الأمم الراسخة تسعى لتثبيت أركان التميز والثبات لها بين أمم الأرض، ويندر أن تجد أمة تسيء لنفسها، من خلال الإساءة لرموزها المقدسة وتاريخها الناصع، كما حدث مع فاجعة البقيع الغرقد، حين أقدمت زمرة باغية من الزمر التكفيرية ذات العقول المتحجرة على هدم قبور ضمت أشرف خلق الله طرّأً...
الأمم الراسخة تسعى لتثبيت أركان التميز والثبات لها بين أمم الأرض، ويندر أن تجد أمة تسيء لنفسها، من خلال الإساءة لرموزها المقدسة وتاريخها الناصع، كما حدث مع فاجعة البقيع الغرقد، حين أقدمت زمرة باغية من الزمر التكفيرية ذات العقول المتحجرة على هدم قبور ضمت أشرف خلق الله طرّأً.
فما هي البقيع الغرقد، وكيف امتدّتْ لها معاول الإثم بالتهديم والتدمير والمحو الصارخ؟، البقيع الغرقد هي تلك البقعة التي ارتبطت منذ أكثر من 1400 سنة بالنبي صلى الله عليه وآله، وضمّت في ثراها أجساداً طاهرة لم نجدها في أية بقعة أخرى عداها، فأمست من أقدس الأماكن الإسلامية وأطهرها.
وعلى مدى أكثر من ألف سنة، صارت ملاذاً لأصحاب الحاجات، وطلاب الشفاعات، ومزاراً للمؤمنين الكرماء، ومهبطاً محبوباً للقلوب النقية الصافية على مر الأجيال، وعلى الرغم من كل المحاولات الآثمة لإبعادها عن الساحة الإسلامية والقدسية الروحانية، إلا أنها بقيت وجهةً لأنظار المسلمين يحدوهم الحنين إليها، والاحتماء بقدسيتها المعطّرة بأجساد الدوحة المحمدية.
لقد أصرت الزمر التكفيرية، ومن يقودها ويوجهها ويدعمها من ناقصي العقول، ومن ذوي القلوب التي تغص بالكراهية لرموز المسلمين، على اقتراف هذه الفعلة النكراء، فأقدمت على هدم قبور البقيع، في سابقة لم يتجرّأ على ارتكابها أبشع الناس وأكثرهم شرّا في ربوع الأرض.
فأية جرأة تلك التي تقود زمرة ضالة للتطاول على أعظم رموز المسلمين، وأي استهتار بالإسلام والمسلمين وتراثهم قادهم إلى هذه الجريمة البشعة، حين تتطاول الأيدي الآثمة على قبور ضمت جسد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وضمت أجساد عدد من الأئمة الأطهار عليهم السلام.
إنها فعلة خسيسة يندى لها الجبين، وترفضها كل الأعراف والأخلاقيات، ويدينها القائمون على حفظ التراث الإنساني، كون هذه المعالم تعد من ممتلكات الإنسانية بأسرها، ولا تخص المسلمين وحدهم، ولكن ما كان لزمر التكفير أن تتجرأ وتقوم بما قامت به من جريمة نكراء، لو لا الدعم المفتوح والتخطيط المسبق للقيام بمحو آثار أهم رموز الدين الإسلامي.
كل هذا لم يحدث مصادفة، بل هناك من خطط ودفع للتنفيذ، أملا بإطفاء جذوة الإسلام التي حماها الله تعالى، من الخفوت والانطفاء وظلّت تشعّ في سماء الإنسانية كلّها، حاملة معها دور النبوّة والإمامة إلى يوم يُبعثون.
وعند التحري والبحث عمّن يقف وراء هدم قبور البقيع المقدسة، سوف نصل إلى أدلة قاطعة تؤكد بأن أذرع الاستعمار هي التي خططت ومهدت ونفذت الجريمة، من أجل إبعاد المسلمين عنها، بعد أن هدمت القباب والأضرحة التي بنيت على تلك القبور، وأية قبور هي؟؟، إنها تضم أعطر وأشرف خلق الله.
الأمم الراقية تعتز بمقدساتها
في كتابه القيّم (البقيع الغرقد)، يتطرق الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، إلى جريمة هدم قبو البقيع، ويفصّل تاريخ هذا المكان، وأسباب القدسية التي حصل عليها، وتلك الأجساد الطاهرة التي ووريَت في ثراه، وأولها يعود لنبي الإسلام محمد (ص)، والأئمة من أبنائه (ع).
الأمم الراقية هي التي تعتزُّ بمقدساتها، وتحافظ أقصى ما يمكن على تراثها، فكيف إذا كان التراث لخاتم الأنبياء وأشرفهم، من المعروف أن المقدسات تحمل معها أسبابُ قدسيتها، لاسيما أنها المكان الذي يجمع قلوب الأمة جميعاً، وقد حاول الاستعمار أن يمحو من ذاكرة المسلمين رموزهم ودلالات هذه الرموز.
وما خطوة هدم البقيع إلا واحدة من هذه الخطوات الخبيثة التي سعت لتفريق الأمة، ومن ثم إضعافها، وتشتيت جهودها، ومنع وحدتها، حتى يسهل للاستعمار الانفراد بمكوناتها، كلّا على حدة، لكن قدسية الأرض محمية برموزها.
الإمام الشيرازي يشير إلى هذه النقطة في كتابه (البقيع الغرقد) فيقول: (قد تتقدس أرض بقدسية من قتل على ترابها أو دفن فيها وهذا أمر واضح وبديهي عند كل المبادئ والشعوب، فالقبور لها حرمتها وخاصة عند ذويها).
لم يراعِ المعتدون حرمة البقيع، ولم يحسبوا حسابا لمكانة النبيّ الأكرم (ص) ولا للأئمة الكريم الذين صارت أرض البقيع مثوى لهم، لقد تجاوز الآثمون كل الخطوط بفعلتهم هذه، ولا يمكن إيقاف تداعياتها وآثارها إلا بإعادة قبور البقيع وبناءها من جديد، واحترام هذا التراث الإسلامي الإنساني النفيس.
فأرض البقيع حصلت على قدسيتها من الرموز الإسلامية العظيمة التي دُفنت في صراها، فالأماكن والمدن تأخذ مكانتها وقدسيتها من الأجساد التي تُدفن فيها، وليس من ذاتها، فالتضاريس والرمل والصخور لا تمنح القدسية للأرض. فهناك أراضٍ حصلت على قدسيتها، ليس من رملها أو صخورها، أو من تضاريسها الطبيعية، بل هناك إرادة ربانية منحتها هذه المكانة كما في (الوادي المقدس)، أو أرض كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وغيرهما.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (عندما نقول كربلاء المقدسة أو النجف الأشرف أو بقيع الغرقد... فإن الأمر بقداسة تلك البقاع واضح وضوح الشمس في رابعة النهار...).
وذلك لوجود الأجساد الطاهر للنبي (ص) والأئمة الأطهار (ع) في هذه الأرض التي حصلت على قدسيتها من وجودهم، مما يدعو بحتمية تامة إلى تصحيح هذا الخطأ الذي لا يجوز السكوت عليه في أي حال من الأحوال، فمطالبات إعادة بناء قبور البقيع لن تتوقف على مر الزمان، وفضح هذه الجريمة ومن يقف وراءها لن تتوقف حتى تُعاد عملية بناء القبور وإحياء المنطقة واستقبال الزائرين.
المطالبات مستمرة بإعادة بناء البقيع
إن أوامر الهدم معروف مصدرها، والاستعمار لا يخفي ذلك ولا يستحي منه، لكن ما بال من يُنسب نفسه للإسلام والمسلمين وهو يأتمر بأوامر الاستعمار ويقوم بهدم القبور المقدسة؟؟، فما أن صدرت أوامر الهدم حتى تكالبت الذيول الخانعة لتنفيذ إرادة الأجنبي حتى يتحقق لهم ما خططوا له وحلموا به.
أما تلك الأهداف فهي تتجسد بتفكيك وحدة المسلمين، من خلال القضاء على الطقوس المقدسة كالحج، والرموز النبوية متمثلة بهدم قبور البقيع الذي (كان قد هُدّم حديثا بأمر من الاستعمار، والمسلمون كانوا يرقبون بناءها كما كانت منذ أكثر من ألف سنة، لكنها لم تجدد.. والى يومنا هذا!)، كما أكد ذلك الإمام الشيرازي في صفحات كتابه البقيع الغرقد.
لم يكتفِ الجهلاء المتطرفون الأشرار ذوو العقول المتحجرة، بهدم قبور البقيع المقدسة، وهذا فعل مرفوض جملة وتفصيلا، لكنهم فعلوا ما فعلوه، من دون تردد أو حياء أو أخلاق، ولا يعنيهم هذا الهدم من تدمير لوحدة المسلمين وتراثهم، والمشكلة أنهم لم يقفوا عند حد تهديم القبور!!
فقد شرعوا بإحراق الكتب والمخطوطات الإسلامية النفيسة التي كانت موجودة في البقيع، وهي خلاصة جهود فقهية وعلمية لا تقدَّر بثمن، لكن يد الجهل طالت تلك المخطوطات النفيسة وقضت عليها.
وهو ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله: (مما ضاع وأهدِر من هذا التراث مُضافاً إلى القبور الطاهرة، تلك الكتب الكثيرة الثمينة المخطوطة التي أزالوها بالإحراق ونحو ذلك، فلا يمكن إعادتها حتى بعد إسقاط السيف من أيدي الأشرار).
وتعرضت آثار الرسول الأكرم (ص)، والمسلمين للتدمير، في حملة متطرفة هدفها القضاء على الإرث الإسلامي النبوي المشرق.
فكما يقول الإمام الشيرازي: (تم التطاول على الكثير من آثار رسول الله صلى الله عليه وآله، والتراث الإسلامي مثل (باب خيبر) الذي قلعه أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقد كان الباب موجوداً إلى قبل تسلطهم على هذه البلاد الطاهرة. مع إزالة العشرات من آثار رسول الله (ص) وآله الأطهار وأصحابه الكرام باسم توسيع مسجد النبي )ص) أمر غير عقلائي وغير شرعي، بل تضييع للتراث الإسلامي والتاريخي).
إننا نعيش في هذه الأيام هذه الذكرى الأليمة والفاجعة الكبرى، فحري بنا أن نستعيد ما حدث من هدم همجي لقبور البقيع، ويجب أن تبقى أصواتنا عالية قوية صادحة بصوت الحق، حتى يُعاد الحق لأهله، ويتم تصحيح هذا الفعل الأهوج، من خلال إعادة بناء قبور البقيع، وفتح المزارات أما المسلمين لينهلوا من النبع النبوي علما ودينا وشفاعة، وليرتقي المسلمون بوحدتهم إلى مصاف الأمم المتطورة الراسخة.
اضف تعليق