن رسوله العظيم {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}[52] وإذا كان الرسول الأعظم مقيداً بالحكم في إطار ما أراه الله فكيف للفقيه أن يتجاوز هذا الإطار فيحكم خارج النطاق الإسلامي؟
وجوب إسقاط حكم الفقيه إذا لم يعمل بقوانين الله
وقال قدس سره في الفقه: السياسة[53] (وبعدما تقدم من اشتراط ان يكون الوالي مجتهداً عادلا، لاحاجة إلى ذكر انه لابد ان يعمل بقوانين الله سبحانه اذ ان أي انحراف عنها يسقط عدالته، واذا سقطت لزم على المسلمين اسقاطه[54] وسحب الثقة عنه وتبديله بالرجل الصالح وانه لاطاعة له على المسلمين، اما عدم وجوب طاعته في المعصية فاوضح من ان يخفى فانه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وعن الخصال: انه روى سليم بن قيس، عن علي عليه السلام قال: احذروا على دينكم ثلاثة إلى ان قال ورجلا اتاه الله سلطاناً، فزعم ان طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وكذب، لانه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق إلى ان قال: لاطاعة لمن عصى الله، انما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الامر([55]).
هذا بالاضافة إلى ان جملة من الروايات حذرت عن اتباع العالم العاصي مما تدل على المقام بالطريق الاولى، مثل ماتقدم في خبر السكوني المتقدم في المسألة السابقة: الفقهاء امناءٍ الرسل...([56]).
ومثل ما عن محجة الكاشاني رحمة الله عليه روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: العلماء امناء الرسل على عباد الله عزوجل مالم يخالطوا السلطان فاذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم([57]).
وعن خراجية الفاضل القطيفى، قال: روى عن المعصوم عليه السلام: (العلماء أحباء الله ما امروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولم يميلوا في الدنيا، ولم يختلفوا ابواب السلاطين، فاذا رأيتم مالوا إلى الدنيا واختلفوا ابواب السلاطين فلا تحملوا عنهم العلم ولاتصلوا خلفهم ولاتعودوا مرضاهم ولاتشيعوا جنائزهم فانهم آفة الدين وفساد الاسلام يفسدون الدين كما يفسد الخل العسل).
وعن الديلمى في مسنده انه روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة، فاعلم انه لص. إلى غيرها من الروايات التي تأتى جملة اخرى منها ايضاً انشاء الله...).
من أحكام الإسلام: حرمة سجن المعارض السياسي ومصادرة أموال الناس ومنع التظاهر والاعتصام و...
وإطار (أحكام الإسلام) في الفكر الشيرازي عنوان هام يخالف أكثر ما قال به بعض اتباع ولاية الفقيه المطلقة من صلاحياته؛ فانه على ذلك:
1- لا يجوز أخذ الضرائب من الناس[58] – وهو حكم إسلامي.
2- لا يجوز أخذ المكوس (الجمارك) من الناس – وهو حكم إسلامي.
3- لا يجوز فرض الضريبة على الإرث – وهو حكم إسلامي
4- لا يجوز سجن المعارض السياسي – وهو حكم إسلامي.
5- لا يجوز التعذيب أبداً – وهو حكم إسلامي.
6- لا يجوز الإرهاب والعنف – وهو حكم إسلامي.
7- لا يجوز التجسس ولا تفتيش البيوت – وهو حكم إسلامي.
8- لا تجوز مصادرة أموال الناس أبداً – وهو حكم إسلامي.
9- لا يجوز منع الناس من الاستثمار والتجارة أو الصناعة والزراعة – وهي أحكام إسلامية.
10- لا يجوز منع الناس من إحياء الموات – وهو حكم إسلامي.
11- لا يجوز منع الناس من تأسيس الجمعيات والنقابات والاتحادات والأحزاب – وهو حكم إسلامي.
12- لا يجوز منع الناس من حق الاعتصام والتظاهر والاحتجاج على أية سياسة يرونها باطلة – وهو حكم إسلامي.
13- لا يجوز منع الناس من السفر أو الإقامة في أي بلد من بلاد الإسلام.
14- لا يجوز منع الناس من تأسيس الجرائد والمجلات ومحطات الإذاعة وإطلاق القنوات الفضائية، وتأسيس مواقع في الانترنيت[59].
وبكلمة جامعة: فان في طليعة أحكام الإسلام عنوانان هامان يتضمنان كل ما سبق وغيره أيضاً وهما: الحريات الأساسية وحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية وغيرها.
وقد تحدث الإمام الشيرازي عن هذه البنود في موسوعة الفقه وغيرها وقد اقتبسنا بعض كلماته وادرجناها في الملحق (1) و(2) فراجعه.[60]
وقال الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة (وحيث كانت يقظة الغيورين من المسلمين من أجل تحرير رقابهم من استرقاق الجائرين وتحقيق المساواة مع الحاكم، وتكريس حق الاشتراك معه في جميع قدرات البلاد وإمكاناته، تمثل الوسيلة الأكبر والأقوى لجدهم واجتهادهم في هذا المجال، فقد رأت شعبة الاستبداد الديني الخبيثة وباسم حفظ الدين أن من الواجب عليها، بمقتضى وظيفتها المتكلفة بالاحتفاظ بشجرة الاستبداد الخبيثة، عدم الإصغاء للخطاب الشريف {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}، والاقتداء بالمخاطبين الأوائل بالقرآن الذين نبذوا كلام الله وراء ظهورهم. وأخذت تقاوم بكل ما في وسعها هذين الأصلين ـ الحرية والمساواة ـ اللذين تترتب عليهما حفظ حقوق الأمة وتحديد مسؤولية الولاة وغير ذلك. وعملت على تنفير وصرف قلوب الشعب عنهما وذلك بإظهارهما بأشنع الصور.
فالحرية التي تعني تحرير الأمة من ربقة الجائرين، وهي من أعظم المواهب الإلهية على هذا الإنسان البائس، وكان اغتصابها في الإسلام من بدع الشجرة الملعونة معاوية وابن العاص، وكان استنقاذها من أهم مقاصد الأنبياء والأوصياء وقادة الشعوب، صوّروها في عداد المستحيلات واعتبروها أساساً لما هو غير شرعي من الأمور، كعدم ارتداع الملاحدة عن إظهار المنكرات وإشاعة الكفريات وتجرؤ المبتدعين في إظهار بدعهم وزندقتهم، وعدّوا من لوازم الحرية خروج النساء المسلمات سافرات الوجوه وغير ذلك مما ليس له ربط بقضية الاستبداد والدستور. مع أن الدول المسيحية، سواء كانت استبدادية كروسيا أو شوروية كفرنسا وإنجلترا، إنما لم تمتنع عن تلك الأعمال لأنها غير محرمة في أديانهم ومذاهبهم، لا لأنهم استبداديون أو شورويون.
والمساواة في جميع الحقوق التي عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على استحكامها كأساس لسعادة أمته، حتى جرد كتفيه المباركين بتلك الحالة من المرض لاستيفاء قصاص ادّعائي، والتي تحمّل أمير المؤمنين (عليه السلام) كل تلك المحن والمصائب من أجل تطبيقها في مواردها التي كان منها التسوية فيما بين البدريين والإيرانيين الجديدين عهداً بالإسلام، حتى نال كأس الشهادة في محراب العبادة؛ هذه المساواة صورها الاستبداديون بصورة مساواة المسلمين مع أهل الذمة في أبواب النكاح والميراث والقصاص والديات. وخبطوا أكثر فجعلوا من مقتضياتها المساواة بين أصناف المكلفين كالبالغ وغير البالغ والعاقل والمجنون والصحيح والمريض والمختار والمضطر والموسر والمعسر والقادر والعاجز، وغير ذلك مما كان أساساً لاختلاف التكاليف والأحكام، وبعيداً عن قضية الاستبداد والشورى كبعدنا عن الفلك الأطلس[61].
وبالجملة فإن رأس مال سعادة الأمة وحياتها وأساس محدودية السلطة والمسؤولية المقدمة لها، وحفظ حقوق الشعب، كل ذلك ينتهي لهذين الأصلين، الحرية والمساواة، ولذا ترى شعبة الاستبداد الديني صبغت هاتين الموهبتين العظيمتين بهذه الصبغة القبيحة. ولكن "لا يمكن حجب أشعة الشمس، كما أن محاولة سد النيل بالمسحاة عمل أحمق"[62].[63]) – انتهى.
نعم لمجلس الأمة المنتخب من الناس بالتشاور مع الخبراء المحايدين وضع بعض القوانين لتنظيم تلك الأمور أو تحديدها بحدود بشرط أن تكون مؤقتة – فان العناوين الثانوية مؤقتة ولا يجوز ان تتحول إلى مادة في الدستور أو إلى مادة ثابتة في القانون، وبشرط ان تعاد دراستها كل سنة أو سنتين مثلاً مرة أو عندما يطلب عدد من النواب أو الفقهاء أو الخبراء أو الناس – والدستور يحدد مؤقتاً، العدد – وبشرط ان تصادق عليها أيضاً أكثرية شورى الفقهاء والمراجع[64].
12- لا ولاية للفقيه على ظلم الأقليات ومنعهم عن حقوقهم
وقال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه كتاب العولمة تحت عنوان:
(مع الأقليات الدينية):
(مسألة: ينبغي للحاكم والحكومة الإسلامية أن تتعامل بالتي هي أحسن[65] حتى مع غير المسلمين مما يصطلح عليهم اليوم بالأقليات، ولا فرق بين كون الأقليات أديانا كالنصارى، أو غير أديان كالبرهمية على تفصيل ذكرناه في الفقه.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»([66]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «بعث النبي (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد إلى البحرين، فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس، فكتب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة ثمانمائة وأصبت دماء قوم من المجوس ولم تكن عهدت إليّ فيهم عهداً؟
قال: فكتب إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله): أن ديتهم مثل دية اليهود والنصارى وقال: إنهم أهل كتاب»([67])).
وعن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسلم قتل ذمياً؟ قال: فقال (عليه السلام): «هذا شيء شديد لا يحتمله الناس فليعط أهله دية المسلم حتى ينكل عن قتل أهل السواد وعن قتل الذمي، ثم قال: لو أن مسلماً غضب على ذمي فأراد أن يقتله ويأخذ أرضه ويؤدي إلى أهله ثمانمائة درهم إذن يكثر القتل في الذميين ومن قتل ذمياً ظلماً فإنه ليحرم على المسلم أن يقتل ذمياً حراماً ما آمن بالجزية وأداها ولم يجحدها»([68]).[69]
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ليس بين أهل الذمة معاقلة فيما يجنون من قتل أو جراح إنما يؤخذ ذلك من أموالهم، فإن لم يكن لهم مال رجعت الجناية على إمام المسلمين، لأنهم يؤدون الجزية إليه كما يؤدي العبد الضريبة إلى سيده»([70]).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تدخلوا على نساء أهل الذمة إلا بإذن»([71]).
وقال (عليه السلام): «من آذى ذميا فكأنما آذاني»[72])[73].
والحاصل: ان ظلم الأقليات حرام ولا ولاية للفقيه إلا في حدود طاعة الله تعالى، واما الاحسان إليهم فحسن راجح وقد يدخل في عنوان المصلحة العامة السابق الذكر، فيجب من هذه الجهة أو لغير ذلك.
والحاصل: ان ظلم الأقليات حرام ولا ولاية للفقيه إلا في حدود طاعة الله تعالى، واما الإحسان إليهم فحسن راجح وقد يدخل في عنوان المصلحة العامة السابق الذكر، فيجب من هذه الجهة أو لغير ذلك.
13- لا ولاية للفقيه على نقض المعاهدات الدولية أو الإساءة للدول الأخرى
وذلك لأنه لا ولاية للفقيه على فعل المعاصي والمحرمات كما هو بديهي، ومن المعاصي الكبيرة نقض المعاهدات الدولية التي وقعتها الحكومة المنتخبة للناس وفقاً للضوابط العقلائية المشروعة، وسنجد ان السيد الشيرازي يصرح بوجوب مراعاة المعاهدات الدولية ووجوب حسن التعامل مع جميع الدول.
قال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه تحت عنوان:
(حسن التعامل مع جميع الدول):
(مسألة: يجب على الحاكم والحكومة الإسلامية أن تحافظ على حسن تعاملها مع جميع الدول، سواء المجاورة منها أو البعيدة، مسلمة أو غير مسلمة، وأن تراعي جميع المعاهدات الدولية التي تعقدها مع الدول الأخرى، حتى غير الإسلامية منها، فان الإسلام قد أمر باحترام كل ذلك.
قال تعالى: ]وأوفوا بالعقود[([74]).
وقال سبحانه: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)([75]).
وقال عزوجل: (الموفون بعهدهم إذا عاهدوا)([76]).
وقال تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا)([77]).
وقال سبحانه: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد)([78]).
وقال تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)([79]).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المؤمنون عند شروطهم»([80]).
وفي حديث آخر: «المسلمون عند شروطهم»([81]).
مضافاً إلى روايات حسن الجوار فإنها تشمل ذلك في الجملة.
عن أبي أسامة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار وكونوا دعاةً إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً»([82]).
وعن أبي مسعود قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «حسن الجوار زيادة في الأعمار وعمارة الديار»([83]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة تراك عيناه ويرعاك قلبه إن رآك بخير ساءه وإن رآك بشر سره»([84]).
وعن أبي مالك قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): أخبرني بجميع شرائع الدين؟ قال: «قول الحق والحكم بالعدل والوفاء بالعهد»([85]).
وعن الحسين بن مصعب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ثلاثة لا عذر لأحد فيها: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين»([86]).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة، إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا ائتمنتم فلا تخونوا، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم وألسنتكم»([87]).
وعن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أقربكم غدا مني في الموقف أصدقكم للحديث وآداكم للأمانة وأوفاكم بالعهد وأحسنكم خلقا وأقربكم من الناس»([88]).
وقال (عليه السلام): «إن العهود قلائد في الأعناق إلى يوم القيامة فمن وصلها وصله الله، ومن نقضها خذله الله، ومن استخف بها خاصمته إلى الذي أكدها وأخذ خلقه بحفظها»([89]).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «كن منجزاً للوعد موفياً بالنذر»([90])).
14- لا ولاية للفقيه إذا لم يرض به الناس ولياً وحاكماً
قال الإمام الشيرازي: (وذلك لما ذكرناه في كتاب الفقه: الحكم في الإسلام، والسياسة أن ظاهر الأدلة الشرعية أن الحاكم على المسلمين يلزم أن يكون فيه أمران:
الأول: استجماعه لشرائط المرجع، المذكورة في كتاب الاجتهاد والتقليد.
الثاني: أن ينتخبه أكثرية الأمة بانتخابات حرة، وذلك للجمع بين أدلة التقليد وأدلة الشورى، ولذا قال (عليه السلام): (فاجعلوا حكماً)[91]، و(ان يختاروا)، فحال رئاسة الدول حال إمامة الجماعة ومرجع التقليد والقاضي؛ حيث إنه إذا كان هناك نفران متساويان في استجماعهما للشرائط حق للإنسان أن يصلي مع هذا أو ذاك، أو يقلد هذا أو ذاك، أو يراجع هذا أو ذاك)[92].
وقال أيضاً: (ولا يخفى ان الدولة الاسلامية تعمل بكل هذه الامور لكن بثلاثة فوارق، بالقياس إلى الدولة غير الاسلامية:....
(ب) كون الفقيه الصالح منتخباً من قبل أكثرية الامة، فاذا كان هناك فقيهان جامعان للشرائط انتخبت الامة احدهما[93]، لا يحق للاخر تولى الشئون كما هو مقتضى دليل الشورى، وقوله عليه السلام: (انظروا إلى رجل منكم...)([94]) وقد ذكرنا تفصيل دليل الشورى في كتاب: (الحكم في الاسلام) ولعله يأتي له مزيد توضيح في بعض المسائل الاتية انشاء الله تعالى).
وقال قدس سره: (واما الشرط الثاني: فلقوله سبحانه: {أمرهم شورى} وقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} فإن إطلاق الآيتين يعطى انه بدون الشورى لا يصح الحكم، إلا فيما خرج، مثل حكم الرسول وحكم الإمام، وحكم من عيّناه نصاً، مثل تعيين الرسول (صلى الله عليه واله) اسيدا على مكة، وتعيين علي (عليه السلام) مالكاً لمصر فانه لا مجال للشورى مع النص في الموضوعات)[95]
وقال: (وعلى هذا يكون هناك انتخابان للناس:
(الاول) انتخابهم للفقيه العادل الجامع للشرائط، كما سيأتى بيان الشرائط حتى يكون هو الذي يتولى عامة الامور، وهذا مايسمى (بولاية الفقيه)[96] فاذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول اختار المسلمون احدهم رئيساً اعلى للدولة، ويحق لهم ان يختاروا جماعة منهم ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم، وهذا الثاني اقرب إلى روح الاسلام؛ حيث ان الاسلام استشاري، كما انه اقرب إلى الاتقان.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله امرءاً عمل عملا فاتقنه)([97]) وهؤلاء الفقهاء هم الذين يقررون السياسة العليا للدولة، بالاستشارة فيما بينهم). انتهى
من الأدلة على اشتراط رضا الناس في ولاية الفقيه في شؤون الحكم
واشتراط رضا الناس يمكن تعليله بأحد وجوه:
الأول: ما ذكره قدس سره بقوله (لقوله سبحانه: {أمرهم شورى} وقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} فإن إطلاق الآيتين يعطى انه بدون الشورى لا يصح الحكم، إلا فيما خرج).
الثاني: ما ذكره بقوله (وذلك للجمع بين أدلة التقليد وأدلة الشورى، ولذا قال (عليه السلام): (فاجعلوا حكماً)[98]، و(ان يختاروا)) وذلك اما للحكومة أو للتخصيص أو لغير ذلك كما سبق.
الثالث: ان ذلك هو مقتضى النصب أو الاذن العام للفقهاء، إذ مقتضاه بعد إذ لم يعقل نصبهم أولياء في عرض الآخر كلّاً منهم ولياً بالاستقلال لاستلزامه الفساد والإفساد والهرج والمرج، هو التخيير بينهم[99] أو كونهم جميعاً وبشرط انضمام بعضهم إلى الآخر ذوي ولاية لا أحدهم المعين فانه بلا مرجح أو أحدهم غير المعين ثبوتاً لاستحالته أو غير المعين إثباتاً لقبح الإهمال أو الاجمال في مثل المقام مما لا يعقل صدوره من الحكيم.
لكن ظاهر العديد من الأدلة هو الأول كقوله (عجل الله فرجه الشريف) (اما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لامر مولاه، فللعوام ان يقلدوه)[100]. بناءً على شموله للشؤون العامة.
وقد يفصّل بين الشأن الخاص فالتخيير أو العام فالشورى والبشرط شيئية.
كما قد يفصل بين الشأن العام غير الارتباطي مما لا يستلزم الفساد والإفساد بإعمال كل منهم ولايته[101]، فالتخيير، وبين الشأن العام الارتباطي – كشؤون الحرب والسلم – فالشورى والانضمامية.
على انه قد يقال لا مانعة جمع بين المقتضيين (التخيير) و(البشرط شيئية) إذ البشرط شيئية تتعلق بهم والتخيير يتعلق بالناس.
والالتزام بالتخيير ليس بحاجة إلى دليل آخر حتى لو التزمنا بالظهور في النصب إذ ظاهر النصب للجميع التخيير بينهم بمناسبات الحكم والموضوع او اشتراط انضمام بعضهم إلى بعض وحيث لا يعقل التعليق على الإجماع لندرته انحصر في المنوطية بالأكثرية لعقلائيته.
وقد يستدل على ذلك بالظهور العرفي وهو ما أشار قدس سره إليه بقوله (فحال رئاسة الدول حال إمامة الجماعة ومرجع التقليد والقاضي حيث إنه إذا كان هناك نفران متساويان في استجماعهما للشرائط حق للإنسان أن يصلي مع هذا أو ذاك، أو يقلد هذا أو ذاك، أو يراجع هذا أو ذاك)
الرابع: ان ولاية احد على أحد حيث كانت خلاف الأصل كما صرح به قدس سره مراراً، وكان الخروج عنه هو المحتاج للدليل، والقدر المتيقن من الخارج هو ولاية الفقيه إذا رضي الناس بها وذلك بناء على انه لا يعلم ان المولى في مقام البيان من هذه الجهة، أي ان أدلة ولاية الفقيه لا إحراز لكون المولى في مقام بيان إطلاقها من جهة رضى الناس وعدمه فانه إطلاق احوالي، وشرط انعقاد الإطلاق إحراز كونه في مقام البيان من هذه الجهة على ما ذهب إليه الآخوند الخراساني.
أو يقال بانصراف أدلة ولاية الفقيه إلى هذه الصورة، ووجه الإنصراف قوة ارتكازية (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) في أذهان المتشرعة وأذهان العقلاء بحيث لا تصلح أدلة الولاية العامة – خاصة مع اعراض المشهور عنها – رادعة عنها فلا تكون إلا مثبتة للولاية في صورة رضى الناس فقط دون الأعم.
هذا كله على القول بدلالة الأدلة على الولاية، واما على القول بالعدم – كما هو المشهور – فان اشتراط رضا الناس هو على الأصل إذ لا يحق لأحد التصرف في غيره – نفساً ومالاً وحقاً – إلا برضاه، فلو رضوا كان اما من الوكالة أو من الاذن أو من العقد المستأنف فتكون مدة ولاية الفقيه وحدود صلاحياته تابعة لحدود توكيل الناس له أو اذنهم أو على حسب شروط العقد.
15- لا ولاية للفقيه على الأجيال القادمة
وقال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه: (لأن الفقيه الأول تمتد ولايته مادام انتخاب الناس له رئيساً للدولة، ومادام هو حي، فتصرفه في حق فقيه بعده متوقف على إجازته)[102]. وبذلك يختلف حال ولاية الفقيه عن القضاء، فان القاضي تمتد أحكامه حتى بعد عزله أو موته، اما الفقيه فلا، بل تتوقف على إمضاء الفقيه اللاحق (أو شورى الفقهاء) الذي انتخبه الناس لاحقاً وربما يستثني من ذلك ما لو حكم في أمرٍ كان العقلاء يرون ان من شأنه كون علته المبقية من شؤون علته المحدثة وتوابعها الطبعية. ولم نجد في كلمات الإمام الشيرازي – في بحث ناقص – الرأي في هذه القضية.
16- لا ولاية للفقيه طوال حياته، بل هي مادام الناس راضون بحكومته
وقال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه:
(أما أن الحمى لفقيه الغيبة، فإنه وإن كانت عدالته تمنع عن تعمد العصيان، إلاّ أن كونه معرضاً للنسيان ونحوه[103] يعطي الأمة صلاحية التبديل به، لأنه يأتي باختيار الأمة كما ذكرناه في كتابي (الحكم في الإسلام) و(السياسة) وفي (كتاب الزكاة) في جمع الفيء، ما يفيد ان لهم أن يختاروا ليجمع فيئهم ويقاتل عدوهم فراجع)[104].
والحاصل: ان ولايته من هذه الحيثية اقتضائية ولا دليل على كونها علة تامة كي لا يمكن التبديل كما لا دليل على استلزام الحدوث للبقاء والعلة المحدثة للعلة المبقية.
وقال أيضاً في موسوعة الفقه – وكما سبق-:
(لأن الفقيه الأول تمتد ولايته مادام انتخاب الناس له رئيساً للدولة، ومادام هو حي، فتصرفه في حق فقيه بعده متوقف على إجازته)[105].
17- لا ولاية تعيينية للفقيه بل هي تخييرية
قال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه:
(إن إطاعة الفقيه في الحكم مطلقاً محل تأمل، فلو طلب أحد الفقهاء الزكاة بنحو الحكم، وقال فقيه آخر: بعدم وجوب الإطاعة في مثله، لم يكن للعامي بأس في ترك العمل بقوله)[106].
والحاصل: أنه مع اختلاف الفقهاء فان المكلف مخير في الأخذ من أي واحد منهم، فانه من دوران الأمر بين رفع اليد عن الإطلاق الأول وبين رفعه عن الإطلاق الثاني[107] وحيث ارتفع المحذور برفع اليد عن الإطلاق الثاني فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق الأول.
وفي الفقه:[108] (نعم، لو كان هناك مجتهدان أحدهما أمر بشيء والآخر نهى أو ما أشبه ذلك اختار المكلف اتباع أيهما شاء لما ذكرناه في هذا الشرح من أن المكلف مخير بين الطريقين في غير ما إذا كان أحدهما حاكماً).
والمراد بالحاكم هنا القاضي لأنه وضع للفصل بين المتخاصمين، نعم اجاز الإمام الشيرازي الاستئناف في الحكم والرجوع إلى قاض آخر كما ذكره في كتاب (القضاء) من موسوعة الفقه.
نعم الظاهر ان مقصوده من التخيير بينهما أو بينهم هو في غير (الشؤون العامة التي يستلزم التخيير فيها اختلال النظام أو الفساد والإفساد، كشؤون الحرب والسلم وما أشبه) ولذلك مثّل له بمثل إعطاء الزكاة ولأنه مقتضى الجمع بين كلماته، فتأمل.
18- لا ولاية للفقيه إذا استبدَّ
وقال الإمام الشيرازي في الفقه كتاب اللعان: (وقد ذكرنا في كتبنا (السياسة) ونحوها أنه لا يحق لفقيه واحد الاستبداد بالأمر في التصرف في شؤون المسلمين إذا كان هناك فقهاء آخرون هم مراجع تقليد المسلمين أيضاً، كما هو الغالب من تعدد المراجع، حيث إن كلهم خلفاء الرسول (صلى الله عليه واله)، حيث قال: (اللهم ارحم خلفائي)[109] ونواب الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، حيث أمر بالرجوع إليهم في الحوادث الواقعة، فلا ينفذ رأي فقيه واحد إلاّ على مقلديه)[110].
وبعبارة أخرى: فان أدلة النصب أو الاذن أو الحجية شملتهم بنحوٍ واحد فانها العمومات والإطلاقات وهي شاملة لهم جميعاً، مع وضوح بطلان المحتملات الأخرى، كدعوى ان النافذ حكمُهُ منهم هو الممسك بزمام السلطة فانه ترجيح بوجه لم يرد في آية ولا رواية، كما انه ترجيح بأمر لا مرجّحية له عقلاً ولا شرعاً وذلك لابتناء الشريعة على قوة المنطق لا منطق القوة، فهل يصح القول – مثلاً – ان هذا الفقيه لأنه الممسك بالسلطة هو الولي فله مصادرة رأي سائر الفقهاء فإذا قام أحد الفقهاء – فرضاً – بانقلاب عليه كان هو الولي وله حق مصادرة آراء سائر الفقهاء بما فيهم المنقلب عليه؟! ان ذلك هو منطق الغاب ليس إلا!!
لا يجوز الاستبداد في الحكم
وقال: (لا استبداد في الحكم
س: ما هو نوع الحكم في الإسلام؟ وهل يجوز الاستبداد في الحكم؟
ج: الحكم في الإسلام بالنسبة لغير المعصومين عليهم السلام هو بأكثرية الآراء وبالشورى، كما يجب توفر بقية الشروط الشرعية أيضاً، ولا يجوز الاستبداد في الحكم)[111]. وكيف يجوز الاستبداد في الحكم وقد قال تعالى: {وامرهم شورى بينهم} وكيف تجتمع الشورى مع الاستبداد؟ وهل ذلك إلا كاجتماع العدالة مع الفسق أو الظلم مع العدل أو النار مع الماء؟!
وقال الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة (والفرق بين عبودية السلطان وعبودية علماء السوء والأحبار، أن النوع الأول مبني على القهر والغلبة والثاني مبني على الخدعة والتدليس، ولذا اختلف التعبير عن النوعين في الآيات والأخبار، حيث عبّرت النصوص عن النوع الأول بـ {عبّدت بني إسرائيل} و "اتخذتهم الفراعنة عبيداً"، وعن النوع الثاني بـ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. وفي الحقيقة إن منشأ الاستعباد في النوع الثاني هو تملك قلوب الأمة لا غير.
ومن هنا تظهر جودة استنباط بعض علماء الفن عندما قسم الاستبداد إلى استبداد سياسي وآخر ديني وربط كلاًّ منهما بالآخر، واعتبرهما توأمين متآخيين يتوقف أحدهما على وجود الآخر.
وقد اتضح أيضاً أن قلع هذه الشجرة الخبيثة والتخلص من هذه الرقّية الخسيسة لا يكلفنا أكثر من الوعي والانتباه. وهو في النوع الأول أسهل منه في النوع الثاني الذي يصعب علاجه. وربما يؤدي أيضاً إلى صعوبة العلاج في النوع الأول أيضاً.
وواقعنا المتردي نحن الإيرانيين يجمع النوعين، وتختلط فيه الشعبتان، حيث شهد الاستبداد والاستعباد بكلا نوعيه، وسيأتي الكشف عن حقيقة الخلط بين الاثنين وتقوّم الشعبتين ببعضهما، وعن صعوبة علاج الشعبة الثانية وسراية هذه الصعوبة إلى الشعبة الأولى.
وبالجملة، فإن انقياد الشعب إلى الطواغيت وقطاع الطرق ليس ظلماً وحرماناً لنفس الشعب من الحرية التي هي أعظم المواهب الإلهية فحسب، بل هو بنص الكتاب المجيد وأوامر المعصومين (عليهم السلام) عبارة أخرى عن معبودية أولئك الجبابرة، والشرك بالذات الأحدية في المالكية والحاكمية بما يريد والفاعلية لما يشاء وعدم المسؤولية عمّا يفعل، إلى غير ذلك من الصفات الخاصة بالألوهية والأسماء القدسية الخاصة به جل شأنه.
كما أن الغاصب لهذا المقام لا يعتبر ظالماً للعباد وغاصباً لمقام الولاية من صاحبه فحسب، بل هو غاصب للرداء الكبريائي الإلهي وظالم للساحة الأحدية، وعلى العكس منه فالتحرر من الرقّية الخبيثة الخسيسة علاوة على كونه موجباً لخروج الأمة من النشأة النباتية والورطة البهيمية إلى عالم الشرف والمجد الإنساني، فإنه يعدّ من مراتب التوحيد ولوازم الإيمان بالوحدانية في مقام الأسماء والصفات الإلهية الخاصة، ولهذا كان استنقاذ حرية الأمم المغصوبة وتخليص رقابها من الرقّية المنحوسة، والإنعام عليها بالحرية من أهم مقاصد الأنبياء)[112].
وقال: (وعلى هذا الأساس فإن السلطة الإسلامية لابد وأن تتحدد بعدم الاستئثار والاستبداد كحد أدنى، مع غض الطرف عن أهلية المتصدي وما يلزمه من العصمة وغيرها من الأمور التي يختص بها مذهبنا، فإن هذا هو القدر المتيقن بين الفريقين والمتفق عليه من قبل الأمة. ولا ريب أنه من ضروريات الدين الإسلامي.
ولما كان حفظ هذه الدرجة المتيقنة بين الأمة مما يمكن القيام به عادة بحسب القوة البشرية، وليس كما هي عليه سائر المراتب التي يختص بها مذهبنا ويتعذر حفظها إلاّ مع العصمة، لذلك فإن الحفاظ عليها واجب بأي شكل أمكن، خاصة إذا كان المتصدي غاصباً، فحينئذ لا يحق لأي مسلم يظهر الشهادتين أن ينكر وجوب ما قلناه، إلاّ أن يخرج من ملتنا ويدين بغير ديننا).[113]
19- لا ولاية إلا لشورى الفقهاء
أي انه لا ولاية للفقيه أبداً حتى مع تلك الحدود والقيود السابقة والآتية، بل الولاية لأكثرية شورى الفقهاء محدودة بالحدود السابقة.
قال السيد رضوان الله عليه:
(فالأمور العامة للأمة، السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو ما أشبه، يلزم أن تكون بالشورى والأكثرية، لحكومة أدلة الشورى على أدلة التقليد، حيث إن كل فرد يقلد مرجعه في أمثال الأمور الفردية كالصلاة والبيع والإرث ونحوها، أما الأمور التي تعم المسلمين كالحرب والسلم والمعاهدات الدولية ونصب القضاة وغير ذلك فاللازم الأخذ بما وصلت إليه أكثرية آراء المراجع في شورى الفقهاء).
التعليق: (الحكومة)[114] مبنية على القول بان متعلق الشورى هو نفس متعلق الأمر الوارد بالتقليد في الجملة أي مع كون النسبة بينهما من وجه، ووجه الحكومة هو ناظريتها لها عرفاً[115].
أما لو قلنا بالتباين بان قلنا بان أدلة الشورى ظاهرة في الموضوعات لقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} فان ظاهر أمرهم هو الموضوعات التي تتعلق بهم، وكذا لو قلنا بانصرافها إليها، وقلنا بأن أدلة التقليد ظاهرة أو منصرفة إلى الأحكام، فلا حاجة للتمسك بالحكومة أو غيرها إذ لكل من أدلة الشورى وأدلة التقليد موضوع مستقل ومجال خاص.
وقد يقال بتخصيص أدلة الشورى لأدلة التقليد لو قلنا بظهور أو انصراف الأولى للموضوعات وشمول أدلة الثانية للأحكام والموضوعات.
وقال في المسألة 3503: (تشخيص الأحكام العامة وموضوعاتها، والعناوين الثانوية العامة وإجرائها في المجتمع، يتوقف على تأييد شورى الفقهاء المراجع)[116].
والعبارة صريحة في ان شورى الفقهاء هو المرجع في أمور أربعة:
1- موضوعات الأحكام العامة.
2- نفس الأحكام العامة.
3- العناوين الثانوية العامة – لا الخاصة فإن امرها عائد للمكلف نفسه.
4- تنفيذ وإجراء العناوين الثانوية العامة.
وقال: (س: هل يحق لفقيه منع فقيه آخر من إبداء وجهة نظره في المسائل الفقهية والاجتماعية والسياسية؟
ج: لا يجوز إطلاقاً)[117].
وقال: (س: إذا كان الفقيه حاكماً على المسلمين وبيده زمام السلطة هل يجب على غيره من الفقهاء أن يطيعوا حكمه؟
ج: لا، وإنما اللازم شورى الفقهاء المراجع).
وأمرهم شورى بينهم:
وقال الإمام الشيرازي في كتاب (الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية والرفاه والسلام):
(جعل الإسلام في موازينه السياسية (الشورى) حين لم تكن ديمقراطية في أي بلدان العالم، حيث قال سبحانه: (وأمرهم شورى بينهم) (الشورى: 38)
فما دام النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الإمام المعصوم (عليه السلام) موجوداً فلا حق لأحد في ردّه ـ لأنهُ منصوب من قبل الله سبحانه ـ كما لا حق لأحد في رد الأحكام الإسلامية كالصلاة والصيام وغير ذلك.
وأما في عصر الغيبة ـ كعصرنا هذا ـ فإن الحكم يكون بالقيادة المرجعية الجماعية المنتخبة من قبل المسلمين، وقد ذكرنا في جملة من كتبنا: أن (الفقهاء المراجع العدول) هم أعلى قيادة في البلاد الإسلامية، حيث ينتخبهم الناس، فإذا كان في البلاد الإسلامية مثلاً عشرة مراجع للتقليد بأن انتخبهم الناس مراجع لهم، حسب قول الإمام (عليه السلام): (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)[118].
وقول الرسول (صلّى الله عليه وآله) ـ قبل ذلك ـ: (اللهم ارحم خلفائي)[119].
فكل هؤلاء قادة للأمة في أمور التقليد، فكل مقلّد يرجع إلى مرجعه في الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك أما في مصالح المسلمين العامة ـ كالصلح والسلم وسائر شؤون الدولة ـ فعلى السلطة العليا في الدولة المكونة من المراجع أن يستشير بعضهم بعضاً كما يستشيرون الأمة (على حسب تفصيل معروف).
وقد جعل علي (عليه السلام) للمسلمين حق المشورة عليه بأن يعطوه الرأي كما قال الله سبحانه وتعالى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) (آل عمران: 159).
فإن كانت الآراء مختلفة بين أقلية وأكثرية، فالأكثرية هي المتبعة وذلك حاكم على دليل (التقليد) حسب موازين الحكومة المذكورة في أصول الفقه.
وإذا لم تكن هناك أقلية وأكثرية بأن تساوى العددان ـ مثلاً ـ كانوا عشرة قد استقر رأي خمسة منهم على الحرب واستقر رأي خمسة منهم على السلم فمقتضى القاعدة (القرعة) لأنها لكل أمر مشكل حسب ما ورد في روايات عديدة.
ثم اللازم اتباع الأكثرية ـ فيما لو حدثت هناك أقلية وأكثرية ـ فليس لأحد من السلطة العليا أو الأمة عدم اتباع الأكثرية، فإن الاستشارة ليست لأجل تطييب الخاطر فقط ثم يمشي كل في طريقه وإلا كانت الدكتاتورية بعينها.
ولا يخفى أن من أهم أسباب هزيمة المسلمين في هذا القرن: استبداد الحكام، فأنهم يأتون إلى الحكم إما بالوراثة، أو بالانقلاب العسكري، أو يأتون بالثورات الشعبية، لكنهم يستبدون بالأمر بعد ذلك، ويحكّمون الدكتاتورية، ويقتلون المعارضين ويسجنونهم في السجون ويعذبونهم ويصادرون أموالهم، إلى غير ذلك مما هو مشاهد في بلاد الإسلام.
بينما نرى نجاح الإسلام سابقاً معتمداً على الاستشارية، حتى أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) ـ على عظمته ـ كان يستشير وقد أخذ برأي أصحابه في قصص معروفة.
والاستشارة هي إحدى موازين الحاكم الصالح بأن يستشير في كل شيء، وفي التاريخ أنه نادى أحد الحكام المسلمين فقهاء عصره وطلب منهم الدعاء إلى الله لينصر جيشه على الأعداء، فلما هُزم الجيش اخذ يعاتبهم قائلا: إنكم غير صالحين وإلا لما رد الله دعاءكم خائباً!!
فقال له أحدهم: ليس العيب فينا نحن وحدنا ولكنه فيك أنت أيضاً!!
فدهش الحاكم وقال له: لم؟
قال العالم: لأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشك أن يسلط الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم).
فأنت نشرت الفساد والظلم ونحن قصرنا في إعطاء الرأي وهذه الهزيمة هي غضب الله علينا أجمعين.
وفي أثناء الفتح الإسلامي لأرض فارس طلب قائد جيش الفرس أن يلتقي بالقائد المسلم قبل المعركة ليتفاوض معه في حقن الدماء، وبعد أن عرض الفارسي مقالته قال المسلم: أمهلني حتى استشير القوم، فدهش القائد الفارسي وقال: ألست أمير الجند؟
قال: نعم.
قال الفارسي: لكنا لا نؤمر علينا من يشاور.
فقال له المسلم: لهذا نحن نهزمكم دائماً، أما نحن فلا نؤمر علينا من لا يشاور.
وقضايا استشارات المسلمين موجودة في التاريخ بكثرة، ولو جمعت لكانت كتاباً ضخماً) انتهى.
ويقرب مما ذكره الإمام الشيرازي في بعض جهاته، ما صرح به الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة قال: (الأول: كما علمت فإن حقيقة السلطة الإسلامية هي الولاية على مجريات سياسة أمور الأمة ومعرفة حدودها ومقوماتها، وبما أنها تعتمد مساهمة جميع أفراد الشعب في أمور البلاد كأصل مسلّم به، لذا فهي تكرّس مبدأ التشاور مع عقلاء الأمة وهو ما يسمى بالشورى الشعبية العامة، ولا تنحصر بالتشاور مع بطانة الوالي وخاصته ومقرّبيه، وقد نص القرآن الكريم على مبدأ الشورى وثبّتته السيرة النبوية المقدسة كأحد أهم مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وبقيت هذه السنة محفوظة إلى أن تولّى معاوية أمر الخلافة. والآية الكريمة: {وشاورهم في الأمر}[120] تدل دلالة واضحة على هذا المعنى حيث تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو العقل الكل ومعدن العصمة، وتأمره بالتشاور مع عقلاء الأمة. والظاهر من الآية بالضرورة أن مرجع الضمير يعود على جميع أفراد الأمة، من المهاجرين والأنصار قاطبة.
وأما تخصيصها بالعقلاء وأرباب الحل والعقد فهو من باب الحكمة ودلالة القرينة على المقام، لا من باب الصراحة اللفظية ودلالة الكلمة في الأمر؛ ذلك لأن الكلمة تفيد العموم، وتدل على أن ما يتشاور بخصوصه هي الأمور السياسية، وأما الأحكام الإلهية فإنها لا تدخل في نطاق هذا العموم، وخروجها عنه من باب التخصص لا التخصيص)[121].[122] و(وفي صفين بعد أن عدّ أمير المؤمنين حقوق الوالي على الرعية وحقوق الرعية على الوالي خاطب أصحابه وكانوا يربون على الخمسين ألف نفر قائلاً:
"فلا تكلّموني بما تُكَلّم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفس، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل. فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل"[123].
وجدير بنا نحن الذين ندّعي التشيع أن نتمعن قليلاً في مفاد هذا الكلام المبارك ونتأمّله سعياً منا لأدراك الواقع وبلوغ الحقيقة وإلغاء الأغراض النفسية، وأن نعي عمل الإمام في رفع هيبة الخلافة وجلال مقامها عن قلوب الأمة ومنحها أعلى درجات الحرية وترغيب الناس في إبداء أي اعتراض أو مشورة، وكيف أنه عدّ المشورة في عداد حقوق الوالي على الرعية أو الرعية على الوالي، ونمعن النظر في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "أشيروا عليّ أصحابي"، لنتبين السر في ذلك كله. فهل الاهتمام بأمر الشورى من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأجل أن لا يقع في الخطأ وهو على ما هو عليه من درجة العصمة الرفيعة التي تغنيه عن العالم بأجمعه فيما يتعلق بإصابة الأمر الواقع؟! حاشاهم الله عن ذلك.
إذن للحيلولة دون وقوع الاعتداءات المتعمدة، كحد أدنى، يتحتم علينا أن نصون هذا الأصل الذي يكفل لنا السعادة والخير، وإذا كان لابد من العمل بمبدأ الشورى وتكريس الحرية والمساواة بالنسبة للحكومة الشرعية القائمة على أساس الولاية احترازاً وتنزيهاً من حصول شبه ظاهري مع الحكومات المستبدة والطاغوتية، فإن هذا الكلام يتعين بدرجة أكثر فيما إذا كان المتصدي غاصباً لمسند الخلافة، وإذا كان الغرض من ذلك إرشادياً ولتعليم الأمة ولأجل أن يكون مثالاً يحتذى به أو معيناً لمسيرة الولاة والقضاة والعمال، ولغرض إلزامهم بالسير على هذا النهج وعدم التخلف عن هذا الدستور العملي، فيلزمنا إذن تعلّم هذا الدرس البليغ حتماً.[124]
20- لا ولاية للفقيه إذا لم ينطبق عليه أحد العناوين العامة
قال السيد الشيرازي: (لكن لا يخفى أنه لا بد من انطباق أحد العناوين العامة على طلب الحاكم الشرعي في وجوبه على المالك، وإلا لم نقل بذلك في غير الولي المطلق، إذ من المشهور عدم صحة المصالح المرسلة في نظر الشيعة، ومما تقدم تعرف أنه لا فرق بين كون الثمرة مخروصة على المالك أم لا في صورتي وجوب إجابته وعدم الوجوب).
والعناوين العامة هي من قبيل لا ضرر ولا حرج و{جزاء سيئة سيئة مثلها} وقاعدة الإلزام النوعية، اما الشخصية فأمرها بيد كل مكلف بعد أخذ الفتوى والحكم الكلي من الفقيه.
21- لا ولاية للفقيه إذا أُحِرز خطؤُه أو عصى وأذنب
قال السيد الشيرازي قدس سره في موسوعة الفقه: (أما الفقيه فليس بمعصوم فيحتمل فيه العصيان، كما يحتمل فيه الخطأ والنسيان، فاللازم أن يحدد له الحد حتى يُعرف خلافُه إذا خالف، فإن خالف عصياناً عزل عن الرئاسة إن كان انتخب، ولم تنفذ إجازته إن كان أجاز بدون كونه رئيساً، وإن خالف خطأً نُبّه على ذلك، وكيف كان فاشتراط أن لا يتجاوز الحد آت هنا كما يأتي في الإقطاع أيضاً)[125].
وقال:[126] (لكن مثل هذا الحكم الثانوي لا يكون قانوناً، بل يبقى حكماً ثانوياً مقدراً بقدره، لقاعدة: الضرورات تقدر بقدرها، فاذا ارتفعت الحالة الثانوية، لزم على الفقيه ارجاع الامر إلى ما كان، ولو لم يرجع لاشتباه ونحوه انتهى مفعول أمره بالنسبة إلى الحكم الثانوي، حاله حال ما اذا علم اشتباه الفقيه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فقد اقتطعت له قطعة من النار) ـ كما في كتاب القضاء ـ([127])) انتهى.
وبعبارة أخرى: حجية نظر الفقيه طريقية لا موضوعية لها في قبال حكم الله الواقعي فإذا أحرز خطؤه لم يكن حجة، وكذا نفوذ حكمه وولايته فانه نُصِب – على تقدير النصب – أو أُذن له أو وكّل ليحكم بالحق وبما فيه المصلحة فإذا علم انه حكم بالباطل – عالماً عامداً أو جاهلاً مقصراً أو جاهلاً قاصراً – أو حكم بما هو خلاف المصلحة فانه لا وجه عقلي أو عقلائي أو شرعي لنفوذ حكمه ولعموم ولايته حتى لهذه الصورة، فانه حتى لو فرض وجود دليل عام فانه منصرف قطعاً عن هذه الصورة وذلك لمناسبات الحكم والموضوع وللغرض من نصبه وولايته أو الاذن له فإن الشمول لصورة حكمه بالباطل مناف للغرض من نصبه ولمخالفته للأدلة المسلمة من {ومن لم يحكم بما أنزل الله }. و{فإذا حكم بحكمنا} وغير ذلك ومع القطع بانه حكم بالباطل فليس مما أنزل الله ولا من (حكمهم) ثبوتاً ان اريد من (بحكمنا) ما هو كذلك في نفس الأمر كما هو ظاهر الألفاظ، بل ولا من حكمهم إثباتاً حسب ما يراه القاطع والقطع حجية ذاتية على المشهور بل وكذا لو تم لديه الدليل المعتبر على انه ليس (حكمهم) إلا ان يحمل (حكمهم) أي بحسب الحجة لديه فلا يخرج إلا العالم العامد أو المقصر دون المجتهد القاصر إلا على دعوى انصرافها عن الشمول للمجتهد أو مقلد المجتهد الآخر الذي يرى العكس وانحصارها برد ما حكم به الفقيه، تشهياً أو من غير حجة مطلقاً. فتأمل
22- لا ولاية للفقيه في أكثر من مقدار الضرورة
وقال رضوان الله عليه في موسوعة الفقه كتاب اللقطة: (نعم لا إشكال في أنه إذا اقتضت الضرورة جاز، لكن اللازم أن يكون ذلك أولاً بقدر الضرورة، لأن الضرورات تقدر بقدرها، وثانياً: يجب أن يكون تحت نظر شوری الفقهاء، إذ لا ينفذ حكم فقيه في حق مقلدي فقيه آخر، نعم ينفذ في حق مقلديه، كما أن من الواضح أنه لا حق للفقيه أو شوری الفقهاء في أصل السجن إذا أمكن الاستيثاق بدونه كأخذ الكفيل ونحوه)[128].
وقال في الفقه السياسة – كما سبق نقله أيضاً – (لكن مثل هذا الحكم الثانوي لا يكون قانوناً، بل يبقى حكماً ثانوياً مقدراً بقدره، لقاعدة: الضرورات تقدر بقدرها، فاذا ارتفعت الحالة الثانوية، لزم على الفقيه ارجاع الامر إلى ما كان، ولو لم يرجع لاشتباه ونحوه انتهى مفعول أمره بالنسبة إلى الحكم الثانوي، حاله حال ما اذا علم اشتباه الفقيه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فقد اقتطعت له قطعة من النار) ـ كما في كتاب القضاء ـ([129]).
23- لا ولاية للفقيه إذا لم يراع الاحتياط الوجوبي
قال قدس سره في كتاب الحكم في الإسلام[130]: (ثم ان اللازم على الرئيس مراعاة الاحتياط بكل حزم ورؤية، فان منصبه اخطر من منصب القاضي، وقد ورد فيه روايات شديدة.
فعن النبي صلى الله عليه وآله قال: من جُعل قاضياً ذبح بغير سكين.
وقال امير المؤمنين عليه السلام (في رواية اسحاق بن عمار): يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه الا نبي أو وصي نبي أو شقي.
اقول: المراد بوصي النبي اعم من كل مأذون كما لا يخفى.
وفي رواية البرقي: عن أبي عبدالله عليه السلام قال: القضاة اربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم انه قضى بجور فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو يعلم فهو في الجنة.
ورواية الصدوق في الفقيه: من حكم في درهمين بغير ما انزل الله عز وجل فقد كفر بالله.
وفي رواية اخرى: من حكم في درهمين فأخطأ كفر[131].
وفي رواية ثالثة: اذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه ولمن عن يساره ما ترى ما تقول فعلى ذلك لعنة الله والملائكة والناس اجمعين.
وفي صحيحة ابي بصير: من حكم في درهمين بغير ما انزل الله فهو كافر بالله العظيم.
وفي رواية انس عن النبي صلى الله عليه وآله: لسان القاضي بين جمرتين من النار حتى يقضي بين الناس، فأما في الجنة واما في النار.
وفي رواية سعيد، قال ابو عبدالله عليه السلام لابن ابي ليلى القاضي: ما تقول اذا جيء بارض من فضة وسماء من فضة ثم اخذ رسول الله بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال: يارب ان هذا قضى بغير ما قضيت، الى غيرها من الروايات الكثيرة.
وقد ورد في خصوص الحكم ما رواه الدعائم، عن علي عليه السلام انه قال: كل حاكم يحكم بغير قولنا اهل البيت فهو طاغوت. وقرأ: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}. انتهى كلامه رفع مقامه.
وعليه: فلو لم يفحص الفقيه الحاكم عن الشأن العام كالحرب والسلم والمعاهدات الدولية وشبه ذلك أو لم يستوف شروط الفحص بالمقدار العقلائي المعذّر كما لو لم يستشر بالمقدار الوافي مع أهل الخبرة ومع أهل الحل والعقد فاتخذ قراراً بإعلان حرب أو عقد هدنة أو معاهدة أو إقرار حكم ثانوي كإغلاق الحدود مؤقتاً أو وضع بعض الضرائب لدى الضرورات القصوى مؤقتاً، فان قراره غير نافذ وولايته في هذا الأمر باطلة بل يسقط عن الولاية إذا فعل ذلك عالماً عامداً فانه معصية كبيرة.
ومن الظاهر ان مقصود السيد (قدس سره) من الاحتياط في عبارته، هو الاحتياط الواجب لا المستحب.
من أنواع الاحتياط الواجب
والاحتياط الواجب له صور عديدة:
منها: الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي المنجزّ.
ومنها: الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص.
ومنها: الاحتياط في الشبهات الموضوعية قبل الفحص، فان رأيه قدس سره هو لزوم الفحص حتى في الشبهات الموضوعية الفردية فكيف بالاحتياط في الشبهات الموضوعية في الشؤون العامة فانها من الأمور الخطيرة التي يقول بلزوم الفحص فيها حتى من يرى عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية، ولذا قالوا بلزوم الفحص في البلوغ لو شك انه بلغ أم لا مع ان الاستصحاب على العدم، وبلزوم الفحص في تعلق الخمس به في رأس السنة إذا شك في زيادة ما له عن ما خمسّه العام الماضي مع ان الأصل عدم الزيادة، وكذا قالوا بلزوم الفحص عن حصول الاستطاعة أو النصاب أو شبه ذلك.
24- لا ولاية للفقيه إذا لم يتأس بالمعصومين (عليهم السلام)
قال الإمام الشيرازي في الفقه العولمة: تحت عنوان (الحكم والتأسي بالمعصومين (عليهم السلام)):
(مسألة: يجب على الحكومة الإسلامية والحاكم الإسلامي أن يتأسوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النزاهة والأمانة أيام إدارة الحكم.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها.
والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً وكرر عليّ القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدةً ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أ تئن من الأذى ولا أئن من لظى؟
وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة فذلك محرم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول أعن دين الله أتيتني لتخدعني أمختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين»([132]).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «في قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة)([133]) يا معاشر شيعتنا اتقوا الله واحذروا أن تكونوا لتلك النار حطبا وإن لم تكونوا بالله كافرين فتوقوها بتوقي ظلم إخوانكم المؤمنين، وإنه ليس من مؤمن ظلم أخاه المؤمن المشارك له في موالاتنا إلا ثقل الله في تلك النار سلاسله وأغلاله ولن يكفه منها إلا بشفاعتنا ولن نشفع إلى الله تعالى إلا بعد أن نشفع له في أخيه المؤمن فإن عفا شفعنا وإلا طال في النار مكثه»([134]).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أرضى الخصماء من نفسه وجبت له الجنة بغير حساب، ويكون في الجنة مدائن من نور، وعلى المدائن أبواب من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وفي جوف المدائن قباب من مسك وزعفران، من نظر إلى تلك المدائن يتمنى أن يكون له مدينة منها، قالوا: يا نبي الله لمن هذه المدائن؟ قال: للتائبين النادمين المرضين الخصماء من أنفسهم، فإن العبد إذا رد درهما إلى الخصماء أكرمه الله كرامة سبعين شهيدا، فإن درهما يرده العبد إلى الخصماء خير له من صيام النهار وقيام الليل، ومن رد درهما ناداه ملك من تحت العرش يا عبد الله استأنف العمل فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك»([135])).
ومن الواضح انه حيث وجب التأسي برسول الله (صلى الله عليه واله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في النزاهة والأمانة أيام الحكم، كما صرح قدس سره به، فان الفقيه لو ترك التأسي بهما فَعَل حراماً فلا ولاية له ولا تجب إطاعته إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولأنه صرح – كما سبق – بان ولاية الفقيه إنما هي في إطار أحكام الإسلام ومنها وجوب التأسي بهما أيام حكمه.
كما ان من الواضح انه ليس المراد من وجوب التأسي بهما صلوات الله عليهم التأسي وجوباً بما علم فعلهما له استحباباً، ولا التأسي وجوباً فيما جهل الوجه من فعلهما إذ الفعل لا جهة له إلا ان يندرج في العنوان والمحصّل أو يدل عليه (الغرض) المعلوم وجوبه بحكم العقل أو غيره وان لم يتعلق به الأمر، أو شبه ذلك، فتدبر جيداً.
25- ولاية الفقيه خاضعة للرقابة الاجتماعية ومقيدة بالقوانين
وبتعبير آخر: فان ولاية الفقيه محكومة بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ان ولاية الأب والجد وكذا ولاية المتولين على الأوقاف وغيرها محكومة بأدلة الأمر والنهي أي انها ناضرة لها متقدمة عليها.
والحاصل: ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروع الدين، اما ولاية الفقيه فهي على فرض ثبوتها فانها من الأحكام الاجتهادية ومن دائرة الأحكام الشرعية ومن البديهي ان مرتبة فروع الدين تأتي بعد أصول الدين وقبل الأحكام الشرعية وان المكلف مهما كانت مرتبته ومكانته فانه ليس بفوق أن يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر بل ان الردع عنهما – بان يترفع الفقيه فرضاً عن ان يأمره الناس بل حتى أصاغرهم بالمعروف أو ينهونه عن المنكر – هو في حد ذاته منكر يعاقب عليه، فماذا ترى في فقيه يعاقب الناس بالسجن أو الملاحقة على نهيهم إياه عن المنكر أو على أمرهم بالمعروف؟
وعن ذلك قال الإمام الشيرازي في الفقه السياسة: [136] تحت عنوان (ترويض القدرة):
(الامر الرابع) القدرة من طبيعتها الطغيان، قال سبحانه: «ان الانسان ليطغى ان رآه استغني»([137]). وقال علي عليه السلام: (من ملك استأثر)([138]).
وقال الشاعر:
الظلم من شيم النفوس فان تجد..........ذا عفة فلعلة لا يظلم
ولذا فكر عقلاء العالم منذ القديم في ترويض القدرة، كما فكروا في الوقوف أمام طغيان البحر، والكوارث الطبيعية، وهناك مناهج لهذا الترويض نذكر منها ثلاثة:
(الاول) الترويض الديني ويعتمد على عاملين:
(1) العامل الداخلي بتهذيب النفوس، وتخويفها من عذاب الله سبحانه، وهذا مقدم على كل شيء، ولذا قال سبحانه: «يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة»([139]) وهذه الرقابة ـ اذا حصلت ـ فهي من أشد الرقباء دقة ومحاسبة وضبطاً. قال عليه السلام: (وكيف اظلم أحداً بنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها)([140]).
وقال: (والله لان أبيت على حسك السعدان مسهّداً واجرّفي الاغلال مصفداً أحب إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام)([141]). إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تدل على جريان آثار النفس المرباة المؤدبة على جوارحها، بحيث تكفّها عن الظلم، بخلاف النفس غير المرباة التي تنضح منها الانانية والكبرياء.
قال يوسف النبي عليه السلام: «رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض انت وليي في الدنيا والاخرة توفني مسلماً والحقني بالصالحين»([142]).
وبالعكس من ذلك، قال فرعون: «اليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتي»([143]) فالملك له، ومبعث الخيرات من تحته. أما يوسف عليه السلام فملكه من الله، وعلمه من الله، والملك كله لله لانه فاطره، وهو المشرف عليه في الدنيا والاخرة، ومنتهى رغبته ان يبقى مسلماً صالحاً إلى حين الممات.
(2) العامل الخارجي، بالقوانين التي توقف الانسان عند حده، وقوانين عقوبات الجنايات، وقوانين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعدم تطبيق الناس لهذه القوانين، حتى طغت قدرة الحكام وفعلوا ما يشاؤون (وبمعاونة نفس الناس الذين كان من المفروض ان يكونوا عوناً على الحكام، لا للحكام على الناس) ذنب الناس لا ذنب القانون، كما ان عدم تطبيق الناس لقوانين الديمقراطية (عند من يؤمن بها) حتى صار الاستغلال الداخلي والاستعمار الخارجي، ذنب الناس، لا ذنب الديمقراطية.
مع فارق بين الدين الاستشاري التربوي، والديمقراطية، هو ان الدين مستوعب لجانبي الروح والجسد، وفي جانب الجسد مستوعب لكل ما يصلح، بينما الديمقراطية خاصة بجانب الجسد، فليس لها جانب روحي، وفي جانب الجسد ـ ايضاً ـ حكمها ناقص وليس بمستوعب، فالديمقراطية تعطي ربع الاصلاح بينما الدين (ونقصد الاديان السماوية غير المحرفة) يعطى الوحدة الكاملة للاصلاح).
وقال الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة (ويتقوّم هذا النوع من السلطة بالولاية والأمانة، ولذا فهو كسائر الأمانات والولايات مشروط بعدم التجاوز ومقيد بعدم التفريط، والعامل الذي يحفظ هذا النوع ويحول دون انقلابه إلى مالكية مطلقة ويردعه عن التعدي والتجاوز إنما هو المراقبة والمحاسبة والمسؤولية الكاملة، ولذا اعتبرت العصمة في مذهبنا ـ نحن معشر الإمامية ـ شرطاً في الوليّ؛ فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة والحيلولة دون الاستبداد وتحكيم الشهوات). وغاية ما يمكن إيجاده ونهاية ما يتصور اطراده كبديل بشري طبيعي عن تلك العصمة العاصمة ـ حتى مع مغصوبية المقام[144] ـ هو حل بمثابة المجاز عن تلك الحقيقة وظل لتلك الصورة. ويتوقف هذا الحل على أمرين:
1ـ إيجاد دستور وافٍ بالتحديد المذكور، بحيث تتميز الوظائف التي يُلزم السلطان بإقامتها عن المجالات التي لا يحق له التدخّل فيها والتصرف بها. ويتضمن أيضاً كيفية إقامة تلك الوظائف وإيضاح درجة استيلاء السلطان وحرية الأمة وما لفئاتها وطبقاتها من حقوق، على وجه يكون موافقاً لمقررات المذهب ومقتضيات الشرع؛ بحيث يكون الخروج عن عهدة هذه الوظيفة والإفراط أو التفريط في هذه الأمانة إفراطاً خيانة ـ كسائر أنواع الخيانة بالأمانات ـ موجبة للانعزال عن السلطة بشكل رسمي وأبدي، وتترتب عليها سائر العقوبات المترتبة على الخيانة.[145]
(2ـ إحكام المراقبة والمحاسبة، وإيكال هذه الوظيفة إلى هيئة مسددة من عقلاء الأمة وعلمائها الخبراء بالحقوق الدولية المطلعين على مقتضيات العصر وخصائصه، ليقوموا بدور المحاسبة والمراقبة تجاه ولاة الأمور الماسكين بزمام الدولة، بغية الحيلولة دون حصول أي تجاوز أو تفريط، وهؤلاء هم مندوبو الأمة والمبعوثون عنها، ويمثلون قوتها العلمية، والمجلس النيابي عبارة عن المجمع الرسمي المكون منهم، ولا تتحقق وظيفتهم من المحاسبة والمراقبة وحفظ محدودية السلطة ومنع تحولها إلى ملوكية، إلاّ إذا كان جميع موظفي الدولة وهم القوة التنفيذية في البلاد تحت نظارة ومراقبة هذه الهيئة، التي يجب أن تكون هي الأخرى مسؤولة امام كل فرد من أفراد الأمة، ويؤدي الفتور والتهاون في أداء هاتين المسؤوليتين إلى زوال التحديد المقصود للسلطة، وانتقاء حقيقة الولاية وصفة الأمانة عنها نتيجة لتحكم الموظفين واستبدادهم، وذلك في صورة انتقاء مسؤولية الموظفين أمام هيئة المبعوثين عن الأمة، أو عندما يسلك مندوبو الأمة طريق التحكم والاستبداد ولا يتحلون بروح المسؤولية أمام أفراد الأمة). [146]
و(ومن هنا نخلص إلى القول بأن الحفاظ على القدر المتيقن فيما يختص بتحديد السلطة الإسلامية وتقنينها، والذي يعدّ من ضروريات الدين الإسلامي ومما تتفق عليه الأمة الإسلامية بأجمعها، هو بحد ذاته من أهم الواجبات ومن أعظم نواميس الدين المبين ـ فيما إذا كان المنصب مغصوباً كما هو الحال في إيران ـ، أضف إلى ذلك أن هذا الأمر هو من ضروريات مذهبنا نحن الشيعة الإمامية، كما أنه يمكن إدراجه تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ نفوس المسلمين من الهلكة وأموالهم من التلف وأعراضهم من الهتك، ودفع ظلم الظالمين عنهم، وغير ذلك من العناوين).[147]
26- ولاية الفقيه مقيدة بغائية عمران البلاد وازدهارها
وعن ذلك يقول الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه تحت عنوان (مهمة الحاكم):
(مسألة: مهمة الحاكم والحكومة في الإسلام هي: إدارة البلاد والعباد، إدارة تؤدي إلى عمران البلاد وازدهارها، وصلاح العباد وتقدمهم تقدماً مطلوباً في جميع مجالات الحياة، ومن ذلك يلزم على الحاكم والحكومة أن تكون انتخابية واستشارية، ومتواضعة وخدومة، وحكومة الرسول (صلى الله عليه واله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) خير أسوة في ذلك.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في كتابه لمالك الأشتر لما ولاه مصر: (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباةً وأثرةً فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياة من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً وأقل في المطامع إشراقاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك:
ثم تفقد أعمالهم وأبعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من الأعوان.
فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة.
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله.
وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً فإن شكوا ثقلاً أو علةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبةً أنفسهم به فإن العمران محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر[148])[149]
وقال في الفقه العولمة (أهم واجبات الحاكم والحكومة،
مسألة: من أهم ما يجب على الحاكم والحكومة الإسلامية أن تتعامل مع شعبها أفضل وأنظف تعامل إنساني يمكن تعامله مع الشعوب، وذلك في جميع المجالات، وبما للكلمة من معنى) - انتهى.
وأخيراً: فان مما يجدر الالتفات إليه ان بعض القيود السابقة قد يعد من صغريات بعض القيود الأخرى والنسبة بينها العموم المطلق وقد تكون بعضها متداخلة بان تكون النسبة العموم من وجه، إلا ان وجه تخصيصها بالذكر هو أهميتها الفائقة فاستحقت لذلك ان تفرد بالذكر وهذا وجه من وجوه الحكمة واما البلاغة فان من المعروف في نظير مثل المقام عطف الخاص على العام أو العكس أو ما أشبه.
الفصل الثاني
مقارنات واستنتاجات وخلاصات
بين ولاية الفقيه لدى الإمام الشيرازي والديمقراطية (الاستشارية)
وبذلك ان نجد ان ولاية الفقيه في فقه الإمام الشيرازي في الوقت الذي تقرّ فيه بولايته في الشؤون العامة إلا انها لدى استعراض تفاصيلها ومعالمها بدقة نجدها تقترب من قول أولئك الفقهاء الذين ذهبوا إلى عدم ثبوت ولاية للفقيه خارج دائرة الأمور الحسبية، كما انها من جهة أخرى لا تتنافى مع الاستشارية بل هي ركن من أركانها كما انها لا تتنافى مع الديمقراطية إذا فسرناها بانها آلية من الآليات التي تحدد كيفية حكومة الناس أنفسهم بأنفسهم من غير قسر خارجي. دون ما إذا فسرناها بكون مصدر التشريع هو الناس لا الله تعالى.
وذلك لأن السيد قدس سره اشترط في ولاية الفقيه رضا الناس به، وهذا هو أساس الديمقراطية، فإذا لم يرض به الناس فلا ولاية له.
وبكلمة جامعة: انه يرى ان ولاية الفقيه متوقفة على رضا الناس حدوثاً وبقاءً: اما الحدوث فلانها منوطة برضا الناس واختيارهم واما البقاء فلأنهم لو عزلوه لما جاز له التصدي قسراً.
بل انه زاد على الديمقراطية انه اشترط في الولي الحاكم شروطاً مثالية كالعدالة والاجتهاد، فكما ان الديمقراطيات تشترط في انتخاب رئيس الجمهورية شروطاً – ككونه مولوداً في ذلك البلد وان يحمل جنسيته وكونه حاصلاً على شهادة التخرج[150] - ولا يجدون تنافياً وتعارضاً بين هذه الشروط والديمقراطية، كذلك اشتراط مثل العدالة والاجتهاد.
والحاصل: بكلمة جامعة: ان السيد الشيرازي يرى اشتراط هذه الشروط – الاجتهاد، العدالة، رضا الناس – في ولاية الفقيه فان فقد احدها فلا ولاية له.
اما الناس فلا يُكرهون على تقبل هذه الشروط بل لهم ان يقلدوا فقيهاً آخر.
بل لو انهم رفضوا التقليد لما كانت للفقيه ولاية عليهم ولما جاز له جبرهم بل غاية وظيفته ان يُذكّر للناس بما توصل إليه اجتهاده الفقهي بنحو القضية الحقيقية، وذلك كما صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما أعلن للناس ان صلاة التراويح بدعة محرمة وعندما خرجت مظاهرة احتجاج معارضة، لم يقمع المتظاهرين بل قال لمالك الأشتر (دعوهم وما يريدون ليصلّ بهم من شاءوا).
ونص الرواية كما في الحدائق الناضرة عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): (لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة أتاه الناس فقالوا له اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان فقال لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون ابكوا شهر رمضان واشهر رمضاناه!!، فأتى الحارث الأعور في أناس فقال يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك قال فقال عند ذلك دعوهم وما يريدون ليصل بهم من شاءوا. ثم قال: ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)[151].
والحاصل: ان ولاية الفقيه هي ولاية تعليقية وليست تنجيزية أي هي معلقة – بنظره قدس سره – على شروط كثيرة ومنها رضا الناس به فإذا لم يرضوا به فانه لا ولاية فعلية له، أو بتعبير آخر: ولايته شأنية وليست فعلية، وذلك نظير ما قاله بعض الفقهاء في منصب القضاء إذ قالوا بان الأئمة (عليهم السلام) قد نصبوا الفقيه الجامع للشرائط للقضاء لكنه لا يحق له جبرهم على الرجوع إليه مع ان أكثر أدلة ولاية الفقيه هي الأدلة في باب القضاء.
بل لقد ظهر مما مضى من الشروط ان ولاية الفقيه هي أدنى وأقل من ذلك أيضاً من بعض الجهات وان الفقيه اما لا ولاية له بوجه أبداً (كما في ما يخالف المصلحة العامة بل حتى فيما إذا لم تحرز، وكما في ما لا يدخل في إطار أحكام الإسلام أو ما يخالف الحريات التي منحها الله تعالى للناس، فأحكام الإسلام إذاً والمصلحة العامة والحريات الإسلامية الثابتة مقدّمة على ولاية الفقيه وغير ذلك) أو إذا كانت له فولاية شأنية لا فعلية إلا إذا رضي به الناس واختاروه.
وعليه: فلا يكون للفقهاء إذا لم يرض بهم الناس ولم يختاروهم إلا دور توجيهي وترشيدي ورقابي في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس إلّا، ويكون حالهم كحال أي مكلف من الناس حيث عليه التوجيه والرقابة في حدود قدرته كي لا يخالف الحكام العدل والإنصاف وسائر القوانين العقلية والشرعية.
(الولاية) مفهوم مؤسساتي وليس امراً فرديا
ويظهر من مختلف كتب الإمام الشيرازي، ومن بعض ما ذكرناه هنا، انه (قدس الله نفسه الزكية) لا يرى مفهوم الولاية مفهوماً فردياً بل يراه مفهوماً مؤسساتياً يلف نظام الدولة كله إذ يبدأ من شورى الفقهاء ويمر بالقوى الثلاث وبالمنظمات والأحزاب والعشائر حتى يصل إلى أصغر وحدة من وحدات مؤسسات المجتمع المدني، كما انه يراه مشروطاً بالاستعانة بالخبراء والمتخصصين ومراكز الدراسات وما إلى ذلك، وهذا ما يستدعي كتابة دراسة خاصة عن ذلك. ولنكتف ههنا بنقل نص واحد من نصوصه الكثيرة، فقد قال الإمام الشيرازي في كتاب الصياغة الجديدة: (حيث إن الدولة في الإسلام مبنية على الشورى في كل شؤونها، ومن الضروري تحكيم الشورى في الدولة الإسلامية وفي العالم أجمع، فيجب أن تكون كل الأمور ـ من القرية إلى العاصمة ومروراً بالمعمل والمصنع والمطار واتحاد الطلبة والمدارس والجامعات وغيرها ـ مبنية على الشورى، فإنها تظهر الكفاءات، وتقدم الضوابط وتزيل الروابط والرشاوي والمحسوبية والمنسوبية، وما أشبه، بينما الدكتاتورية بالعكس، فالشورى تنتهي بالمجتمع إلى القمة، والدكتاتورية تنزل به إلى الحضيض.
وفي الحديث: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان أكثر الناس استشارة.
كما تقدم أن علياً (عليه السلام) جعل من حق الأمة عليه أن يستشيرهم.
وفي أحاديث كثيرة إن من وظيفة المسلم (النصيحة) ويراد بها إعطاء المشورة والنصح لإمام المسلمين، كما أن من وظيفته النصح لغيره أيضاً ففي رواية عن علي (عليه السلام) أنه قال قال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أنسك الناس نسكاً أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً لجماعة المسلمين)[152].
وفي حديث قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من يضمن لي خمساً أضمن له الجنة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: النصيحة لله عز وجل، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله، والنصيحة لجماعة المسلمين)[153].
وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أعظم الناس منزلة يوم القيامة أفشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه)[154].) - انتهى
مقارنة بين ولاية الفقيه في الفقه الشيرازي وبين منكري ولاية الفقيه
ان ولاية الفقيه في فقه السيد الشيرازي تقترب بعد تقييده لها بتلك القيود الصعبة وربما النادرة التحقق، من رأي أولئك الفقهاء الذين اعتقدوا بعدم ثبوت ولاية للفقيه على أكثر من الأمور الحسيية التي تعني مجرد الولاية على القصّر والغيّب ومن أشبههم لتمشية أمورهم حسب الغبطة والمصلحة.
وذلك لأنه ارتأى ان ولاية الفقيه:
أولاً: لا تشمل سائر الفقهاء فلا ولاية له على سائر الفقهاء.
ثانياً: انها لا تشمل مقلدي سائر الفقهاء.
ثالثاً: انها مقيدة بموافقة أكثرية الفقهاء معه (في إطار شورى الفقهاء).
رابعاً: انها مقيدة بمراعاة المصلحة العامة.
خامساً: انها غير شاملة للشؤون الشخصية.
سادساً: انها خاصة بدائرة الأحكام الثانوية.
سابعاً: انها تخييرية لا تعيينة.
ثامناً: انها خاصة بما إذا لم يستبدّ بالأمر.
تاسعاً: انها خاصة بمقدار الضرورة.
عاشراً: انها غير شاملة لما إذا لم يُراعِ الاحتياط الوجوبي.
حادي عشر: انها لا تثبت له إذا لم يرض الناس به.
ثاني عشر: انها لا تثبت له إذا خرج عن مهمة الحاكم والحكومة وهي (إدارة البلاد والعباد، إدارة تؤدي إلى عمران البلاد وازدهارها).
ولعل الشرط – الحادي عشر - هو بيت القصيد في التقاء فقهه في ولاية الفقيه مع فقه الذين يرفضون ولاية الفقيه، إذ ان الظاهر ان الذين يرفضون ولاية الفقيه يرفضون ثبوتها بالأدلة العامة، كمنصب أو كحكم شرعي ابتدائي والأول حكم وضعي والثاني يراد به الحكم التكليفي، اما إذا جعل الناس الفقيه وكيلاً لهم في إدارة شؤونهم أو أذنوا له في ذلك فمن المستبعد ان يرفض أولئك الفقهاء صحة هذه الوكالة أو الاذن.
نعم يبقى الفرق انهم يرفضون ظاهراً صحة نصب الناس له ولياً، فيما يبدو من فقه الإمام الشيرازي انه يرى الولاية منصباً له لكنه مقيّد برضاهم فلو رضوا تمّ نصبه وإلا فلا حق له في تسنم هذا المنصب بل تبقى ولايته شأنية.
والظاهر ان الفرق على هذا اعتباري فقط، إذ لا أثر عملي له أبداً مع تقييد السيد الشيرازي لولايته بسائر الشروط التي عددنا اثني عشر شرطاً منها هنا، فانه مثلاً ما دام يحق لهم ان يعزلوا ويختاروا غيره فأي فرق عملي بين ان نقول بكونه وكيلاً عنهم أو ولياً عليهم باختيارهم؟
وكذلك: ما دامت ولايته مقيدة بمراعاة المصلحة العامة والاحتياط الواجب وفي دائرة الأحكام الثانوية فقط، فأي فرق بين كونه منصوبا بشرط رضا الناس أو مأذونا من قبلهم؟ فتأمل[155]
خاصة وان السيد الشيرازي يرى انه لا فرق بين الاذن والوكالة والنصب من حيث الظهور العرفي، كما صرح بذلك في موضع من الفقه.
والخلاصة: ان الذي ظهر لنا من تتبع مختلف كلمات الإمام الشيرازي انه يقول بالولاية التعليقية للفقيه لا الولاية التنجيزية أي انها معلقة على شروط ومنها رضا الناس بولايته وبتعبير آخر انه يقول بالولاية الشأنية لا الولاية الفعلية أي ان له صلاحية الولاية شرعاً لكن ولايته لا تكون فعلية إلا بعد تحقق كل تلك الشروط.
ولا ينافي ذلك قوله (عليه السلام): (فاني قد جعلته عليكم حاكماً) فانه:
أولاً هذه الرواية ترتبط بالقاضي لا الفقيه الحاكم.
وثانياً: على فرض التعميم فان (الجعل) أعم من الجعل التنجيزي والتعليقي أو الشأني والفعلي.
سلمنا لكنه ظاهر في التنجيزي الفعلي وأدلة الشروط نص فتتقدم عليه.
وبعبارة أخرى: (جعلته) ظاهر بإطلاقه في انه لا يشترط في فعليته أمر، فإذا دل دليل على شرط في الفعلية تقدم عليه كما هو مقتضى الصناعة.
الفوارق بين ولاية الفقيه وولاية المعصومين (عليهم السلام)
وبذلك ظهرت سلسلة من الفوارق الجوهرية بين ولاية الفقيه في فقه الإمام الشيرازي وولاية المعصومين عليهم صلوات المصلين، وهذه عناوينها:
1- ان للإمام (عليه السلام) ولاية تكوينية وليست للفقيه أي ولاية تكوينية.
2- ان للإمام (عليه السلام) ولاية تشريعية في الجملة اما الفقيه فلا ولاية تشريعية له أبداً.
3- ان للمعصوم ولاية في كافة الشؤون الشخصية للناس، ولا ولاية للفقيه على ذلك أبداً.
4- ان للمعصوم ولاية على كافة الخلق وليس للفقيه ولاية إلا على مقلديه ومن انتخبه وبحدود خاصة.
5- ان للمعصوم ولاية على جميع الفقهاء وليس للفقيه ولاية على سائر الفقهاء.
6- ان للمعصوم ولاية على مقلدي جميع الفقهاء وليس للفقيه ولاية على مقلدي سائر الفقهاء.
7- ان للمعصوم ولاية في غير الشؤون الثانوية أيضاً اما الفقيه فولايته منحصرة بالشؤون الثانوية.
8- ان للمعصوم ولاية في الأعم من دائرة المصلحة اما الفقيه فولايته منحصرة فيما لو اقتضت المصلحة فقط.
وليس معنى ذلك ان المعصوم يعمل عملاً بلا مصلحة أو بالضد من المصلحة بل بمعنى ان له ان يفعل لأنه مولى لكنه لا يفعل لأنه حكيم، فهو كالمالك الذي له ان يفعل بممتلكاته ما شاء – كحقٍ، لكنه لا يفعل ذلك إذا لم ير فيه المصلحة.
9- ان المعصوم منصوب بشخصه اما الفقيه فمنصوب بالنصب العام لا الخاص.
10- ان المعصوم منصوب من قبل الله تعالى بواسطة رسوله اما الفقيه فمنصوب أو مأذون من قبل الإمام (عليه السلام).
11- ان ولاية المعصوم التي هي بنصب إلهي لا تتوقف على رضا أحد وذلك كما ان ولاية الأنبياء (عليهم السلام) هي بنصب إلهي فلا تتوقف على رضا الناس، اما ولاية الفقيه فمشروطة برضا الناس.
12- ان ولاية المعصوم دائمية اما ولاية الفقيه فمؤقتة ومنوطة بحياته وبعدم عزل الناس له.
13- ان ولاية المعصوم فعلية منجزة اما ولاية الفقيه فشأنية معلّقة على اجتماع كافة الشروط الآنفة.
14- ان ولاية المعصوم تعيينية اما ولاية الفقيه فتخييرية.
15- ان ولاية المعصوم ليست متوقفة على الشورى اما ولاية الفقيه فهي متوقفة على انعقاد رأي أكثرية الفقهاء على ما صار إليه في الشؤون العامة.
16- ان ولاية المعصوم هي أصل اعتقادي، اما ولاية الفقيه فليست من الأصول الاعتقادية بل ولا حتى من فروع الدين بل انها من الأحكام الاجتهادية المختلف فيها كسائر الأحكام الاجتهادية.
إلى غير ذلك من الفوارق.
والحمد لله كثيراً وصلواته وتحياته على السراج المنير والبشير النذير وأهل بيته الأطيبين الأكرمين.
الفصل الثالث
وسائل ردع الحاكم والحكومة عن الظلم والاستبداد
حيث سبق ان ولاية الفقيه مقيدة بعدم الظلم والاستبداد وان الفقيه إذا ظلم أو استبد – والاستبداد من صغريات الظلم – سقط عن العدالة وعن الولاية، كان من المناسب ان نعقد فصلاً خاصاً لطرق وسبل وآليات منع مطلق الحاكم – فقيهاً كان فرضاً أو غيره – وأجهزة الحكومة عن الظلم والاستبداد، كما ذكرها الإمام الشيرازي في كتبه فانه قدس سره تطرق في العشرات من كتبه إلى وسائل وسبل وآليات منع الحاكم الإسلامي وغيره عن انتهاك حقوق الناس وتضييعها وعن الاستبداد والظلم والعدوان وبعض هذه الآليات مانعة حدوثا وبعضها مانعة بقاءً (أي دفعاً ورفعاً).
وهذه عناوين مجموعة من تلك الآليات ونقتطف بعدها بعض ما جاء في كتبه حول بعض تلك العناوين موكلين استيعاب جوانب البحث إلى كتاب مستقل:
1- حرية وسائل الإعلام كالصحافة والإذاعات والفضائيات وغيرها، باعتبارها السلطة الرابعة خاصة في نقد الحاكم والحكومة وتقييم أدائها، وذلك عبر تقنينها من جهة وعبر توفير ضمانات المحافظة على كل تلك الحريات من جهة أخرى.
2- ترشيد وتفعيل دور مؤسسات المجمع المدني، باعتبارها السلطة الخامسة، وتوفير الضمانات لحمايتها وحريتها.
3- استقلالية الحوزات العلمية، وتفعيل دورها التوجيهي والرقابي.
4- تفعيل دور العشائر باعتبارها القوة الموازية للجيش الذي يتخذه المستبدون – عادة – وسيلة للقمع والإرهاب.
5- السماح لجماعات الضغط والضغط المضاد بأداء أدوارها، باعتبارها من مصاديق سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6- حرية الناس في الاعتصام، والإضراب، والتظاهر، احتجاجاً على قرار أو إجراء أو موقف أو غير ذلك، من غير حاجة حتى إلى استصدار إذن أو مجوز من إحدى الجهات الرسمية.
7- حق الرقابة والمساءلة، للناس عامة ولممثلي الأمة ولمختلف مؤسسات المجتمع المدني وتأسيس جهات أو لجان متخصصة لذلك في مجلس الأمة وغيره.
8- إقرار نظام توزيع القدرة بين الأحزاب المتنافسة والتداول السلمي للسلطة.
9- للناس عامة في استفتاء شعبي ولمجلس الأمة خاصة – حسب ضوابط نوعية – حق عزل الحاكم.
10- منع اتخاذ الحاكم والمسؤولين حجّاباً يمنعون الناس من الوصول إليهم وتوفير ضمانات لوصول الناس والشكايات للحاكم والحكومة، مع وجود جهاز أو أجهزة رقابة وتقييم وضمان فعلية هذه المادة.
وإليكم مقتطفات من كلماته قدس سره في بعض كتبه حول بعض تلك البنود مع تصرف بسيط في العنونة أو في بعض العبارات.
قال الإمام الشيرازي في الفقه / السياسة ج106:
(اوعية الحرية
من الضروري تكوين الاوعية الخارجية للمحافظة على الحريات القانونية.
والاوعية، هي (وسائل الاعلام): الصحف، الراديو، التلفزيون، وما اشبه ذلك.
و(التجمعات والهيئات): الاحزاب، الجمعيات، الكتل، المنظمات.
و(المعاهد): المدارس، الكليات، الجامعات، و(مراكز الاشعاع الثقافي): المكتبات، الكتب، الافلام، والنوادي، إلى غير ذلك.
فان هذه هي التي ترعى القانون، وتحفظه عن خطر الديكتاتوريين، كما تحفظه عن خطر الفوضى والترجرج.
ثم اللازم أن يكون كل ذلك بنسبة معقولة، تستوعب كمية الحرية وكيفيتها بلا زيادة (فتكون هدراً) ولا نقصان (فتكون فوضى أو ديكتاتورية) حال ذلك حال المدرسة والطلاب، فاذا لم تكن المدرسة بقدر الطلاب، بقى فائض الطلاب بدون تثقيف، واذا كانت اكثر منهم، كان الزائد هدراً.
كما ان أوعية الحرية، لابد لها من (مال) يمدها، اذ لايمكن بقاء المؤسسات بدون الاموال الكافية، ومن (قوة) تمنع خصومها من الاعتداء عليها، وقد ورد عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قوله (لولا مال خديجة وسيف علي عليه السلام) وفي الايات المباركات: {آتُوا الزَّكاةَ}([156]) {وأعدوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}([157]).
ثم ان أوعية الحرية، كما تحفظ الحرية، تنمي الحرية اذ كلٌ من الحرية والديكتاتورية، قابلة للنمو، كالاشجار القابلة لها، فان المستبد مثلاً، يحدد اسفار الناس، ثم بنائهم للعمارات، ثم كتابتهم، ثم ابدائهم للآراء، ثم مداخلهم للمال، ثم مصارفهم له، إلى غير ذلك، وبالعكس فان اوعية الحرية تحررهم عن الضرائب الباهظة، وعن القيود المفروضة على سفرهم وحضرهم، وزواجهم وبنائهم، وغير ذلك...
ولذا كان من الضروري في الحكومات (الاستشارية) ان توجد كتلة في (مجلس الامة) غايتها التحرير وشأنها سن القوانين المحررة تدريجياً... وذلك بالإضافة إلى انه عمل انساني يحكم به العقل، هو امر شرعي واجب أ- لقاعدة الناس مسلطون على اموالهم وأنفسهم([158])، فكل نوع من أنواع سلب حرية من حريات الناس هو اسقاط لجانب من تسلطهم على انفسهم وأموالهم، فهو منكر تجب ازالته، ولقاعدة لايتوى حق أمرئ مسلم([159])، ج- ولان العقل اذا حكم فقد حكم به الشرع لتلازمهما في سلسلة العلل ـ كما قرر في الاصول ـ إلى غير ذلك من الادلة.
كما ان اللازم ان توجد كتلة برلمانية مهمتها سن القوانين التي تكفل تخفيض الاسعار على المستهلك فأنه ان كان الغلاء اجحافاً، كان واجباً، والا كان ترفيهاً مستحباً، قال سبحانه:
﴿يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾([160]) وفي الحديث (من نفّس عن مؤمن كربة...)([161])).
الدولة وضمانات مراعاة القانون
وقال: (ان وجود القانون العادل، وتطبيق القانون على الدوائر لا يكفى في سير النظام على ما يرام، بل اللازم حسن التدبير في الادارة، وصنع جهاز المراقبة والتنسيق، وضمان الكفاءة، وما اشبه ذلك.
وان الاجهزة الثلاثة للدولة (التشريع والتنفيذ والقضاء) لابد وان تسود فيها روح تسيّرها على أحسن وجه، وذلك لأجل اعطاء الدولة حقها، واعطاء الفرد حقه.
ولهذا الامر عينت الدول الحديثة – على اختلافات بينها - (ادارة التنسيق) و(ديوان المحاسبة) و(ادارة مراقبة أعمال الدولة والامة) و(مجلس الدولة) و(قواعد التأديب للمخالف) إلى غير ذلك، كما هيأت الدول الحديثة لذلك(الآلات الحاسبة) و(العقول الإلكترونية) و(آلات الانصات)[162] وغير ذلك.
وهذه الامور في الدولة الاسلامية بين الواجب والمستحب، قال صلى الله عليه وآله وسلم (رحم الله امرءاً عمل عملا فاتقنه)([163]) وقال صلى الله عليه وآله وسلم (لعن الله من ضيع من يعول)([164]) وقال صلى الله عليه وآله وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)([165]) إلى غير ذلك.
هذا بالاضافة إلى شمول مثل: {أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}([166]) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه)([167]) حيث يجب ان تكون البلاد الاسلامية في مقدمة البلاد، وان لا يكون غير المسلمين اعلى من المسلمين، وغير ذلك مما يستفاد منه الدقة والاتقان في كل شيء، والتي منها شئون السياسة والدولة بشعبها الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية اما تفصيل كيفية هذا الامر(مراعاة النظام) فموكول إلى الكتب المعنية بهذا الشأن).
وجاء في كتاب الصياغة الجديدة ص 325:
(الرقابة على الحكام:
نجد في القوانين الوضعية (حق محاسبة الحكام والمسؤولين عن تصرفاتهم) فللناس الحق في إعلان الرأي المعارض بالكلام أو الكتابة أو ما أشبه.
وفي الإسلام نجد أفضل من هذا، فللشعب حق محاسبة الحاكم وهي قربة ولها أجر وتسمى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال سبحانه: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: 110).
وقال تعالى: {وأتمروا بينكم بمعروُفٍ} (الطلاق: 6).
وفي الحديث: (إن الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين) [168].
والنصيحة معناها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعطاء المشورة والتقويم وغير ذلك.
ومن الواضح، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة أوسع وأكثر عمقاً، فليس الأمر مجرد محاسبة عابرة، بل هي محاسبة يسأل عنها الإنسان أمام الله وأمام الشعب وأمام الأجيال.
قال سبحانه: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم لعلّهم يتقون} (الأعراف: 164).
وقال في آية أخرى: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}.
بل فوق ذلك نجد أن الإسلام يرى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يلزم أن يكون هو عاملاً بالمعروف وتاركاً للمنكر، وإلا كان مستحقاً للوم والعقاب، ففي الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2 ـ 3).
وقال علي (عليه السلام): (لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، الناهين عن المنكر العاملين به)[169].
والوجه واضح، فإن الآمر إذا لم يأتمر، والناهي إذا لم ينزجر سبّب ذلك السخرية بالدين، بالإضافة إلى عدم الائتمار والانتهاء).
وقال الإمام الشيرازي في الفقه / الإدارة ج104
الرقابة على أجهزة الدولة
(الرقابة ضرورية بالنسبة إلى الإدارة، سواء كانت إدارة صغيرة، كإدارة شركة أو مدرسة أو ما أشبه، أو إدارة كبيرة كإدارة الدولة.
ولقد وجدت الرقابة منذ الزمن القديم خصوصاً في الزمن الإسلامي، فقد وجدت الحسبة في الدولة الإسلامية، وغرضها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحيث كان الإسلام دين عبادة ومعاملة (فإن الحسبة التي يقوم بها المحتسب وهي مشتقة من الحساب، باعتبار أن المحتسب يفعل ذلك قربة إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يعطى من بيت المال، من باب الارتزاق، لا من باب الأجرة للمنافاة بين الأجرة والقربة، على المشهور) فالمحتسب كان يمارس مهمته في ميدان العبادة، تارة، وفي ميدان المعاملة تارة أخرى.
وقد كان الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) يمارس بنفسه هذه الأمور في بلدة الكوفة عاصمة دولته في قصص مشهورة.
أما في الدول الأوروبية، فقد تولدت الرقابة بمعناها العصري مع مبدأ حكم الشعب، لأنه قبل ذلك كان الحكم باسم الملك وأمراء الإقطاع يمارس من قبل أقاربهم وذي الحظوة وأهل الثقة لديهم، كما أنها لما كانت الكنيسة تحكم بعض البلاد الغربية فترة من الزمن، كانت هي المتصدية لمسألة الرقابة، وفي البلاد الديمقراطية، تكون الرقابة من مهمات الدولة، وأول أشكال هذه الرقابة هي مسؤولية الحكومة أمام المجالس.
وأغلب دساتير الحكم تنص على رقابتين:
الأولى: مسؤولية مسبقة، تتمثل بالثقة التي تمنح للحكومة، والتي هي عبارة عن السلطة التنفيذية عند توليها الحكم، بناءاً على البرنامج الذي تتقدم به إلى المجلس قبل ممارسة مهمتها.
والثانية: مسؤولية مرافقة، تمارس أثناء الحكم على الأعمال التي تقوم بها الحكومة، أي السلطة التنفيذية، وذلك بطريق الاستجواب، أو طلب الإيضاحات عن الأمور الغامضة أو التي تخالطها الشكوك في مجلس الأمة، فإن الوزير أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية، يستجوب في مجلس الأمة، وعلى السلطة التشريعية أن تستمر في الرقابة على السلطتين الأخريين، أي القضاء والسلطة التنفيذية.
ولا بد من الاستعانة بأجهزة متخصصة ذات قدرة على الدخول في أعماق التصرفات الحكومية والقضائية، وتتبع مواضع السلامة والمرض فيها بشكل بعيد عن التأثيرات والضغوط، فتفوّض ذلك إلى أجهزة ترتبط بها وترفع إليها نتائج مشاهداتها بشكل تقارير دورية على فترات زمنية معينة، أو فورية بالنظر للحوادث والوقائع.
واللازم ألا تتأثر جهة الرقابة بسلطة واقعية أو سلطة ظاهرية: فالسلطة الواقعية هي سلطة جماعات الضغط، والسلطة الظاهرية هي السلطات التي منحتها الشعوب للدولة.
ولكي تستطيع هذه الأجهزة أن تؤدي واجبها بفعالية وصدق، يجب أن تتميز بالأمور التالية:
أولاً: بالكفاءة العلمية، التي تمكنها من فهم النصوص التشريعية (أو التأطير) فهماً صحيحاً وعميقاً، يصل إلى آرائها الحقيقية.
وثانياً: النزاهة في الأخلاق، التي تنتابها من المغريات، وسائر أشكال التحيز.
وثالثاً: الاستقلال عن السلطة التنفيذية.
ورابعاً: المهارة الفنية، التي تؤهلها بإدراك التصرفات الحكومية والقضائية، وتمييز الصحيح من الفاسد منها.
والسلطة التشريعية في كثير من دول العالم تجعل الرقابة في دورين:
الأول: دواوين المحاسبة المنتشرة في كل دول العالم، مع اختلاف جهة ارتباطها بالسلطة التشريعية، أو رئيس مجلس الوزراء، أو رئيس الدولة، حسب نظام الحكم، مما يكون برلمانياً شعبياً، أو رئاسياً، أو نصف رئاسي.
والثاني: أجهزة أخرى تتولى الرقابة، وهي تحقق في القضايا التي تتضمن انحراف الأجهزة التنفيذية، أو سوء التصرفات بتكليف من المجالس النيابية ونحوها، وتدرس الشكاوي والاعتراضات أو الملاحظات التي تقدم إليها على بعض التشريعات، أو على تطبيقها، ونتيجة هذه التحقيقات تعرض على السلطة التشريعية، أو يبت بها الجهاز المذكور، حسب موضوع القضية أو الشخص المرفوعة ضده، وفقاً للأنظمة الخاصة الناظمة لهذه الرقابة.
ومن الواضح أن الرقابة لا تنحصر في السلطة التشريعية فقط، بل هناك جهات أخرى تمارسها بأشكال مختلفة، فالشعب ذاته يمارس الرقابة مباشرة عن طريق الصحافة، أو الهيئات والمنظمات الشعبية المحلية والخاصة، أو عن طريق الأحزاب السياسية والمنظمات ووسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون، كما أن الحكومة بنفسها تمارس رقابة واسعة ومتعددة الأشكال والمستويات على أجهزتها المنفذة، فتسلسل الوظائف والرئاسات ضمن الإدارة الواحدة، يؤدي هذا الدور، وأجهزة التفتيش المتخصصة التابعة للإدارة ذاتها تمارس رقابتها.
وإذا كان الحكم إسلامياً وكان مجلس شورى الفقهاء هو الذي يحكم البلاد، فيجب أن تكون هناك رقابة من هذه الجهة أيضاً على كل الأطراف، التي تؤطر القوانين في المجلس التشريعي، أو تنفذها وتقضي بين الناس، كما قد توجد أجهزة مركزية ترتبط برئيس الحكومة تمارس رقابة كبرى باسمه.
والغرض من كل أقسام الرقابة مرتبطة بأية جهة كانت، هو التأكد من أن التصرف والتنفيذ والقضاء، يسير في طريق الأهداف التي وضعت من أجلها التشريعات في الدول الديمقراطية، أو التي أطرت التشريعات بالإطار الصحيح في الدولة الإسلامية، وإن هذه التأطيرات والتنفيذات والأحكام القضائية إنما تسير بشكل سليم، وبقدر جيد من الكفاءة، إذ من الواضح أن التصرف يكون بلا قيمة، إذا لم يكن متوجهاً إلى أهداف معينة نافعة ومحددة في النصوص، فإن النصوص قوالب تتضمن أحكاماً ذات مقاصد معينة، وفي خلاف ذلك تكون كلاماً فارغاً).
وقال الإمام الشيرازي في الفقه / الاجتماع/ ج109:
(الجماعات الضاغطة
حيث كان للاتجاه العام، وللاتجاه الخاص في الأمور الخاصة، مثل اتجاه الأمة ككل في الحرب أو السلم، واتجاه الاقتصاديين في ترفيع الأسعار أو عدمه ـ وزن وقيمة وتأثير في سير دفة الأمور، حدثت في العصر الحاضر طائفتان من (جماعات الضغط):
(الأولى): الذين يريدون إنقاذ الأمة من الانحراف الفكري، الذي سببه الجهل، أو التجهيل من أصحاب المصالح المنحرفة، وهؤلاء يضغطون على الاتجاه العام المنحرف حتى يستقيم، وكي لا يخدع، ومثل هذه الجماعات الضاغطة، تتشكل من المصلحين والمفكرين، وأصحاب العقول الحرة والأقلام النزيهة.
(الثانية): الذين يريدون استغلال الناس، لأجل أهدافهم وأغراضهم، فإنهم يحاولون أحد أمرين:
1 ـ إما تحريف وتحويل الاتجاه العام أو الخاص إلى صالحهم.
2 ـ أو فرض آرائهم على الناس.
وسائل الضغط
وضغط كلتا الطائفتين [الأولى والثانية] يكون بأسباب وعوامل، هي:
أ ـ الوسائل الدعائية، حيث تحاول الجماعة الــضاغـطــة السيطرة على وسائل الإعلام من الكتب، والإذاعة والتلفزيون والصحف والسينمات والمسارح، وما أشبه ذلك.
ب ـ الوسائل الاقتصادية، مثل الهدية والضيافة، وما أشبه، حيث أنها تؤثر في الفرد أو الجماعة التي يراد توجيهها، فإذا كان الهدف من ذلك شريفاً، أي تخليص الناس من الانحراف، كان حسناً ـ كما قرر الإسلام سهماً للمؤلفة قلوبهم ـ وإلا كان باطلاً وسيئاً.
ج ـ الوسائل الحقوقية، إذ تسعى الجماعة الضاغطة، لأجل سن قوانين، بما يخدم اتجاهها، ولذا يحاولون النفوذ في المجالس التشريعية، والقضاة والمحامين، وما إلى ذلك.
د ـ الوسائل التخريبية، فإن الجماعة الضاغطة تحاول تخريب وسحق المقاومة سواء بالتصفية الجسدية، أو تلويث السمعة، أو هدم مؤسسة، أو جماعة، أو جمعية، أو ما أشبه ذلك.
كيفية مجابهة قوى الضغط المنحرفة
واللازم في مواجهة الجماعات الضاغطة المنحرفة، اتخاذ سلسلة من الخطوات:
أولاً: كشف تلك الجماعات للملأ، حتى لا يجدوا مجالاً للتستر والإفساد باسم الإصلاح، قال سبحانه: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض * قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}[170] ويلزم أن تتم عملية الكشف كماً وكيفاً في إطار الإسلام والإنسانية لا غير.
ثانياً: تثقيف الناس بالثقافة الصحيحة حتى يعرفوا الزيف من الحق، فإن الجماعات الضاغطة إنما يتسترون وراء الحق ليروجوا بضاعتهم الزائفة، فإذا انكشفت الحقائق للناس، لم يبق مجال للظلام الذي يتلفع به الضاغطون.
ثالثاً: إيجاد حس الفحص والنقد في الناس، لئلا يقبلوا الشيء بدون التدقيق حوله، وقد بنى الإسلام على العقل والبحث، وعدم الانسياق وراء التقليد والعاطفة بل وحتى الظن.
قال سبحانه: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}[171].
وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم * إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}[172] إلى غير ذلك.
وحتى أن المشهور على لزوم الدليل في أصول الدين، فلا يصح للمسلم أن يقبل أن الله واحد، أو عادل، أو أن محمداً صلى الله عليه وآله نبي إلا بالدليل، ولذلك دُوّن علم الكلام.
فإذا قيل إن فلاناً رئيس مدى العمر، أو أنه أفضل من غـــيره، أو أن الاقــتصاد الإسلامي كذا، أو أن اللازم للدولة جعل الدستور، أو… !! يلزم أن يسأل الإنسان لماذا؟
ولا ينفع أن تقول: للمتسنم أريكة الحكم لماذا تفعل كذا؟ والحال أن الشعب غير مثقف، فإن الشعب غير المثقف هم الذين يمكِّنون له، بل اللازم أن يتثقف الشعب، حتى لا يتمكن المتسنم أن يعمل حسب هواه… ولذا قال علي عليه السلام: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)[173]. فلم يخاطب القمة، وإنما خاطب القاعدة، إذ القمة قد حصلت على الامتيازات ولا يهمها بعد ذلك أي شيء.
وبهذه المناسبة لا بأس أن نقول: إن المشكلة في البلاد الإسلامية ذات الألف مليون مسلم، ليس في حكامها ـ وإن كانوا هم الديكتاتوريون العملاء ـ وإنما المشكلة في الأمة الإسلامية نفسها، فهي أنها ربيت على بعض الإسلام كالصلاة والصيام، والمسجد والحسينية، والاحتفالات والمأتم، وما إلى ذلك، وتركت بعض الإسلام الآخر، وهو:
1 ـ الثقافة الحيوية الاجتماعية وغيرها.
قال عليه السلام: (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)[174].
وفي حديث آخر: (عالماً بأهل زمانه)[175].
وفي وصف علي عليه السلام: (كان والله بعيد المدى شديد القوى)[176].
2 ـ والسياسة، فلا يعرفون منها ما ينجيهم وما يوقف الحكام وأسياد الحكام عند حدهم، فكل بلاد الإسلام بين حكم وراثي، أو حكم عسكري، ولا ثالث أما الأمة فهي بمعزل عن الحكم والحكام، ولا تملك من أمرهم شيئاً.
3 ـ والاقتصاد، الذي هو عصب الحياة، ولذا كان اقتصاد كل بلد، إما رأسمالياً، أو شيوعياً، أو مزيجاً منهما، والغرب والشرق ينهبان خيراتهم نهباً لا مثيل له في سابق التاريخ، وإذا علمنا (أن الفقر سواد الوجه في الدارين) عرفنا لماذا المسلمون لا كيان لهم في العالم الحاضر؟!
4 ـ وفهم مخططات المستعمرين، وكيفية تغلغلهم في البلاد، وكيف يمكن التخلص منهم واقعاً، لا صورة… ومادام هذا الجزء من الإسلام مشلولاً، عاش المسلمون في ضياع.
رابعاً: تكوين الجماعات المضادة للجماعات الضاغطة، حتى يتحرى هؤلاء مواضع حركة أولئك ويبطلوا كيدهم، ويردوا مكرهم إلى نحورهم، وفي المثل: (لا يفل الحديد إلا الحديد).
وتدخل [الجماعات المضادة للجماعات الضاغطة المنحرفة] في ميزان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهما وإن كانا واجبين على كل مسلم ومسلمة إلا أن عدم تأتّي الأمر والنهي بشكل متكامل أمام الجماعات الضاغطة إلا بهذه الصورة يجعل الوجوب لها آكد.
وقد حرض الإسلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأبلغ تحريض.
قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير * ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر * وأولئك هم المفلحون}[177].
وقال علي عليه السلام: (أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به، ومنكراً يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونور في قلبه)[178].
وفي كلام آخر له عليه السلام قال: (فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتيــن من خــصال الخير، ومضيّع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه، التارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميت الأحياء، وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجّي، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر)[179].
وقال عليه السلام: (أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً، قلب فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه)[180] إلى غيرها من الآيات والروايات الكثيرة جداً.
وقال قدس سره:
(حق عزل الحاكم:
في جملة من القوانين العالمية نجد إقرار حق الشعب في إسقاط الحاكم أو الحكومة، وقد سبق الإسلام القوانين في ذلك بل جعله واجباً شرعياً، فإذا لم يعمل الحاكم بالقوانين الإسلامية أو سقط من الصلاحية وجب إسقاطه وعزله.
وقد ورد الحديث الشهير الذي ذكره المحقق الحلي ـ قدس سره ـ في المعتبر: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)[181].
ومن كتاب رسول الله إلى أهل البحرين عندما ولى عليهم (العلاء بن الحضرمي) ـ على ما ذكر في بعض التواريخ ـ أنه (صلّى الله عليه وآله) كتب: (وأنا أشهد الله تعالى على من وليته شيئاً قليلاً أو كثيراً من أمور المسلمين فلم يعدل فيهم أنه لا طاعة له وهو خليع مما وليته، وقد برئت ذمم المسلمين معه من المسلمين).
إلى غير ذلك من الأحاديث العامة والخاصة بهذا الصدد.
وقال رضوان الله عليه:
(إقرار حق التجمع والتنظيم:
ان حق التجمع والاجتماع ونحوهما وحق تشكيل الجمعيات والمنظمات والأحزاب. كل ذلك مكفول في الإسلام، وقد سبق الإسلام القوانين الوضعية في ذلك، فقد جعل الرسول (صلّى الله عليه واله) المهاجرين والأنصار جماعتين ويستفاد من أحاديث متعددة أنه كلما ضغطت عليه جماعة منهما كان يلتجئ إلى الجماعة الأخرى[182].
ففي حديث: أن رسول الله (صلّى الله عليه واله) قال في قصة مشهورة: (لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار)[183].
وفي حديث آخر أنه عند وفاته (صلّى الله عليه واله) حينما لغط القوم عنده وكانوا من المهاجرين وقال بعضهم (إن الرجل ليهجر) واختلفوا قال رسول الله (صلّى الله عليه واله): (قوموا عني)[184].
فلما خرجوا أمر الرسول (صلّى الله عليه واله) بعض الناس بطلب الأنصار فطلبوهم فجاؤوا وتكلم معهم بما أحب أن يوصي.
وفي رواية أن حزبين من الأنصار كانا يتراميان فقال النبي (صلّى الله عليه واله) أنا في الحزب الذي فيه ابن الأدرع[185].
بل يظهر من الروايات وجود المهاجرين والأنصار كحزبين إلى زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث أعطى (قرظة) وهو من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه واله) راية الأنصار يوم صفين.
إلى غير ذلك من الموارد المتوفرة في السيرة الطاهرة.
بل إن ذلك هو مقتضى القاعدة المشهورة عند الفقهاء المستنبطة من الآيات والروايات (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) ويشمله قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104)[186]
وتشمله أيضاً بدلالة الاقتضاء الآية المباركة التي تقول: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة: 122).) – انتهى.
ولأن اطلاق الآية يشمل الانذار الفردي والجماعي وما كان عبر التجمعات أو وسائل الانذار والاعلام الحديثة.
ودلالة الاقتضاء هي ما يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه والصحة أعم من الشرعية والعقلية ولعل مقصود الإمام الشيرازي هو التوقف بحسب الصحة الشرعية توقفاً عرفياً، وقد يكون المراد الصحة العادية والعرفية لتوقف الانذار في هذه الأزمنة على تكوين التجمعات الاصلاحية والانمائية ونظائرها.
منع اتخاذ الحُجّاب:
ان من أهم ضمانات توفير الحريات في البلاد وعدم مصادرة حقوق الناس سن قانون منع اتخاذ الحكام والمسؤولين للحجّاب، وقد قال الإمام الشيرازي:
(ويدل على انه لا حاجب في الإسلام أن رسول الله (صلّى الله عليه واله) قد استولى على سبع دول في خريطة عالم اليوم، ولم يكن له حاجب، وكان كل المسلمين يتمكنون من اللقاء به في أي وقت، بل كان بعضهم يسيء الأدب ويتكلم معه من وراء الحجرات، ويصيح: (يا محمد اخرج إلينا) حتى ورد قوله سبحانه: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم} (الحجرات: 4 ـ 5).
وكذلك لم يكن لعلي (عليه السلام) ـ وهو رئيس أكبر دولة في زمانه ـ حاجب.
وقد ورد في جملة من الروايات النهي عن اتخاذ الحاكم حاجباً.
مثل ما كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عامله على مكة قثم بن العباس قال: (ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها)[187].
وفي رواية عن زيد الشحام قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: (من تولى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة)[188].
ومفهوم هذه الرواية أنه إن لم يفعل كذلك خوفه الله سبحانه وتعالى ولم يدخله الجنة، ومن الواضح أن التهديد بمثل ذلك معناه الحرمة) - انتهى.
ولا بد ان نشير في نهاية هذا الفصل إلى ان الإمام الشيرازي تطرق في الكثير من كتبه للأطر القانونية العامة التي يرى انها – في مرحلة التقنين – ضرورية للحفاظ على حقوق الناس بمختلف طوائفهم وعلى حرياتهم ولنقتبس منها نموذجاً واحداً منها.
فعن الاطر العامة للمعادلة القانونية التي تحكم المسلمين شيعة وسنة في البلاد الإسلامية، قال:
من آليات حل مشكلة الطوائف
(السؤال الحادي عشر: كيف يكون الحكم بين الشيعي والسني؟
والجواب: في المجلس الأعلى للمسلمين في الدولة الإسلامية ذات الألف مليون مسلم يحكم أكثرية السنة على السنة (في قضاياهم) ويحكم أكثرية الشيعة على الشيعة (في قضاياهم) من الفقهاء والعلماء الذين اجتمعوا في مجلس الشورى الأعلى.
وأما بالنسبة إلى أمور المسلمين كافة (أي الشؤون العامة كشؤون الاقتصاد وغيره)[189] فاللازم أكثريـــة المجلسين فإنهم هم الذين يحكمون، فإذا فرضنا أن في المجلس الأعلى عشرة من السنّة وعشرة من الشيعة فإذا أرادوا الحكم على كافة المسلمين فاللازم ستة أو أكثر من السنّة وستة أو أكثر من الشيعة، لا أن يكون المعيار الأكثرية المطلقة، كعشرة من الشيعة وواحد من السنة فإن هذا غير منطبق على الموازين بل المنطبق على موازين الشورى ما ذكرناه وقد فصلنا هذا الأمر في كتاب مستقل.
والأقلية من الشيعة أو من السنة في أي بلد من البلدان لا يُضيَّق عليهم إطلاقاً وإنما كل طائفة من هاتين الطائفتين لهم قضاؤهم المستقل وصلوات جماعتهم وسائر شؤونهم، وقد كان الأمر هكذا في كثير من العصور الإسلامية كما شاهدنا بعض ذلك في لبنان وفي بغداد وفي الكويت وفي غيرها، حيث كان هنالك القضاء الشيعي والقضاء السني، والأوقاف الشيعية والأوقاف السنية، والإعلام السني والإعلام الشيعي، وهكذا. أما البحث الحر وحرية العقيدة وحرية الرأي وحرية التأليف فلكل شأنه في الإطار الإسلامي كما هو القانون العام لبلاد الإسلام على أن لا يتجاوز أحد على الموازين الإسلامية وهذا شيء سهل، وفي العالم المعاصر مثال لهذا الأمر: حركة المؤتمر التي حررت الهند عن البريطانيين مارست عملها مع أنه كان في الهند مائة وخمسون مذهباً، وسبعمائة لغة، وثلاثة آلاف قومية، وستمائة حكومة، ومع ذلك تمكن الجميع أن يتحركوا معاً ويحرروا بلادهم عن السلطة البريطانية ـ وإن خرجت الهند من أيدي المسلمين التي حكموها أكثر من ألف سنة وقد كان ذلك خسارة كبيرة، إلا أن الكلام في أن الطوائف تمكنوا أن يصافق بعضهم بعضاً ويحرروا البلاد من سلطة الأجنبي المستعمر ـ فليتصافق في البلاد الإسلامية السنة والشيعة لإنقاذ بلادهم من سلطة المستعمرين الغربيين والشرقيين ومن التبضع والتشتت وسيادة القوانين الأرضية بدل القوانين السماوية. وقد رأينا نحن المسلمين كيف أن الغربيين كانت بينهم الحروب الدينية والحروب الحدودية وما أشبه ثم تعقلوا وجمعوا أنفسهم حول موازين ثابتة وقوانين مضبوطة وتعاونوا فيما بينهم وجعلوا الشورى مكان السيف، وهكذا يجب علينا نحن المسلمين أن نجمع أنفسنا بكل قومياتنا ولغاتنا وحدودنا واقليمياتنا ومذاهبنا المختلفة كما أمر الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (آل عمران: 103).
وقال سبحانه: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} (آل عمران: 103).
وقال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(الأنفال: 46).
إلى غيرها من الآيات والروايات الآمرة بالتعاون والتجمع وتحكيم الشورى بأكثرية الآراء في الإطار الإسلامي ـ الذي هو الكتاب والسنة والإجماع والعقل ـ والله الموفق المستعان).
الفصل الرابع
صورة عامة عن الحكومة الإسلامية في فقه الإمام الشيرازي
(ولاية الفقيه) أو (شورى الفقهاء) بقيودها لا تشكل إلا جزءً من الصورة العامة عن الحكومة الإسلامية في فقه الإمام الشيرازي، وقد كانت هذه الدراسة الموجزة معنية بذلك بالدرجة الأساس.
ولكي تتكامل الصورة العامة المبدئية نجد ان علينا ان نشير في الفصل الأخير من هذه الدراسة إلى بعض أهم عناوين أفكار السيد الشيرازي عن (الحكومة الإسلامية).
قال الإمام الشيرازي في الفقه/ الاجتماع ج110 ص146 إلى 154:
(من سمات الحكومة الإسلامية
ان كيفية حكومة الرسول صلى الله عليه وآله، وعلي عليه السلام، مذكورة في ألوف الكتب ماثلة في أذهان الناس، تتلى في الإذاعات وتصور في التلفزيونات، وتكتب في الصحف، وحتى أطفال المدارس يقرأون كيفيتها في كتبهم الابتدائية.
1 ـ فقد كانت الحريات متوفرة للعقيدة [لا إكراه في الدين][190] وللرأي، ولذا قال بعض الصحابة في الحديبية وغيرها ما قال، ولم يعاقبه الرسول صلى الله عليه واله، وكذلك توفرت الحرية في الزراعة، والصناعة، والتجارة، والسفر، والإقامة والعمارة، وحيازة المباحات[191]، والزواج حتى بأربع وغيرها وغيرها[192].
2 ـ والضرائب كانت خمساً وزكاة، وجزية وخراجاً، فقط.
3 ـ وحصلت كل عائلة في زمان أمير المؤمنين علي عليه السلام ـ وهو يحكم على خمسين دولة حسب الجغرافيا الحديثة، وأكبر دولة في عالم ذلك اليوم ـ على دار ومصدر رزق[193].
4 ـ ولم يكن يوجد حتى فقير واحد فـــي أي بلد من بلاد الإسلام، ولذا تــعجــب عليه السلام، من النصراني المتكفف وقال: (أنفقوا عليه من بيت المال راتباً)[194].
5 ـ وكانت تقسم الضرائب في نفس البلد[195]، فإن زاد شيء أرسل إلى بيت المال كما أمر الرسول صلى الله عليه واله بذلك[196].
6 ـ ومن مات وله مال فماله لوارثه[197]، ومن مات وعليه دين فدينه على بيت المال[198] كما قاله الرسول صلى الله عليه واله[199].
7 ـ والناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم[200].[201]
8 ـ وكل المسلمين أخوة لا فرق بين قديم الإسلام وجديده، وبين العربي والفارسي والرومي والحبشي وغيرهم، فلا تمايز إطلاقاً إلا بالتقوى ولا امتيازات.
9 ـ ولا حدود لبلاد الإسلام ولا جنسية وإقامة وورقة مهنة وغيرها وغيرها من الحدود والقيود.
10 ـ ولا كمارك.
11 ـ والنبي والإمام في متناول الجميع، فلا حجاب ولا أبواب ولا قصور.
12 ـ وكيفية أخذ الضريبة إنسانية إلى أبعد حد، كما كان يأمر علي عليه السلام عامله إذا أرسله لجمع الصدقات.
13 ـ والأقليات محترمة إلى أبعد حد حتى أن الله يدافع عنهم[202] {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً}[203] وإنما المجال للحوار فقط، وذلك جدالاً بالتي هي أحسن.
14 ـ وإذا تآمروا على قتل الإمام وقتله أحدهم قال: (لا يقتلن بي غير قاتلي)[204].
15 ـ ولم يسجن الرسول إلا نادراً جداً، وكان سجن الإمام ـ وفي الكوفة أربعة ملايين ـ سجناً صغيراً ولم يسجن إلا أفراداً معدودين.
16 ـ والعفو عن المجرم سيرتهما عليهما السلام، كما في فتح مكة، وحروب البصرة وصفين والنهروان، وحتى أن الرسول صلى الله عليه واله عفى عن قاتل عمه حمزة، وبنته زينب وعمن أراد قتله في العقبة.
17 ـ ويتقاضى[205] الرسول صلى الله عليه واله وهو رئيس الدولة مع أعرابي إلى أحد أصحابه، ويتقاضى علي عليه السلام وهو رئيس أكبر دولة مع يهودي إلى قاضيه.
18 ـ والحكم بسيط إلى أبعد حد فأسيد يحكم مكة، وسلمان يحكم المدائن[206] وهكذا، فالحكم في نظر الإسلام ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها.
19 ـ ويعزل القاضي إذا علا صوته صوت الخصمين، كما عزل علي عليه السلام أبا الأسود لذلك[207].
20 ـ كما يعزل الوالي إذا اشتكت عليه ولو امرأة، كما عزل علي عليه السلام واليه لذلك[208].
21 ـ ويعيش الحاكم الأعلى كعيش أحد الأفراد من عامة الناس، بل أنزل من ذلك، فكان الرسول صلى الله عليه واله يشد حجر المجاعة، ويطعم الناس الأحمرين[209]، وهو يطعم الأسودين[210]، وعلي عليه السلام لا يترك خادمته تخلط خبزه بالدهن، ويأكل اللحم كل سنة مرة في الأضحى لأنه يعلم أن المسلمين يأكلون في ذلك اليوم اللحم[211].
22 ـ وإذا أخطأ المنفذ تحمل الرسول صلى الله عليه واله دية من قتلوا حتى انه اعطى دية خوف النساء وضجة الأطفال، وضرب علي عليه السلام قنبراً سوطاً لأنه زاد في الضرب سوطاً[212].
23 ـ ويستعد الرسول صلى الله عليه واله كي يضرب سوادة، لأنه ادعى أن الرسول صلى الله عليه واله اصابته عصاه بطرف ـ والرسول صلى الله عليه واله مريض مشرف على الرحيل[213] ـ قائلاً صلى الله عليه واله: إنه لا يتحمل القصاص في الآخرة.[214]
24 ـ وليست الدولة دولة شعارات وكلام، وإنما دولة أعمال وحقائق.
25 ـ والمظاهرات ضد الإمام عليه السلام لا تقابل بالشدة.
26 ـ وحتى المنافق الذي يسب الإمام يقابل بالعفو[215]، كما فعله عليه السلام مع ابن كوا والأشعث وغيرهما.
27 ـ ويقتنع في ردع أشد الأعداء المنافقين ـ الذين هم العدو وفي الدرك الأسفل ـ بالكلام فقط، أما المعاملة فإنها إنسانية إلى أبعد حد، ولذا صلى الرسول صلى الله عليه واله على ابن أُبي، والحال أنه هو الذي أنزلت فيه سورة المنافقين[216].
28 ـ وحتى قاذف زوجة الرسول صلى الله عليه واله لا ينال من الرسول صلى الله عليه واله إلا التهديد لا العقاب.
29 ـ ويعطي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الخوارج أعطياتهم من بيت المال[217].
30 ـ وفي منطق الإمام: (الناس إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)[218].
31 ـ ويشمل بعطاءه الأعداء، كما أعطى الرسول صلى الله عليه واله كفار مكة من غنائم خيبر ـ كما في التاريخ ـ وكذلك أعطى الإمام علي عليه السلام الماء لأهل صفين وسار على ذلك الإمام الحسين عليه السلام في إعطاء الماء لمن جاؤوا لقتله.
32 ـ كما انه يوصي بالأعداء خيراً، كما أوصى علي عليه السلام بالخوارج فقال: (لا تقتلوا الخوارج من بعدي)[219].
33 ـ ولا استبداد بل الاستشارة في الأمور لقوله تعالى: {شاورهم}[220] و {أمرهم شورى}[221].
34 ـ ويحمل الإمام قربة الماء للعجوز، ويسجر لها التنور ويلعب أطفالها[222].
35 ـ ومن سمات الحكومة الإسلامية: ان الاختيار في تعيين الحاكم بيد الأمة، كما في آية الشورى، وقاله علي عليه السلام والرضا عليه السلام ـ بالنسبة إلى غير من عيّنه الله، فلا حكومة وراثية، ولا انقلابات عسكرية، ولا اغتصابات حكومية… إلى غيرها وغيرها، مما يجدها الباحث في الروايات والتفاسير والتواريخ).
وللإحاطة التفصيلية بكل ذلك وغيره أيضاً يراجع كتاب (ولأول في تاريخ العالم) للإمام الشيرازي و(أمير المؤمنين شمس في أفق البشرية) له أيضاً، وكتاب (السياسة من واقع الإسلام) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي دامت فيوضاته.
وصورة عامة عن الحكومة المستبدة
وقال الإمام الشيرازي عن الحكومات الاستبدادية:
(ملامح النظام الديكتاتوري
أن الفارق بين الديكتاتورية والاستشارية واضح لكل من له أقل إلمام بالأمر، ويُعرف الديكتاتور من رصد مواقفه ـ وإن كانت بعض مواقفه تظهر استبداده أكثر ـ وهذه بعض العلامات:
1- من عادة الديكتاتور الكذب والرياء والنفاق والخدعة، وحيث أنه يعتاد تلك يظن أن الناس كذلك، ولذا يرميهم بها غافلاً عن أن لسان الإنسان مرآة قلبه، وقد قال المسيح عليه السلام: (كل ينفق مما عنده).
2- إن الديكتاتور يوعز إلى وسائل الإعلام بان يمدحوه وذويه بإسهاب تعريضاً وتصريحاً وتلويحاً بينما يتوقف عن مدح من سواه، وإن كان ذلك الغير أجلّ منه قدراً، وأحسن منه كفاءة، وقد كان عبد الكريم قاسم يقول عن ثورته: إنها ما لم يتفق مثلها منذ خمسة آلاف سنة في العراق!!
3 ـ الديكتاتور يخفي أعماله السرية، حيث يريد أن لا تنكشف عوراته لكن بالعكس من إرادته تظهر سوآته للناس، وقد قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرء من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
4 ـ والديكتاتور يتآمر على أعدائه الذين يرفضون سلطانه واستبداده ويمكر بهم لإلقائهم في التهلكة ويلصق بهم التهم والأكاذيب، لكن سرعان ما يظهر تآمره وتنكشف عوراته، وقد ورد في الحديث الشريف: (ومن كشف عورات الناس انكشفت عورات بيته)[223]. وسئل عليه السلام عن الحيلة؟ فقال: (في ترك الحيلة).
ومن علامات الأنظمة الاستبدادية:
5-عدم اشراك الناس في أمور الدولة، وإنما يستبد بها الدكتاتور وجماعته والمتزلفون حوله.
6 ـ وعدم وجود الصحف الحرة[224].
7 ـ وكثرة الضرائب، لتكفي نفقات مخططاته الوهمية، وقد يكون الديكتاتور سارقاً كبيراً يجمع المال لنفسه ولذويه.
8 ـ وخنق الحريات حتى حرية الرأي وحرية الكلام.
9 ـ وشدة العقاب، فان الديكتاتور يرى نفسه فوق الجميع، ولذا يعاقب بشدة وقسوة كل من خالف أمره، أو لم يطع رأيه.
10 ـ والتستر على المال وكيف يصرف؟ لأن المستبد يريد أن يصرفه لنفسه وذويه أو أهوائه، مما إذا اطلع الناس عليه منعوه عن ذلك، وحتى انه إذا أظهر شيئاً من ذلك أظهره مجملاً مبهماً.
11 ـ عدم وجود الانتخابات إطلاقا، أو وجود انتخابات مزيفة تمهد الأجواء لمرشحه، حيث ليست هناك أحزاب حرة وصحف حرة، لتكشف زيف الانتخابات.
12 ـ ليست المحاكم والقضاة إلا ألعوبة بيده، ينصب من يشاء ويعزل من يشاء، ويخفف كما يريد ويشدد كما يرغب.
ومن علامات المستبد أيضاً
13 ـ اتهام المنافسين بالتآمر لتصفية من يشاء من خصومه، جسدياً أو اجتماعياً بإلصاق التهم بهم لإسقاطهم من أعين الناس.
14 ـ مصادرة أموال الناس كيف يشاء، كما رأينا كيف صادر ناصر أموال التجار باسم الاشتراكية.
15 ـ العدوان على الجيران بألف اسم واسم، كما فعله ناصر وقاسم والبعث ومن إليهم.
16 ـ انه يرفع كل مرتبط به إلى ما يشاء من القمم ولو كانوا بدون كفاءة. ويخفض كل من ليس بمرتبط به إلى ما يشاء، ولو كانت له الكفاءة.
17 ـ تحكيم المحسوبيات على الكفاءات في موظفيه، فالمعيار في الوظيفة الولاء لا غير ذلك.
18 ـ انه يختفي وراء أعماله، فإن ظهر عند الاجتماع حسناً أظهر أنه له، وإن ظهر عند الاجتماع سيئاً جعل تبعة ذلك على غيره، وأظهر نفسه وكأنه البريء حتى كأنه لا اطلاع له إطلاقاً، وإذا ظهر في الأمر خطأ كبير عزل إنساناً كبيراً أو قتله بتهمة أنه هو الذي أخطأ، وقد قتل ناصر عامراً ليلقي بتبعة النكسة عليه.
19 ـ انه يقوم بالتكثير من البوليس السري والأجهزة الأمنية بمختلف الأسماء والعناوين، ليسيطر على زمام الأمور كلها.
20 ـ ان من يمدحه اليوم يذمه غداً وبالعكس، لأنه لا يرى إلا شخصه، وإن نادى بالهدف فليس إلا لكي يجعله ستاراً لديكتاتوريته، قال سبحانه: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}[225].
21 ـ انه يجمع حوله الإمّعات، لأنه لا يتحمل ذوي العقول والآراء الحرة، فإنه يتلهف على المدح ولا يطيق القدح، والأحرار يقدحون ويمدحون، بالعكس من الامّعات، حيث ليس في كيسهم إلا المدح، وفي المثل: (صديقك من صدقك، لا من صدّقك).
22 ـ انه يكثر من موظفي الدولة ومن الحواشي، بمختلف العناوين ليكثر حوله المصفقون وليتلافى – بزعمه - بالكم ما فقده من الكيف.
23 ـ وتبعاً لتحكيم المحسوبيات على الكفاءات تتحطم الزراعة والصناعة والثقافة والتجارة والتربية في عهده، حيث لا كفاءات لإدارتها.
24 ـ انه يقف سداً أمام الخدمات الاجتماعية فلا يسمح بالمدارس الأهلية، ولا الجمعيات وغيرها إلا بشروط صعبة تضمن تبعيتها له، وهكذا، وذلك لأنه يريد الاستئثار بكل شيء لنفسه، فلا يرضى بأن يعمل غيره عملاً خيرياً في أي من أبعاد الحياة.
25 ـ انه يطبع كل المؤسسات والشوارع والمشاريع باسمه وأسماء أصدقائه.
26 ـ انه يقوم بالمبالغة في ذم أعدائه بكل الوسائل وشتى الأنواع.
27 ـ انه يتخذ الحلول العسكرية الاعتباطية سبيلاً لمواجهة القضايا بدون مراعاة الموازين الإنسانية كأولوية.
28 ـ انه لو تجرأ لرفع نفسه حتى فوق مستوى الأنبياء والمرسلين، كما قال أحد الولاة: (خليفة الرجل أفضل من رسوله، وفلان خليفة الله، أما محمد صلى الله عليه واله فهو رسول الله، فالأموي الفلاني أفضل من رسول الله صلى الله عليه واله).
29 ـ وانه يبقى دائماً في الحكم بمختلف الأسماء والعناوين[226].
الملحق رقم واحد[227]
حرمة الغصب والمصادرة والاجحاف والضرائب
وقال قدس سره في موسوعة الفقه:
(مسألة: لا تكون موارد بيت المال من الربا، والغش، والغصب، والمصادرة، والإجحاف، والضرائب غير الشرعية، وما أشبه مما حرّمه الإسلام.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج، أما بعد: فإن من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها، واعلموا أن ما كلفتم به يسير وأن ثوابه كثير.
ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه، فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة (عليهم السلام).
ولا تحشموا أحداً عن حاجته، ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس في الخارج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابةً يعتملون عليها ولا عبداً.
ولا تضربن أحداً سوطاً لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه.
ولا تدخروا أنفسكم نصيحةً ولا الجند حسن سيرة ولا الرعية معونةً ولا دين الله قوةً.
وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا وأن ننصره بما بلغت قوتنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)[228]
عن سماعة قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): إني رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرره، فقال: أو تدري لم ذاك؟ قلت: لا، قال: لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف[229].
وقال رسول الله (صلى الله عليه واله):من غش المسلمين حشر مع اليهود يوم القيامة لأنهم أغش الناس للمسلمين[230].
قال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه كتاب العولمة:
حرمة البهتان والافتراء
(مسألة: لا يجوز بهت المؤمن، ولا اتهامه، ولا الافتراء عليه، فان البهتان من أشد المحرمات.
عن أبي عبد الله )عليه السلام): قال: من قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في طينة خبال حتى يخرج مما قال فيه. وقال (عليه السلام): إنما الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عز وجل، فإذا قلت فيه ما ليس فيه فذلك قول الله عز وجل في كتابه: {فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}[231]
عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من بهت مؤمنا أو مؤمنة بما ليس فيه بعثه الله يوم القيامة في طينة خبال حتى يخرج مما قال فيه، قلت: وما طينة الخبال؟ قال: صديد يخرج من فروج المومسات[232].
وعن أبي عبد الله )عليه السلام) قال: تبع حكيم حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فلما لحق به قال: يا هذا ما أرفع من السماء، إلى أن قال: وأثقل من الجبال الراسيات، فقال له: يا هذا الحق أرفع من السماء، إلى أن قال: والبهتان على البريء أثقل من الجبال الراسيات[233].
حرمة الخيانة والغلول:
قال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه العولمة[234]:
(مسألة: يحرّم الإسلام الخيانة والغلول حرمة شديدة، وخاصة خيانة الحكام وغلولهم بالنسبة إلى شعوبهم، فإنها من أشد المحرمات كما جاء في القرآن والروايات الشريفة.
قال تعالى: {وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}[235]
وقال سبحانه: {يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور}[236]
وقال عز وجل: {إن الله لا يحب كل خوان كفور}[237]
وقال جل وعلا: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيماً}[238]
عن عمار بن مروان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغلول، فقال: كل شيء غل من الإمام فهو سحت، وأكل مال اليتيم سحت، والسحت أنواع كثيرة منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها أجور القضاة، وأجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر والربا بعد البينة فأما الرشوة يا عمار في الأحكام فإن ذلك الكفر بالله العظيم ورسوله[239]
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه واله): ليس منا من أخلف بالأمانة.[240]
وقال رسول الله (صلى الله عليه واله): الأمانة تجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر.[241]
حرمة الغش والتدليس والمكر
وعن حرمة الغش والخيانة قال الإمام الشيرازي في الفقه العولمة تحت عنوان (حرمة الغش والخيانة):
(مسألة: يحرم الغش والتدليس، والمكر والخيانة مطلقاً، وخاصة في المعاملات.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه واله) لرجل يبيع التمر: يا فلان أما علمت أنه ليس من المسلمين من غشهم.[242]
وعن موسى بن بكر قال: كنا عند أبي الحسن (عليه السلام) فإذا دنانير مصبوبة بين يديه فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثم قطعه بنصفين ثم قال لي: ألقه في البالوعة حتى لا يباع شيء فيه غش.[243]
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر الناس.[244]
وعن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه واله): من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع فإني سمعت جبرئيل يقول: إن المكر والخديعة في النار، ثم قال: ليس منا من غش مسلماً، وليس منا من خان مسلماً[245].
الملحق رقم اثنين[246]
قال الإمام الشيرازي قدس سره:
(الحريات الأساسية
مسألة: لا تجوز مصادرة حريات الناس التي جاء بها الإسلام وجعلها من أوليات حياة الإنسان، فإن الإنسان المسلم حر في كافة شؤونه، وفي كل الدول الإسلامية: سواء في السفر والإقامة، أو الزراعة والتجارة، أو البناء والعمران، أو الكسب والعمل، أو نشر الكتب والمقالات، أو المجلات والجرائد، أو تأسيس محطات البث والإعلام، أو تأسيس الأحزاب والجمعيات، أو التأليف والخطابة، أو اختيار السكن والزواج، فإنه حر في جميع النشاطات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، إلا في المحرمات الشرعية، ولا يحق لأحد منعه من الأمور المذكورة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الناس مسلطون على أموالهم»([247]).
ومن القاعدة الفقهية: «وعلى أنفسهم»([248]).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك و قد جعلك الله حراً»([249]).
وقال (عليه السلام): «الحر حر و إن مسه الضر»([250]).
وقال (عليه السلام): «ليس للأحرار جزاء إلا الإكرام»([251])).
وقال قدس سره:
(حرمة الأشخاص والأموال
مسألة: لا يجوز أي نوع من مصادرة الأموال، أو إلقاء القبض على الأشخاص وسجنهم، أو إخراجهم من البلد ونفيهم، إلا في الموارد المقررة شرعاً، وعند ذلك يجب العمل وفق الضوابط الشرعية المذكورة في الفقه.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين أن ائت هذا الجبار فقل له إنني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين فإني لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»([252]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»([253]).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده إليه أكل جذوةً من النار يوم القيامة»([254])).
وقال أيضاً:
(حقوق الإنسان السياسية
مسألة: تجب رعاية حقوق الإنسان السياسية وغيرها على الوجه الذي أمر به الإسلام، فإن الإسلام ضمن أكبر الحريات السياسية للأفراد والأحزاب وما أشبه ضماناً لم يضمنه غيره من الأديان الأخرى، ولا سائر المبادئ الأرضية الأخر.
قال الصادق (عليه السلام): «السرور في ثلاث خلال: في الوفاء ورعاية الحقوق والنهوض في النوائب»([255]).
وعن الحسن بن علي الجرجاني عمن حدثه عن أحدهما (عليه السلام) قال: «لاتدخل في شيء مضرته عليك أعظم من منفعته لأخيك»([256]).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثم جعل من حقوقه حقوقاً فرضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافى في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلا ببعض، فأعظم مما افترض الله تبارك وتعالى من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله عز وجل لكل على كل، فجعلها نظام ألفتهم وعزاً لدينهم وقواماً لسنن الحق فيهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية من الوالي حقه وأدى إليها الوالي كذلك عز الحق بينهم، فقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السنن، وصلح بذلك الزمان وطاب بها العيش وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء»([257])).
منح الحريات الاقتصادية للناس
قال السيد الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه تحت عنوان: (الحرية الاقتصادية):
(مسألة: يجب على الحاكم الإسلامي والحكومة الإسلامية، منح الحرية الاقتصادية التي قررها الإسلام لكل الناس، وذلك بأن تسمح لهم، بل وتساعدهم في إنتاج وتصنيع كل ما يحتاجونه أو يريدونه من مواد غذائية وإنشائية وخدماتية، سواء في مجال الزراعة، أو الصناعة، أو الفنون والتقنيات اللازمة، فتفتح عليهم أبواب العلوم، والحِرف، والمهن، والكسب، والاكتساب، والتصدير والاستيراد، وغير ذلك.
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً) ([258]).
وقال (صلى الله عليه وآله): «الأرض لله ولمن عمرها»([259]).
وقال (عليه السلام): «كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»([260])).
وقال الإمام الشيرازي في موسوعة الفقه تحت عنوان (تقرير الملكية الشخصية):
(مسألة: يقر الإسلام الملكية الشخصية بشكل نزيه، ويحترم أموال الناس كما يحترم أعراضهم ودماءهم، ولا يسمح لأحد ولا لجهة بالتصرف فيها إلا عن تراض حاصل بين الطرفين، أو عن طيب نفس من المالك، وذلك لما في تقرير هذه الملكية من منافع يتوقف عليها تقدم المجتمع ورقيّه، إضافة إلى ما فيه من احترام للإنسان واحترام لما يرتبط به.
وقال (صلى الله عليه وآله): «إن الناس مسلطون على أموالهم»([261]).
وعنهم (عليه السلام): «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه»([262]).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «المسلم أخو المسلم لا يحل ماله إلا عن طيب نفس منه»([263]).
وقال (عليه السلام): «مال المسلم ودمه حرام»([264]).
وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»([265]).
وروى ابن مسعود عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»([266]).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، من أخذ عصا أخيه فليردها»([267]).
وروى يعلى بن مرة الثقفي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر»([268]).
وروي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين»([269]).
وروي عنه (صلى الله عليه وآله) «ليأتين على الناس زمان لا يبالي الرجل بما يأخذ من مال أخيه بحلال أو حرام»[270].
بل فوق ذلك نجد الإمام الشيرازي يقول تحت عنوان (ديون الشعب يؤدّيها الحكام):
(مسألة: يلزم على الحاكم الإسلامي والحكومة الإسلامية تسديد ديون المغرمين المثقلين، فانه هو المسؤول عن ديون الشعب إذا لم يقدروا على الأداء، وفي ذلك روايات عديدة، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لما أعلن عن حكم الضمان الاجتماعي، وأنه إذا مات أحد وترك مالاً فلورثته، وإذا ترك ديناً فعلى الحاكم تسديده وأدائه، أسلم عند ذاك عامة اليهود، قال (عليه السلام): «وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم»([271]).
قال الراوي: سمعت علي بن موسى (عليه السلام) يقول: «المغرم إذا تدين أو استدان في حق أجل سنةً فإن اتسع وإلا قضى عنه الإمام من بيت المال»([272]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيما مؤمن أو مسلم مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك، إن الله تبارك وتعالى يقول: ]إنما الصدقات للفقراء والمساكين[ ([273]) الآية، فهو من الغارمين وله سهم عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه»([274]).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «من ترك ديناً أو ضَياعاً ([275]) فعليّ ومن ترك مالا فلورثته»([276])).
وقال الإمام الشيرازي رضوان الله عليه:
(حرية العقيدة والشعائر الدينية:
قوانين الدولة الديمقراطية في الوقت الحاضر تنص على حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية.
وقد سبق الإسلام إلى ذلك في القرآن وسيرة النبي والأئمة (عليهم السلام) فقد قال سبحانه: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256).
وقال تعالى: {لكم دينكم ولي دين} (الكافرون: 6).
وقال جل اسمه: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} (الغاشية: 21 ـ 22).
وقال جل اسمه: {وما أنت عليهم بجبار} (ق: 45).
وقال تبارك ذكره: {وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا واليه المصير} (الشورى: 15).
والنبي (صلّى الله عليه وآله) لم يجبر أحداً على تغيير عقيدته، كما أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يجبر أحداً على ذلك، والكل يعلم أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) استولى على عدة دول كانت مشركة أو يهودية أو مجوسية أو مسيحية فلم يجبرهم على تغيير دينهم كما ذكرنا تفصيل ذلك في بعض الكتب الإسلامية، والبلاد إنما دخلت في الإسلام لما رأوا من صحة عقيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحسن قوانينه).
وقال أيضاً:
(لا عنف ولا إرهاب
مسألة: يحرّم الإسلام الغدر والاغتيال وكل ما يسمى اليوم بالعنف والإرهاب، فانه لا عنف في الإسلام، بل الإسلام هو دين السلم والسلام، والصلح والوئام.
ولا يجوز أي عمل يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، على تفصيل ذكرناه في كتاب (اللاعنف في الإسلام)([277].
وقال قدس سره:
(لا للتجسس
مسألة: يحرم التجسس على المسلمين ووضع الجواسيس عليهم، فان التجسس خلاف حرية الإنسان التي أقرها الإسلام، بل ورد الأمر بحسن الظن وحمل فعل الغير على محامل الخير.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا»([278]).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم([279]) عندك أطلبهم([280]) لمعايب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك»([281]).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء»([282])).
وقال أيضاً:
(عدم جواز تفتيش البيوت:
في قوانين عالم اليوم تجد النص على حرمة المساكن، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها بدون إذن أهلها إلا بأمر اضطراري ثانوي (والضرورات تقدر بقدرها).
وقد سبق الإسلام هذه القوانين في جعل ذلك، ففي القرآن الحكيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم} (النور: 27 ـ 28).
وقصة عمر وتجسسه في الليل ودخوله في دار إنسان من الحائط مشهورة، حيث إنه وجد في دار جماعة يشربون الخمر فتسوّر الحائط ودخل الدار ونهرهم عن عملهم، فقالوا: إنا أخطأنا خطأ واحداً أما أنت فقد أخطأت ثلاثة أخطاء: أخطأت حين تجسست والله يقول: {ولا تجسسوا} (الحجرات: 12).
وأخطأت حين تسلقت الدار والله يقول: {وأتوا البيوت من أبوابها} (البقرة: 189).
وأخطأت حين لم تسلم والله يقول: {حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (النور: 27).
وقد نصت القوانين في العالم الديمقراطي على حرمة أمور الإنسان التي يريد إخفاءها كالمراسلات والمحادثات التلفونية، والدور والمحلات التي يجتمع فيها الإنسان مع أصدقائه وأعوانه وغيرهم.
وقد سبق الإسلام إلى ذلك، فقد روى الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: (أيما رجل اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم ففقؤوا عينه أو جرحوه فلا دية عليهم)[283].
وعن عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (اطلع رجل على النبي (صلّى الله عليه وآله) من الجريد، فقال له النبي: لو أعلم انك تثبت لي لقمت إليك بالمشقص حتى أفقأ به عينيك، قال: فقلت له: وذاك لنا؟ فقال: ويحك ـ أو ويلك ـ أقول لك: إن رسول الله فعل، وتقول ذلك لنا!)[284].
وعن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث المناهي: (أنه نهى أن يطّلّع الرجل في بيت جاره، وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم، أو عورة غير أهله متعمداً أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله إلا أن يتوب)[285].
وقال الإمام الشيرازي:
(لا للتعذيب
مسألة: التعذيب حرام في الإسلام، ولا يجوز انتزاع الإقرار ممن يحتمل فيه الإجرام سياسيا كان أم غير سياسي بالضرب والتعذيب، بل يجب التوصل إليه بالطرق الشرعية، وإذا أقرّ في هذه الصورة فلا اعتبار به.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد أن يبعث سريةً دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها»([286]).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته للحسن (عليه السلام): «يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»([287]))
وقال أيضاً:
(حرمة الظلم
مسألة: لا يجوز الظلم سواء من الحاكم أو غيره، فانه من أشد المحرمات شرعاً، كما يجب التحلي بالعدل والإنصاف.
عن أبي بصير قال: دخل رجلان على أبي عبد الله (عليه السلام) في مداراة بينهما ومعاملة، فلما أن سمع كلامهما قال: «أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم» ثم قال: «من يفعل الشر بالناس فلا ينكر الشر إذا فعل به، أما إنه إنما يحصد ابن آدم ما يزرع وليس يحصد أحد من المر حلواً، ولا من الحلو مراً، فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما»([288]).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله»([289]).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد، وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف([290]) برضى الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة»([291]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة»([292]).
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: «من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»([293]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان»([294]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل»([295]).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن لله جنةً لا يدخلها إلا ثلاثة، رجل حكم على نفسه بالحق ورجل زار أخاه المؤمن في الله ورجل آثر أخاه المؤمن في الله»([296])).
اضف تعليق