تهدف المجتمعات المتطلعة نحو العلوّ والسؤدد إلى تمتين البنية الاجتماعية، وتضع شرط بناء الأسرة في مقدمة أولوياتها، بوصفها اللبنة المجتمعية الأصغر والأهم لبناء المجتمع، فلا توجد أمة متقدمة من دون عائلة متطورة، والأخيرة لا يمكن صنعها من دون إقامة علاقات زوجية متوازنة بين شركيّ الحياة الرجل والمرأة...
تهدف المجتمعات المتطلعة نحو العلوّ والسؤدد إلى تمتين البنية الاجتماعية، وتضع شرط بناء الأسرة في مقدمة أولوياتها، بوصفها اللبنة المجتمعية الأصغر والأهم لبناء المجتمع، فلا توجد أمة متقدمة من دون عائلة متطورة، والأخيرة لا يمكن صنعها من دون إقامة علاقات زوجية متوازنة بين شركيّ الحياة الرجل والمرأة.
إذاً يعتمد تطور المجتمع على تطور الأسرة، وتطور الأسرة يقوم على التوازن والتكافؤ في العلاقة بين الزوجين، وأي خلل يصيب هذه العلاقة سوف يخلخل البناء العائلي، وهذا بدوره ينعكس شيئا فشيئا على البناء الاجتماعي، لذلك يركّز العلماء المختصون على أهمية بناء الأسرة وتوازن العلاقة بين الزوج وزوجته، كونها تقع ضمن الشروط المهمة لضمان حياة أسرية ناجحة.
لماذا تتعرض الأسرة إلى خطر التفكك، ما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك، وكيف يمكن تدارك الأمور قبل أن تُصاب العائلة بالتفكك؟، الرجل بطبيعته التكوينية يعتمد العقل في قراراته وسلوكه، أما المرأة فإن العاطفة هي التي تتحكم بأفكارها وسلوكياتها، هذا هو الفرق بين الاثنين، وهو في الحقيقة فارق حدّي، فالعقل يتناقض من حيث ردود الأفعال مع العاطفة.
هل يمكن تفادي هذا التناقض في التفكير والسلوك بين العقل والعاطفة (بين الرجل والمرأة وكيف)، هناك قانون أو معادلة فيزيائية تنص على أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب، هذا القانون ينطبق على العلاقة بين الرجل والمرأة والعقل والعاطفة، بمعنى أن الأخيرين مختلفين مع بعضهما (العقل والعاطفة) لذلك فهما يتجاذبان ويكملان بعضهما، وبهذا فإن الرجل مكمّل للمرأة.
يحدث هذا النوع من التكامل على الرغم من اختلاف طبيعة العقل عن العاطفة، فالأخيرة سريعة في الحضور ورد الفعل، وسريعة في الزوال أيضا، بمعنى تحصل بشكل سريع وتزول بشكل سريع ولا تتسم بالديمومة، على العكس من العقل الذي يتسم بالبطء والثبات، فما يحدث سريعا يزول سريعا، وما يحدث بتأنٍّ وبطء وهدوء، يزول ببطء أيضا، هذا هو الاختلاف الجوهري بين العاطفة والعقل، والذي يعدّ سببا ودافعا للتكامل بين الاثنين.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الأزمات وحلولها):
(من الواضح أن العاطفة سريعة الفوران وسريعة الزوال بينما العقل بالعكس، وفي المثل (سريع النمو سريع الزوال) وهكذا عكسه، فبطيءُ النموّ بطيء الزوال، وقد كانوا يمثّلون لذلك بالشجر، فان الأشجار بطيئة النمو بطيئة الزوال، بينما النباتات سريعة النمو سريعة الزوال).
من أسباب هشاشة المجتمع
التجاذب والتقارب الذي يحدث بين العقل والعاطفة، بين الرجل والمرأة، يمكن أن يتعرض للتذبذب والاهتزاز، لأسباب كثيرة، وهذا يؤدي بدوره إلى خلخلة البناء الأسري الذي ينعكس بدوره على البنية الاجتماعية، وكل هذا يحدث بسبب تجاوز الإنسان على طبيعته التكوينية، ولذلك لا يمكن أن نُرجع أسباب تخلخل العلاقات الزوجية إلى العقل والعاطفة وحدهما أو إلى أسباب خارج الذات الفردية والجمعية.
الأسباب التي تقف وراء هشاشة البناء الاجتماعي متعددة، منها التقصير الذي يقع على عاتق المؤسسات والجهات التي تعلن عن دعمها للمؤسسة الأسرية ولا تفعل ذلك، بمعني هناك من يتبجح بدعم الأسرة وتزويج الشباب ومساعدتهم في بدايات تأسيس الأسرة، لكن القول شيء وتطبيق الوعود شيء آخر.
فكثير من العائلات تهدمت بسبب عدم وقوف المؤسسات المعنية مع الشباب، لاسيما المتزوجون حديثا، حيث تحتاج الأسرة في بداية تكوينها إلى دعم مادي ومعنوي وتوجيهي متواصل إلى أن تثبت جذورها في التربة الصالحة، هذا الدور المؤسسات الخيري قليل أو منعدم مما يتسبب في زيادة حالات الطلاق كما يحصل اليوم في عموم مناطق ومحاكم العراق.
نعم هناك أسباب فردية تعود للشخص نفسه، الزوج أو الزوج، بمعنى يتحمل هذان الطرفان مسؤولية في تكوين الأسرة، كذلك أهل الزوجين لهما دور في دعم أو تدمير الأسرة الحديثة، من خلال التدخل السليم أو غير الصحيح في الحياة الأسرية للزوجين حديثا الزواج، نجاح الزواج إذن يعتمد على تحمل الجميع مسؤولياتهم.
يقول الإمام الشيرازي:
(الأزمة هنا أيضاً من أنفسنا فرديّاً أو اجتماعياً. وإلا فمدرسة الإسلام قد بيّنت للجميع ما هو لازم في الحياة الزوجية، ووضعت الوقاية والعلاج في ذلك).
الدور الإيجابي للمؤسسات الخيرية لدعم الأسرة
يبقى القطبان المعنيان مباشرة بتأسيس العائلة، هما من يتحمل نجاح أو فشل استمرار هذه المؤسسة الاجتماعية بالغة الأهمية، فالتعاون المشترك بين الزوجين يقضي على الكثير من أسباب الفشل، والتفهّم المتبادل لدور كل منهما يصب في مصبّ تثبيت أركان مؤسسة المجتمع الأصغر (العائلة).
لهذا هناك تركيز كبير على التعاون المتبادل بين الزوجين، أكده العلماء والفقهاء والمصلحون الدينيون والاجتماعيون، كما ركز عليه علماء الاجتماع، فإذا تعرض بناء الأسرة إلى التهديم من داخلها (الزوج، الزوجة، أهل الزوج والزوجة)، فإن قضية بناء أسرة ناجحة يصبح في عداد المستحيل.
المؤسسات الاجتماعية والدينية والخيرية يقع عليها وزرها في هذا المجال، من حيث الدعم المادي والمعنوي والتوجيهي، ولكن يبقى المرتكز الأول لديمومة المؤسسة الاجتماعية الأصغر (الأسرة)، يكمن فيما يبديه الزوج من دعم وتفهّم وتعاون مع الشريك، وهو دور أساسي في دعم ديمومة الأسرة ونجاحها.
لتثبيت هذا الرأي والحل الناجع، يورد الإمام الشيرازي هذا الحديث في كتابه (الأزمات وحلولها):
عن أمير المؤمنين علي (ع) قال: (دخل علينا رسول الله (ص) وفاطمة جالسة عند القدر وأنا أنقي العدس، قال: يا أبا الحسن، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: اسمع مني ما أقول إلا انّه من أمر ربي: ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله تعالى من الثواب مثل ما أعطاه الله الصابرين وداود النبي ويعقوب وعيسى عليهم السلام).
من أركان بناء الأسرة الناجحة، أن يكدّ الرجل ويعمل باستمرار لإعالة زوجته وأولاده، فالاحتياج المادي وتلبية متطلبات الأفراد داخل العائلة يقع في صلب مسؤولية الرجل، ولهذا ينظر الدين والأحكام الشرعية إلى هذا الدور بمنظار خاص ومهم، فالرجل حين يتلكّأ في إعالة الزوجة ومتطلبات العائلة، يرتكب السبب الأول لتهديمها، لكن من المهم على الجهات المعنية أن توفر فرص العمل المناسبة.
في حال توفرت فرص العمل وقام الزوج بالتملص من مسؤوليته في الإعالة، فإنه سوف يتحمل المسؤولية كاملة، ولكن حين لا يجد فرصة عمل فإن المؤسسات والجهات الحكومية والمدنية (القطاع الخاص) يقع عليها سبب تدمير الأسرة، ومن ثم أسباب تدمير البنية الاجتماعية وإضعافها بسبب التقصير في دعم الأزواج.
يركز الإمام الشيرازي على وجوب التزام الزوج بدوره في القيام بتوفير احتياجات الزوجة وأفراد العائلة، ويؤكد في المقابل الثواب العظيم الذي سوف يحصل عليه الرجل الذي لا يتوانى عن خدمة عائلته دون جزع أو ملل.
فيجيء الإمام الشيرازي بهذا الحديث الشريف: (عن الرسول صلى الله عليه وآله قال: من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب).
العلاقات الزوجية هي حجر الزاوية في ترصين البنية الاجتماعية، وهذه العلاقات لا يمكن لها النجاح دون توفير العوامل المطلوبة التي تتوزع على جانبين، أحدهما ذاتي يقع على الزوج وشريكته، والثاني يقع على مؤسسات المجتمع المدنية والرسمية، وحين يقوم الجميع (الزوج والزوجة والمؤسسات) بدورهم كما يجب، فإن نجاح الأسرة يكون مضمونا، كما أن نجاح المجتمع سوف يكون المحصلة الأكيدة.
اضف تعليق