منهج الإمام علي (ع)، منهج الغدير القائم على قيم عظيمة كالعدل والإنصاف واللين واللاعنف، وهي قيم ما أن تمسكت بها أمة حتى ارتقت في سلم الحياة إلى أرقى القمم والمراتب، فليكن المسلمون اليوم، في الحاضر والمستقبل، من المحتفلين بهذا العيد العظيم، لأن الاحتفال به يعني إنصاف الإمام علي (ع)...
(يوم الغدير هو اليوم الذي تمت به النعمة واكتمل به الدين) الإمام الشيرازي
في هذه الأيام المباركة نستعيد ذكرى عيد الغدير، ونستعد للاحتفال به كمسلمين بكل جوارحنا، فهو عيد عظيم تم فيه تنصيب الإمام علي بن أبي طالب (ع) خليفة لرسول الله (ص)، وتم هذا الإعلان جهارا نهارا بلسان عربيّ فصيح هو لسان خاتم الأنبياء النبي محمد (ص)، حين أمر المسلمين جميعا بمبايعة أمير المؤمنين (ع)، بشكل صريح لا يقبل الغموض أو المخادعة.
لهذا يستحق هذا اليوم أن نجعل منه علامة فارقة في التاريخ الإسلامي، سواء على الصعيد السياسي أو الأصعدة الأخرى، حيث تتجلى في شخصية الإمام علي (ع)، جميع الصفات الواجب توافرها في شخص الحاكم، وحين نحتفل في هذا العيد بما يليق به، إنما نحن ننتصر للحق والإنصاف والعدالة والاستقامة التي لطالما وجدنا في شخصية الإمام علي (ع) فكرا ومبادئَ وسلوكا.
تتجلى عظمة هذا العيد في قول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، نقرأهُ في كتابه القيّم الموسوم بـ (عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام):
(يوم الغدير هو اليوم الذي تمت به النعمة واكتمل به الدين، فهو يوم عظيم ذو أهمية خاصة وقدسية كبيرة عند المسلمين وخصوصاً الشيعة منهم، وذلك هو بمثابة إعلاناً رسمياً في تعيين الإمام علي -عليه السلام-في هذا اليوم أميراً للمؤمنين من قبل الله تعالى).
حين نعطي هذا الحدث الإسلامي التاريخي قيمته ومكانته، إنما نقرّ بذلك بإحقاق الحق، ونساند أنفسنا قبل أي شيء آخر، فنحن نحتاج إلى النموذج السياسي في الحكم دائما، كما أننا في حاجة ماسة إلى ضبط سلوك الحكام والمسؤولين، من خلال تمسكهم بقوة بمنهج الإمام علي (ع)، وترسيخه لمبدأ الإنصاف ونشر العدالة الاجتماعية، واهتمامه بالشريحة الأضعف صعودا، لنجد جميع أفراد الأمة يعيشون في رفاه وكرامة عبر جعلهم سواسية، ولا أحد فوق أحد.
كلما تمسكنا بالاحتفال السنوي العظيم بعيد الغدير، صرنا أكثر قربا من المنهج العادل الكريم المنصف في إدارة شؤون الناس، وكلما أحيينا هذه الذكرى بعمق وصدق ومسؤولية، أصبحنا أقرب إلى حياة الاستقامة، لهذا يجب أن نعيد لهذا اليوم (يوم الغدير) مكانه العظيمة عند الرسول (ص)، وعند أئمة أهل البيت (ع).
الإمام الشيرازي يقول:
(كان الأئمة من أهل بيت رسول الله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يوصون شيعتهم بالاحتفال بهذا العيد العظيم وإظهاره بأجلى المظاهر، فهم -عليهم السلام- كانوا يجعلونه يوما فريدا ومشهودا بين أهليهم وذويهم).
ما حصل في التفاف السقيفة
حين نتساءل لماذا كان الإمام علي (ع) خياراً للنبي الأكرم (ص) كخليفةٍ من بعده للمسلمين، وأوجب عليهم إطاعته وسماعه كحاكم يدير لهم شؤون حياتهم ودولتهم، إن هذا الخيار يستند أولا إلى أمر إلهي معروف ومثبت، وثانيا يعرف الجميع العلاقة العظيمة التي تربط بين النبي (ص) والإمام علي (ع)، إنها ليست علاقة قرابة فقط، بل هي علاقة رحلة طويلة تتلمذ فيها الإمام على يد الرسول (ص)، فعاش معه ونهل من فكره وسلوكه ومبادئه فشكّل امتدادا للدوحة النبوية.
هل هناك من هو أكثر علما من النبي (ص) بمن يخلفه في قيادة المسلمين؟، الجواب معروف للجميع، ولكن مع ذلك حصل التفاف (السقيفة) على ما أعلنه وأقره الرسول الأكرم (ص)، بخصوص تنصيب الإمام (ع)، خليفة من بعده، وتجرّأ من تجرّأ ليكسروا كلام النبي (ص)، وقراره، وهو قرار معلَن على رؤوس الأشهاد، لا يمكن نكرانه، لاسيما ممن بايعوا الإمام علي (ع)، ثم انقلبوا ضده.
يقول الإمام الشيرازي:
(منذ بدء الدعوة الإسلامية عيّن رسول الله (ص) علياً (ع) خليفة من بعده حيث قال لزعماء قريش يوم الدار: هذا خليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. وبقي النبي (ص) ينص على خلافة أمير المؤمنين (ع) من بعده في مواقف مختلفة وبعبارات متعددة، إلى أن حج رسول الله (ص) حجته الأخيرة المسمّاة بحجة الوداع، وبعد أن رجع المسلمون من حجهم أنزل الله تعالى قوله:
[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ].
فأمر النبي (ص) بالمسلمين أن ينزلوا بغدير خم وأن يرجع من سبق منهم ويلحق من تأخر، ثم نُصب له منبر من أكوار الإبل، فقام (ص) وخطب بالمسلمين خطبة عظيمة، ثم أخذ بيد علي أمير المؤمنين (ع) ورفعها نحو السماء وقال (ص): من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله).
هذه الوقائع لا يمكن المساس بمصداقيتها، فهي حدثت أمام جمع كبير من المسلمين، وكان الإمام علي (ع)، بعد التجرّؤ بالانقلاب، يذكّر الجميع بحقه في الخلافة، وبكلام الرسول (ص) وأوامره المعروفة، بَيْد أن حبائل الدنيا أعمت بصائر المنقلبين، وصاروا يعلنون بأن الإمام علي (ع) تنازل عن حقه في الحكم، وهو كلام مراوغ لا أساس له من الصحة قيد أنملة.
لكن الإمام لم يهادن المنقلبين، وكان يذكّرهم باستمرار بأوامر وقرار النبي الأكرم (ص)، ومع كل ذلك غَشِيتْ عيونهم وقلوبهم المخادعة والمكابرة الفارغة، و واصلوا منهج السياسة الغادرة، بل واستمرأوا مخالفة ما أوصى به الرسول (ص)، ولم يعرفوا بأنهم بمنهجهم هذا إنما يسعون إلى قلب الحقائق وتزويرها، لكن أنّى لهم ذلك وشمس الحقيقة لن يغطيها غربال الأكاذيب.
يقول الإمام الشيرازي:
(لم يتنازل الإمام علي (ع) عن حقّه في الخلافة بعد رسول الله (ع) وإنما نحُـّي عنها بتآمر القوم حيث بايع البعض ابن أبي قحافة في سقيفة بني ساعدة، وأجبروا الناس على البيعة، لكن الإمام (ع) لم يبايعهم قط. وكان يحتج عليهم بما نص عليه النبي (ص) يوم الغدير).
تمسكوا بمنهج الإمام علي تنجحوا
كان الإمام علي (ع) يدعوا المسلمين إلى إحقاق الحق، ويطالبهم بما نصت عليه أوامر ووصايا النبي الأكرم (ص)، ولكن كل هذا كان يتم بمعية الصبر الذي أوصي به الإمام (ع)، من أستاذه ومربيه النبي محمد (ص)، ومما عُرف عني سيرة الإمام علي (ع)، أنه التزم داره قرابة (25)، رغم أن حقهُ غُصِبَ في وضح النهار.
وقد نبّهَ الإمام علي (ع) إلى هذا الحق المغدور في إحدى خطبه الشهيرة المسماة بـ (الخطبة الشقشقية)، واضعا النقاط على الحروف، مبيّنا حقه الثابت والواضح كوضوح الشمس في خلافة معلّمه الرسول محمد (ص)، وقدراته التي تميزه من بين أعظم قادة الإسلام في إدارة الدولة وترسيخ قيم العدالة والإنصاف.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن الإمام عليه السلام كان موصى بالصبر والكف عن القوم، فقد لزم داره مدة 25 سنة، مجهولاً قدره مغصوباً حقّه، وقد أشار عليه السلام في خطبته الشقشقية إلى تداول القوم بالخلافة وتنحيتهم إيّاه عنها، فقال: أما والله لقد تقمّصها فلان وإنه ليعلم أنّ محلّي منها محل القطب من الرحى. ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا).
ومع هدر الحق بصورة علنية، وبالطريقة التي فُصَّلتْ في أعلاه، والمحاولات الكريهة التي هدفت إلى تهميش الإمام علي (ع) من قبل أعدائه، إلا أنه بقيَ القامة الإسلامية الأجلّ والأكثر عدلا وإنصاف والأشد بأسا في الملمات، وكيف لا وهو أخذها عن معلمه النبي (ص)، لهذا شهد الغريب قبل الصديق، والمضاد قبل المؤيد، بعلمية الإمام علي (ع)، وحلمهِ، وحكمته، وشجاعته، وإنصافه حتى لأعدائه.
يقول الإمام الشيرازي:
(لقد بقي الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام- رغم أنوف أعدائه علماً من أعلام الدين وركناً من أركان الهدى والتقى، ليس عند شيعته فقط بل وحتى عند الآخرين).
هذا هو منهج الإمام علي (ع)، منهج الغدير القائم على قيم عظيمة كالعدل والإنصاف واللين واللاعنف، وهي قيم ما أن تمسكت بها أمة حتى ارتقت في سلم الحياة إلى أرقى القمم والمراتب، فليكن المسلمون اليوم، في الحاضر والمستقبل، من المحتفلين بهذا العيد العظيم، لأن الاحتفال به يعني إنصاف الإمام علي (ع)، والانتصار لقضيته التي يجب أن تصبح قضية أمة الإسلام كي يرتقوا.
اضف تعليق