يمثّل هدف التغيير الفكري، بوساطة الإقناع، حجر الزاوية في رؤية الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) لقضية التغيير والتجديد الدائم، فقد دعا سماحته دائما الى انتهاج السلم في تحقيق التغيير الفكري للمسلمين نحو الافضل، وجاء ذلك في معظم المؤلَّفات التي طبعها، وفي المحاضرات التي ألقاها الامام الشيرازي طيلة حياته، والتي لم يتوقف فيها لحظة عن العطاء.
وقد تنبّه المتابعون من الكتاب والمفكرين لفكر الامام الشيرازي الى هذه الركائز الفكرية التي تقدم على السلمية والاقناع في بلوغ أهدافها، والابتعاد التام عن الإجبار والمنهج القسري، إذ يقول الدكتور خليل الربيعي في هذا المجال: (يعد السيد الشيرازي من ابرز المنظرين لنظرية السلم في العلاقات الدولية إذ لم تعد قضية السلم استحسانا من سماحته، وإنما أشادها على قاعدة رصينة من الأدلة الثقيلة (القرآن الكريم والسنة القولية)، والممارسة العملية أيضا للرسول الأكرم (ص) وال بيته (ألائمة المعصومين) عليهم السلام.
ويضيف الدكتور الربيعي ايضا: (وانطلاقا من إيمان السيد الشيرازي بان الدين الإسلامي رسالة تغييرية للفرد والمجتمع فانه يؤمن بأن عملية التغيير الفكري لا تحصل بالقوة، وإنما بالقناعة، وهذه تحتاج إلى أساليب سلمية وليست عمليات إكراه وقسر، ومن هنا فان الأصل في الإسلام هو السلم، سيما وان الإسلام رسالة يراد منها تغيير الناس في المعمورة).
لذلك يرى معظم النقاد والمفكرين والباحثين في فكر الامام الشيرازي، أن تجربة التأليف الخلاّقة للإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدّس سره الشريف)، تتميز بسعتها أولاً، وامتدادها لتشمل جوانب الحياة كافّة، وتتوزع على مسارات تطبيقية حياتية، وعلمية فقهية، قدّمت للمسلمين وللإنسانية عموماً، أفكارا عميقة وخلاّقة، عبر مئات الكتب والمجلّدات.
وقد تم ذلك بأسلوب وصفه كثير من المختصين بـ (السهل الممتنع)، حيث توجّهت هذه التجربة الفكرية نحو البحث في كل ما يتعلّق بحياة الإنسان والطبيعة، بالإضافة الى بحث الإمام في مجال الفقه بصورة معمّقة وسهلة الفهم للقرّاء والمتلقين عموما، ولم تنحصر هذه التجربة في مجال حياتي معين، أي انها لم تبقى ساكنة في الاطار الديني، بل طرقت أبواب العلم والبيئة والاقتصاد والادارة والاجتماع والفلسفة وما الى ذلك من مجالات واسعة ومتعددة في حياة المسلمين والبشرية جمعاء.
الإمام الشيرازي أبرز دعاة الإصلاح
لا يخفى أن الاصلاح يعد أهم ركيزة لبناء الدولة والمجتمع والفرد كذلك، ونظرا لهذه الأهمية التي يكتسبها الإصلاح في نظر الامام الشيرازي، فقد بذل سماحته أقصى ما لديه من جهود فكرية لكي يضع أفكاره التجديدية موضوع التطبيق والوصول الى ابعد نقطة ممكنة.
وفي هذا الجانب يقول الشيخ عبد الله احمد اليوسف عن الامام الشيرازي: (يعتبر الإمام الشيرازي واحداً من أبرز دعاة الإصلاح والتجديد في القرن العشرين، فقد كان مجدّداً في الفقه، ومجدّداً في الفكر والثقافة، ومجدّداً في الحوزات العلمية، ومجدّداً في المرجعية الدينية، وقد امتلك الإمام الشيرازي عقلية مبدعة ومبتكرة مكنته من الإبداع والتجديد والتطوير في مختلف حقول المعارف الدينية. وقد قام الإمام الشيرازي بالفعل بتأليف الكثير من الكتب التي تتناول القضايا المعاصرة، والمسائل المستجدة، كما أجاب في العديد من كتبه عن الكثير من الإشكاليات المطروحة عن الإسلام، وتمكّن من عرض مبادئ الإسلام وقيمه ومثله للأجيال المعاصرة).
والى جانب جهوده الفكرية في الاصلاح، سعى الامام الشيرازي الى نبذ العنف بطريقة منهجية، واضحة المعالم، وقابلة للتطبيق، فالى جانب التخطيط الفكري هنالك الجانب التطبيقي لوأد العنف، إذ يقول الباحث العلمي في جامعة دمشق من كلية الصحافة.. الاستاذ هيثم المولى عن الإمام الشيرازي في هذا الجانب: (يعد الإمام محمد الحسيني الشيرازي- قدّس سرّه- الداعية الإسلامي الوحيد في عالمنا المعاصر وأحد أبرز رجالات القرن العشرين طرحاً وتصدياً لمفهوم اللاعنف بكل مجالاته العملية والتطبيقية والفكرية وكان قد طرحه كإطار مرجعي فكري إذ هو بعداً نفسياً وروحياً واجتماعياً في جميع التعاملات الإنسانية، ويؤكد دائماً بأن مبدأ اللاعنف يحتاج إلى نفس قوية جداً تتلقى الصدمة بكل رحابة).
ويضف المولى قائلا: (إن الإمام الشيرازي - قدس سره- يرى أن النفس البشرية تمتلك الخصائص النوعية لتدعيم السلوك الإنساني من خلال قوة التطبع بطابع السلم والمسالمة، فاتجاهات التطبيع الاجتماعي والنفسي والأساليب الموصوفة تتشابه تشابهاً كبيراً في التربية وفي المجتمع الواحد والتنشئة الاجتماعية وهذه الآراء تتلاقى مع آراء علم النفس الاجتماعي).
ويؤكد الباحث هيثم المولى قائلاً في هذا المجال: (يتحقق العصيان المدني عن طريق العمل المباشر من خلال الاحتجاج أو الضغط السياسي. ويعرفه الإمام الشيرازي - قدس سره- اللاعنف بقوله: هو الطريقة التي يعالج بها الإنسان الأشياء سواء كان بناءاً أو هداماً بكل لين ورفق حتى لا يتأذى أحد من العلاج وقد عرفته الموسوعة السياسية بأنه سلوك سياسي لا يمكن فضله عن القدرة الداخلية والروحية في التحكم بالذات وهي المعرفة الصارمة والعميقة للنفس).
التجربة المتميزة في التأليف
أما في مجال التأليف، فلا شك أن طاقة الامام الشيرازي في هذا المجال، تعد من الطاقات المتفردة في هذا العالم الشاق، ومع ذلك، فقد ترك الامام الشيرازي مئات المؤلَّفات تتوزع بين مجلد وكتاب وكتيّب وكراس، كلها تنطوي على تجارب فكرية تخدم المسلمين في مجالات متعددة، يقول الكاتب حسن آل حمادة في تجربة التأليف للامام الشيرازي: (قد لا نعدو الحقيقة لو قلنا بأن الإمام الشيرازي: هو نابغة الدهر ونادرة التأليف، بل هو سلطان المؤلّفين، كما وصفه بذلك الدكتور أسعد علي أخيراً، فقد تجاوزت مؤلّفاته الألف إصدار، بين موسوعة وكتاب وكتيب وكراس، فسماحته لا يفتأ عن مسك القلم ليكتب ما فيه خير وصلاح لهذه الأمة. وقد "لا نخطئ إذا قلنا أن الهدف الذي نستنبطه من كتابات الإمام الشيرازي... يكاد لا يتجاوز تحقيق سعادة الناس، ووحدة المجتمع الإسلامي. ولكنه يعطي لمفهوم سعادة الإنسان بُعداً أخروياً، أي أنّ الهدف هو رضوان الله جلّ وعلا).
ومن الجدير بالذكر ان مؤلّفات الإمام الشيرازي قارب الـ (1500) مؤلَّف بين مجلّد ومتاب وكرّاس، وهو عدد كبير قياساً للتجارب التأليفية الاخر، لذلك يعرف عن الإمام حبّه الكبير للكتابة والقراءة المتواصلة، ناهيك عن نصحه المتواصل لكل من يلتقي على اهمية الاطلاع، والكتابة وما شابه، وهنا يؤكد الكاتب آل حمادة نفسه عن الإمام الشيرازي قائلا:
(من الأمور التي تتناقل عن سماحته، أنه دائماً ما ينصح زائريه بضرورة الكتابة والتأليف خاصةً في مجال تخصصاتهم، وفي معظم الأحيان يقدم لمريديه وبيده الكريمة، بعض مؤلفاته المناسبة لهم، والتي تتلاءم غالباً مع ثقافتهم؛ فالكثير من زوّاره لم يخرجوا من بيته، إلاّ وفي أيديهم ما يناسبهم من كتبه. والإمام الشيرازي لا يكتفي بتأليف الكتّاب ونشره، بل يشجع أفراد الأمة على الإسهام في ذلك، كل من موقعه).
لذلك نلاحظ في الغالب ان الإمام الشيرازي، يركّز كثيراً على اهمية الكتابة والتأليف، ثم على الطبع والتوزيع، ويدعو دائماً الى اهمية وصول الكتاب الى جميع المسلمين مهما تباعدت أماكن اقامتهم، بل ويذهب الإمام الى اكثر من ذلك، حين يربط بين التقدّم والازدهار من جهة، وبين تأليف وطبع وتوصيل الكتاب الى المسلمين عموماً من اجل زيادة الوعي، من هنا نقرأ في كتاب الإمام الشيرازي (طريق التقدّم): (سابقاً كانت الأمة الإسلامية مجدّة في تحصيل العلوم وتربية العلماء والاحتفاء بهم والأخذ عنهم، ولذلك تطوّرت الأمة حتى سبقت جميع الأمم في مختلف مجالات الحياة فأصبح المسلمون آباء العلم الحديث).
من هنا جاء تركيز الامام الشيرازي على اهمية التغيير والتجديد الفكري عبر الوسائل السلمي وليس القسرية، وسعى (رحمه الله) طوال سنوات ومراحل عمره، الى توصيل الافكار عبر الكتب او عبر الصورة والصوت الى المسلمين، كي يستعيدوا ما فقدوه من موقع صدارة في العلم والدين والاجتماع، وهو قابل للتحقيق فيما لو سعى المسلمون الى هذا الهدف الكبير، وفق السبل الصحيحة التي نجدها متوافرة بوضوح في التجربة الفكرية الخلاقة للامام الشيرازي.
اضف تعليق