الإنسان الذي يكون صالحا في أعماله التي يقدمها للآخرين، لابد أن يكون مؤمنا، والإيمان هنا ليس الديني حصرا، وإنما إيمان بكونك إنسان مطالب بأن تُحسن التعامل مع الآخرين، ولهذا عليك أولا أن تُظهر المحبة الصادقة للآخرين، والهدف من ذلك أن يكون هذا السلوك نوعا من الثقافة السلوكية لأفراد المجتمع...
(الصالح محبوب والطالح مُبغَض، هذه سنّة أودعها الله في الكون)
الإمام الشيرازي
لمتانة واستقرار البنية الاجتماعية دور حيوي وأساس في تطوير الدولة والمجتمع، ومن هذه البنية تحديدا ينطلق التطور في المجالات الأخرى السياسية والاقتصادية، ولمتانة بنية المجتمع شروط وأسس، أهمها الموّدة بين الناس، والمحبة التي تجمع بينهم، وقد اختلف العلماء في معنى المحبة، فقيل إنها ترادف الإرادة بمعنى الميل، وهي كلمة تستعمل في الفلسفة والدين للدلالة على العلاقة المعطاء الخالصة، ويُقصَد بذلك الحب الذي أطلقه أفلاطون قديما ويعرف بالحب الأفلاطوني.
ولكن قطف ثمار المحبة لا يتم جزافا، لا أحد يستطيع حصد ما لا يزرع، والمحبة زراعة بذورها التصرّف والتعامل الجيد مع الآخرين، فإن أراد الإنسان حصد محبة الناس واحترامهم وتأييدهم، فهذا يلزمه بالسلوك الحسن الذي يراعي مشاعر وحقوق الآخرين، ليس خوفا منهم أو طمعا بهم، بل يجب أن يكون هاجس محبة الناس ومودّتهم إنسانيا فطريا خالصا ونقيا.
هذا يعني أننا ملزمون بمحبة ومودة بعضنا البعض الآخر، بغض النظر عن تقارب المصالح، أو المنفعة المتبادلة، فإذا لم تكن عندك مصلحة معي أو منفعة، هل يعني هذا أنني أكرهك؟؟، أو أتجاهلك ولا أعبأ بحقوقك ومشاعرك لأنك لا تمثل فائدة أو منفعة لي؟، كلا بالطبع، فترميم البنية الاجتماعية يعتمد أولا، على مراعاة الحقوق والمشاعر المتبادلة بين الناس من دون مقابل نفعي أو طمعي.
إذا علينا أن نبحث عن الشيء الذي يُكثِر محبة الناس ومودّتهم لنا، وهي في الحقيقة أمور واضحة وضوح الشمس، ولا تحتاج إلى كثير عناء لمعرفتها، ببساطة إذا أردت أن يودَّك الناس لا تقدم لهم أكثر من المحبة والمودّة والاحترام الذي ينمّ عن التزام واحترام واعتراف بحقوق الناس عليك، وإذا كنت قادرا على أداء هذا النوع من الالتزام (إبداء المحبة والمودة للآخرين)، فإن المقابل الذي سوف تحصده، هو محبتهم ومودّتهم واحترامهم لك.
شروط تعزيز البنية الاجتماعية
إذاً الشيء الذي يقابل مشاعرك الجيدة إزاء الآخرين، وتعاملك الإنساني معهم، هو كسبك الأكيد لمحبتهم واحترامهم وتأييدهم، إذا كنت تحتاج إلى هذا التأييد لأي سبب كان، كأن يكون تأييدا سياسيا أو اجتماعيا أو سوى ذلك؟
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً).
فالإنسان الذي يكون صالحا في أعماله التي يقدمها للآخرين، لابد أن يكون مؤمنا، والإيمان هنا ليس الديني حصرا، وإنما إيمان بكونك إنسان مطالب بأن تُحسن التعامل مع الآخرين، ولهذا عليك أولا أن تُظهر المحبة الصادقة للآخرين، والهدف من ذلك أن يكون هذا السلوك نوعا من الثقافة السلوكية لأفراد المجتمع.
بمعنى أن المجتمع كلّه يراعي المحبة والاحترام المتبادَل بين أفراده، والغاية الأهم من نشر هذا النوع من التعامل والسلوك، هو تعضيد البنية الاجتماعية، وصولا إلى مجتمع يقوم في علاقاته وأنشطته المختلفة على المحبة والمودة والاحترام، وهناك فرق بين المحبة والمودة، فالأخيرة تُعرف بالتعبير عنها فعليّا، فيمكن أن تعرف مودة الآخر لك عبر ما يهدي إليك من أشياء، أما المحبة فهي تُعرف بجمال الكلام.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الإنسان والمحبة الاجتماعية):
(الود معناه المحبة والألفة وأحياناً يفرق بين المودة والمحبة، فالمودة تطلق على الحب الذي يتجاوز القلب ويظهر من خلال الأفعال ولكن المحبة حب يكمن في القلب ولا يتجاوزه إلى السلوك. فأحياناً يحب الإنسان صديقاً له في قلبه فقط فهذا يسمى (الحب) وأحياناً يهدي إليه كتاباً تعبيراً له عن حبّه وإظهاراً لمودته فيسمى مودة).
هكذا تُبنى المجتمعات، وتزداد لحمتها، وتتعاون فيما بينها، وفق سياقات تعاملية أخلاقية يتمسك بها الجميع، أو يُفترض أن يكون الالتزام جماعيا، فمن يكنّ لك المودة سوف تقابله بالمثل، ومن يقدم لك المحبة سوف تواجهه بالمثل، وهكذا تصبح ثنائية المحبة والمودة من أساسيات البنية الاجتماعية للأمم المتطورة.
العراقيون والعرب والمسلمون وعموم البشرية، في أمس الحاجة إلى توفير شروط تمتين البنية الاجتماعية، فليس هناك إنسان سوي (فرد أو جماعة)، قادر على مواصلة العيش دون أن يشعر بمحبة الناس ومودّتهم له، فالحب والمودة شيئان أساسيان في حياة الإنسان، ويحتاجهما للدعم المعنوي وللشعور بأنه مرغوب في وجوده الإنساني، وأي خلل في هذا الشعور والإحساس سوف يشكل أزمة نفسية، وجوع نفسي للشعر بمحبة الآخرين ومودّتهم.
الإنسان الصالح له مكانة خاصة
طالما أصبح الودّ والمحبة حاجة لا يمكن الاستغناء عنها، فعليك كإنسان أن تكون مستعدا وقادرا على تقديم المودة والمحبة للآخرين مثلما تطلبها منهم، وهذا من حق كل إنسان يراعي حاجة الآخرين في هذه الحاجة النفسية المعنوية، لذلك عليك أن تتعامل بمحبة وودّ مع الناس وحقوقهم، ومن ثم يجب أن يعاملوك بالمثل، هذا هو الحل المثالي لتمتين البنية الاجتماعية وخلق أواصر ربط متينة بين الجميع.
المبدأ هنا أن تعامل الناس بنقاء سريرة وعفوية خالية من الأهداف النفعية المسبقة، بل يمكنك أن تساعد الناس ماديا أيضا ومن دون مقابل، إذا كنت صاحب مهنة تساعد الناس على مواصلة حياتهم بصورة أفضل، كأن تكون طبيبا (إنسانيا) ليس هدفه الربح المادي من مهنته، وإنما الهدف هو معالجة الناس والتخفيف من آلامهم هو همّه الأول، وليس الحصول على المادة كما يجري اليوم للغالبية الأعظم من الأطباء، بعد أن تحوّلت مهنتهم إلى تجارة وربح، بعد أن كانت إنسانية أولا.
يقول الإمام الشيرازي: (الإنسان الصالح له مكانة خاصة في قلوب الناس ويحظى بمحبتهم وودهم، فمثلاً إذا كان الطبيب لا يأخذ أجرته إلا بمقدار حقّه وجهده وعمله عد من الصالحين وعرف بالصلاح بين الناس، وبهذا يكون موضع اعتزازهم واحترامهم. وهكذا كل إنسان مهما كان عمله فما دام يعمل لله ويخدم الناس فان الله معه، وسيلقي محبته في قلوبهم، وبذلك يكون محبوباً عند الجميع).
المشكلة هناك بعض البشر يخدع نفسه فيشعر أو يقول ويردّد بأن الناس تحبه، أو ينخدع بذلك من خلال الحاشية التي تحيط به إذا كان ذا سلطة عليا، ولكن في الحقيقة قد تخشاك الناس فتظهر لك المحبة الزائفة، نعم هنالك حب وتأييد زائف يُظهره الناس لصاحب المركز والقوة لوجود مصلحة لا أكثر، وهذا حب وودّ غير موثوق به لأنه يقوم على المصلحة والعلاقات الكاذبة.
أما حين تخدع الحاشية صاحب السلطة، بمحبة الناس وتأييدهم له، فهذا معروف تاريخيا وواقعيا، معظم الحاشيات التي تحيط بالحكام تزّين لهم محبة الناس وتأييدهم، لكن الحقيقة غير ذلك قطعا، لذا على الإنسان (حاكما كان أو مسؤولا أو غير ذلك)، أن يدقق في محبة الآخرين ومودّتهم له بنفسه، وليس من خلال الآخرين، الحاشية أو غيرها، وهذا ليس بالأمر الصعب، لأن الإنسان ذو الخلق الرفيع والمُحسن للآخرين يكون محبوبا حتى ممن قلوبهم معبّأة بالكراهية.
يقول الإمام الشيرازي: (كان فرعون يكن محبة خاصة لموسى (على نبينا وآله وعليه السلام) وذلك لسلوك وأخلاق موسى الحسنة، فإن الناس يميلون إلى الإحسان والأخلاق الحسنة. وقد ورد عن الرسول الأعظم (ص): «حسن الخلق يثبت المودة». وعن الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام قال: «من حسن خلقه كثر محبوه وأنست النفوس به»).
في النهاية، الفرد والجماعية كلاهما يحتاج إلى مودّة الناس ومحبتهم واحترامهم، هذه الحاجة معنوية نفسية بالإضافة إلى كونها ظاهرية، لذلك حين نفكر بتمتين البنية الاجتماعية، من المهم تعميق روابط المحبة والمودة فيما بيننا، وبهذه الثقافة نكون قد قطعنا شوطا مهما في بناء المجتمع والدولة والذات معا في وقت واحد.
اضف تعليق