q

لا خير في حياة رغيدة تفتقر للحرية، وكل الخير في حياة التقشف مع الكرامة وحرية الرأي، فما فائدة أن يعيش الانسان حياة الدعة والترف والنعومة، وهو لا يستطيع أن يقول رأيه كما يعتقد، وما فائدة العيش في حدود مغلقة يتحكم فيها الآخرون من الأغراب المستعمرين، او الحكام الطغاة الفاسدين، في حين أن الله تعالى منذ أن خلق الانسان، منحه الحرية معها، علما أن حياة الزهد، هي الحياة الأصحّ للانسان، نفسيا وماديا، لذلك عاشت النماذج الخيّرة عبر التاريخ، حياة الورع والتقشف وفضلتها على حياة الترف.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (ممارسة التغيير) حول هذا الجانب: (كان الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام يتسمون بالزهد والورع حتى نزلت في حقهم: *ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة*).

إن حياة الزهد تسمح لصاحبها أن يؤثر الآخرين ويفضلهم حتى على نفسه، ومن يتمكن أن يساوي بين حبه لنفسه وللناس بصورة متساوية، سوف يكون قادرا على العيش بأقل التكاليف الممكنة، ويكون في الوقت نفسه، قادرا على تقديم العون والمساعدة لمن يحتاجها، فيكون في هذه الحالة، مصيبا في حالتين، الاولى انه يعيش البساطة والامان والورع، والثانية انه مستعد على الدوام للتضحية من اجل الآخرين.

والناس من هذا النوع، غاليا ما يكتفون بأنفسهم، فلا يكلفون غيرهم عبء حياتهم او ما يحتاجونه من ملبس ومأكل وشراب، إنهم يخدمون أنفسهم بأنفسهم، ولا يتكاسلون عن القيام بهذه المهمة قط، وعندما يكون المجتمع برمته من هذا النوع، فلا يمكن لجهة طامعة ان تستغل هذا المجتمع او تطمع به، لأنه يستغني عن حياة الترف ويعيش التقشف والاكتفاء بما يتوافر له من صنع نفسه ويديه.

لذلك يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع المهم في كتابه المذكور نفسه: (الإنسان إذا صنع ملابسه بيده غزلاً وخياطة، وبنى بيته بنفسه هندسة وعملاً، وهيّأ طعامه بنفسه إعداداً وطبخاً وغير ذلك، وفر لنفسه قسطاً كبيراً من الاكتفاء الذاتي، واستغنى في كثير من شؤونه الفردية عن الآخرين). والانسان الذي يستطيع أن يكتفي بنفسه ويستغني عن الحاجة للآخرين، هو الانسان الأكثر حرية من غيره، والاكثر قدرة على العيش في حرية، ولا يمكن أن يكون تحت رحمة الحاجة الى المادة، ولا يكون عبدا للترف وحياة النعومة والبطر.

التقشف يساعد على الادّخار

يعد الإدخار من المبادئ الاساسية التي تسهم في خلق اقتصاد متين متماسك، وينطبق هذا على حياة الفرد والجماعة صعودا الى المجتمع، ولعل التقشف كما اثبتت التجارب، من أهم السبل التي تساعد على الادخار، لذلك اذا اراد فرد، او مجموعة سياسية، حزب او منظمة، قيادة المجتمع من اجل التغيير نحو الافضل، فإن الادخار، والتخطيط لخلق ركائز قوية للاقتصاد سليم ومعافى، يعد من اهم العوامل المساعدة على تحقيق هذا الهدف.

يقول الامام الشيرازي جول هذا الموضوع: (وهكذا ينبغي يكون التقشف في كل مجالات الحياة الفردية لممارسي التغيير، من سفر وحضر، وبناء وسكن فالسفر قد يكون بالسيارة الفارهة، أو بالطائرة المريحة، أو بالقاطرة الجاهزة، وقد يكون بالسيارة من الدرجة الثالثة أو بركوب الدابة أو بالمشي على الأقدام أو غير ذلك).

ولكننا نلاحظ في بلادنا مثلا، كثرة السفر للمسؤولين، والسفر هنا ليس من اجل خدمة الشعب والفقراء، وانما من اجل تحقيق نزوات زائلة ومصالح مادية فردية لا علاقة لها بمصلحة الدولة او المجتمع، مثل هؤلاء القادة المسؤولين عن بناء الدولة والمجتمع، لا يستحقون شرف المسؤولية، كونهم بعيدين كل البعد عن حياة التقشف والزهد والورع.

فالانسان الذي تقوده نفسه، وتتحكم به غرائزه وأهواؤه، لا يمكن أن يحقق مكسبا للشعب او الدولة، بل لا يحقق أي مكسب حتى لنفسه، وهو بعيد كل البعد عن حياة الزهد والورع، التي عاشها أئمة اهل البيت عليهم السلام، لذلك ينبغي أن يتنبّه هؤلاء القادة والمسؤولين الى ان حياة التقشف تساعد في بناء الدولة والمجتمع.

ولا شك ان كل خطوة يتم اتخاذها في هذا الاتجاه، تعد في صالح الدولة والشعب، وتصب في جانب الادخار، وبناء الاقتصاد السليم الذي يساعد على الاكتفاء الذاتي للبلد، والاستغناء عما يقدمه الاستعمار او الدول الطامعة من مواد استهلاكية، تخلط السم بالعسل كما يقال، لهذا فإن التقشف بشكل عام يسهم بصورة جيدة في بناء الاقتصاد، وتقشف المسؤولين بصورة خاصة والناس بصورة عامة يساعد على ذلك بقوة.

يقول الامام الراحل حول هذا الموضوع في كتابه (ممارسة التغيير): (من الواضح أن السفر المتقشف يوفر للإنسان المال كما أن الإنسان الذي يبني مسكنه بيده يوفر على نفسه المال أيضاً).

التصدي لأساليب الاستعمار الاقتصادي

لهذا يعد التقشف من الوسائل المهمة التي يعتمدها قادة التغيير، فضلا عن كونه من اساليب التي يتم اعتمادها في مقارعة خطط الاستعمار بأشكاله الجديدة، أي عير العسكرية، وعير الاحتلال المباشر، فهنا احتلال من نوع آخر هو الاحتلال الاقتصادي، حيث يجعلك المستعمِر، بحاجة الى صناعته دائما، فيصدّر إليك ما يصنعه من سلع، مقابل نهب ثرواتك الطبيعية ومواردك المالية، وهو اسلوب اتبعته الدول الاستعمارية مع الدول المتأخرة.

كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بهذا الخصوص: (من الواضح أن من أنواع الاستعمار هو الاستعمار الاقتصادي لبلاد الإسلام والذي هو شايع الآن فيشترون منا المواد الخام بأثمان رخيصة جداً ثم يبيعونها لنا بأثمان باهظة جداً).

لذلك من المهم بل والحتمي، أن يكون التقشف والاكتفاء الذاتي، سياسة اقتصادية ثابتة وراسخة في البرنامج الاقتصادي لقادة التغيير، من اجل الحد من حاجتنا للدول التي تريد أن تستعمرنا اقتصاديا، فهذا الاسلوب المكشوف، من الممكن التصدي له عن طريق التقشف، واعتماد سياسة الصناعة الذاتية حتى لو كانت يدوية، كما فعل غاندي عندما طرد الاستعمار البريطاني بمثل هذه السياسة الاقتصادية الناجحة على الرغم من بساطتها.

لذا يقول الامام الشيرازي بكتابه نفسه: (إذا اتخذ الممارسون للحركة التقشف والاقتناع بمنتجات البلاد اليدوية ونحوها يكونون قد قضوا - بذلك - على نصف الاستعمار على أقل تقدير). ويضيف سماحته قائلا في هذا المجال: (إذا سرت هذه الروح في الأمة لا بد وأن ينحسر الاستعمار عن البلاد، ومن الواضح أن هذا الأمر مشكل وأحياناً مشكل جداً، إلا أنه إذا وجد في الأمة حافز التغيير لا بد وأن يسهل الأمر كما نرى ذلك بالنسبة إلى الأمم التي تريد التقدم).

فالمهم هو توافر حوافز التغيير، ومن ثم الشروع في التخطيط والتنفيذ، ويأتي الاكتفاء الذاتي عبر التقشف في مقدمة السبل التي يمكن من خلالها، مقارعة خطر الاستعمار الاقتصادي، كذلك هناك ميزة اخرى للتقشف، وعدم استيراد السلع الاقتصادية من الخارج، حيث يتم إظهار طاقات الناس في الابتكار والتحوير والصناعة، بما يسد النقص، ويساعد على متانة الاقتصاد المحلي، بعيدا عن تحكم الاستعمار بنا.

لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب بكتاب (ممارسة التغيير): (اذا حصلت إرادة التغيير في الأمة فإنها بالإضافة إلى الاستفادة من التقشف، فإنها تساعد على اظهار ما ذكرناه من القدرات الهائلة في الامة والقيادات الرشيدة لها).

اضف تعليق