لا نريد أن نتجنى على أي مستشرق أو أي مفكر، فنحن نؤمن بحرية الحوار ونؤمن بانفتاح العقل على العقل، بل سنتناول في حديثنا لاحقاً بعض المبررات التي دفعت أولئك المستشرقين للكتابة عن الإسلام بهذه الطريقة السيئة وسوف ندرك أنهم كانوا محقين بعض الشيء فيما كتبوا عنه لأن الممارسات...
بقلم: راجي أنور هيفا
بدأ الإسلام بدعوة الآخرين إلى الحوار والى تبادل وتعديل المفاهيم التي ترتبط بالواقع الوجودي والغيبي للإنسان. ورأينا كيف أن هذه الدعوة نجحت حيناً وأخفقت أحياناً وذلك عندما رفض ذلك (الآخر) قبول الدعوة إلى الحوار والى تبادل الخبرات الحضارية التي يمكن أن تؤسس لحضارة إنسانية شاملة هدفها الأول الإنسان وسموه الفكري-الروحي. بحيث تتلاقح تلك الحضارات المختلفة فيما بينها، دون عملية إلغاء أو إذابة لأحد الأطراف، لتنتج بذلك حضارة عالمية يتقلص فيها الفكر السلبي لصالح ارتفاع الخط البياني في الفكر الإيجابي الذي يلخص غاية وهدف الإنسان في الوجود.
ولكن على ما يبدو، فإن الإسلام، كدين وكحضارة، كان ولا يزال ينظر إليه من زاويتين مختلفتين تماماً. فالزاوية الأولى تتجلى بالنظر إلى الإسلام كدينٍ مبني على أسس أديان سابقة عليه، ولذلك فليس من الضروري أن يكون الإسلام ديناً سماوياً.
ويذهب البعض إلى أن المسلمين (هم النصارى الذين توحدوا) (1) إذ ليس هناك من مسلمين حقيقيين، بل هناك فقط حنفاء ونصارى عادوا إلى دينهم الأصيل البعيد عن كل الشوائب.
ولو أردنا أن نستعرض نماذج لكتابات مفكرين غربيين وبعض المستشرقين، فسوف نلاحظ تلك النظرة الدونية التي ينظر الإنسان الغربي من خلالها إلى الإسلام والمسلمين.
وعلى سبيل المثال، يرى المستشرقين المعروف غوستاف جرونيباوم في كتابه (إسلام العصر الوسيط - دراسة في التوجه الثقافي) إن المسلمين يعيشون كراهية التطور والحنين المرضي إلى الماضي، وفي ذلك يقول: (مع ذلك، فالمسلم يكره التغيير، فالحياة المثالية والمجتمع المثالي عنده يتسمان بالثبات والقرار، وبينما الغرب يتوقع أن يكون التغيير إلى ما هو أحسن، نرى المسلم يجزم أن أمره لن يكون إلا إلى ما هو أسوأ) (2).
ربما يفهم من هذا الكلام أن المسلم في العصر الوسيط هو المقصود بهذه العبارات والأوصاف، ولكن الواقع ليس كذلك تماماً، فالمسلم بنظر العديد من مفكري الغرب، سواء كان ذلك المسلم في العصر الأول أم في العصر الآخر، ونقصد به العصر الراهن، فهو إنسان يعيش في ذاته حياة التقوقع وروح التخلف والانحطاط الحضاري.
ويذكر لنا على سبيل المثال أيضاً، المفكر الفرنسي روجيه غارودي مثالاً على هذه الفكرة التي نطرحها الآن. وذلك ضمن كتابه (الإسلام دين المستقبل). وتتلخص هذه الفكرة بتقديم مثال بسيط ساقه إلينا غارودي من إحدى كتابات الكاتب الفرنسي (أناتول فرانسس) الحائز على جائزة نوبل عام 1921، حيث يرى فرانس، باسلوبه الساخر، أن أسوأ يوم في التاريخ هو يوم موقعة بواتييه، ذلك اليوم الذي تراجع فيه العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة (3).
طبعاً، فإن أناتول فرانسس يريد هنا عكس ما قال تماماً، وقد أوضح لنا روجيه غارودي ما قصده فرانسس من وراء أسلوبه الساخر.
ولا نريد هنا أن نتجنى على أي مستشرق أو أي مفكر، فنحن نؤمن بحرية الحوار ونؤمن بانفتاح العقل على العقل، بل سنتناول في حديثنا لاحقاً بعض المبررات التي دفعت أولئك المستشرقين للكتابة عن الإسلام بهذه الطريقة السيئة وسوف ندرك أنهم كانوا محقين بعض الشيء فيما كتبوا عنه لأن الممارسات الخاطئة للعقيدة الإسلامية من قبل العديد من الذين تسلطوا على المسلمين باسم الخلافة هم الذين شوهوا صورة الإسلام والمسلمين.
وعلى أية حال، يرى البعض من الباحثين العرب أن المدارس الاستشراقية قد نشأت في إسبانيا، ففي الأندلس - كما يرى ذلك الدكتور (سمير سليمان)- قد تكون الاستشراق بعد تجاوزه حالة ردة الفعل على صدمة الهزيمة النصرانية أمام الفاتحين المسلمين (4)، إذ تأسس الاستشراق على حالة منظمة من حالات نظرة الأسبان خاصة والأوروبيين عامة إلى أنفسهم على أنهم حماة للمسيحية ضد أعدائها. وبالطبع، فإن هذه النظرة إلى الإسلام تجذر لمرحلة صراع حضاري هام بين الإسلام والغرب.
وقد انعكست صور هامة من النتائج السلبية بشكل جلي وبارز في العصور الوسطى، تلك العصور التي عملت على تسريع نضوج تلك النتائج المستخلصة من تجربة احتكاك الغرب بالمسلمين في الأراضي الأسبانية، وقد صرح الباحث المعروف (إدوارد سعيد) مؤكداً على خطورة تلك الفترة من فترات الاحتكاك بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وكانت النتيجة التي توصل إليها بعد جهود دراسية مضنية هي قوله (لم أستطع أبداً أن أكتشف أية حقبة في التاريخ الأوروبي أو الأمريكي، منذ العصور الوسطى، ثم إبانها بحث الإسلام أو التفكير فيه، بصورة عامة، خارج إطار ابتدعته العواطف والأهواء والانحياز والمصالح السياسية. وقد لا يبدو هذا الاكتشاف مذهلاً، ولكنه يتضمن كل ما يتصل بجميع الفروع العلمية والبحثية التي عرفت، منذ مطلع القرن التاسع عشر، أو التي حاولت أن تدرس الشرق دراسة منهجية) (5).
فالغرب، في مرحلة ما من مراحل تطوره، غرس في ذاته بذور إلغاء الآخر والتفوق عليه. ولئن كان من الصعب تماماً تحديد تلك المرحلة على وجه الدقة، فإنه من المسلم به أنه عمد إلى فعل ذلك في المراحل المبكرة للصدامات العسكرية المسلحة التي حدثت في النصف الثاني من زمن الإمبراطورية الأموية عندما حاولت تلك الإمبراطورية أن تتوسع في كل الاتجاهات من أجل بسط السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض المأهولة بالناس وبالثروات الوفيرة. ولكن كما ذكرنا، فإن المحاولات الدؤوبة لاسترجاع الغرب ما خسره في بعض مواقعه الجغرافية والفكرية قد تجلت بصورتها الأوضح في الأندلس مع بدء انهيار الدولة الأموية هناك.
ففي عام 1492م، أجهز النصارى الأسبان بقيادة الملكين فردينا وإيزابيلا على آخر خط دفاعي إسلامي في الأندلس، غرناطة التي سماها الباحث الألماني (أرست كونل) في كتابه (الفن الإسلامي) بـ(حضن الإسلام الأخير) وبسقوط هذا الحصن الأخير ختم على الوجود الرسمي السياسي والعسكري للمسلمين في شبه القارة الايبيرية (6).
وبعد هذه النتيجة في شبه القارة الايبيرية (اسبانيا والبرتغال)، حاول الغرب أن يعيد إثبات وجوده من خلال التخلي عن سياسة الدفاع واللجوء إلى سياسة الهجوم، حيث كان من نتائج اندفاع شعوب الأطلنطي إلى افتتاح البحار العالمية الكبرى أن هيأ ظروف تفجر نزاعات جديدة بين الغرب والمسلمين، وكان أن استقرت القوى الاستعمارية في إندونيسيا، المنطقة الإسلامية الأبعد عن أوروبا (7). وقد توالت بعد ذلك الحملات على البلدان الإسلامية.
ففي عام 1798 قام الغرب بهجومه المضاد الثاني ممثلاً بنزول نابليون بونابرت في الإسكندرية معززاً بالعديد من العلماء والخبراء والباحثين، وكانت تهدف تلك الحملات الناجمة إلى تأسيس أول دولة غربية في الشرق على أنقاض ما تم اقتطاعه من الدولة العثمانية (8).
وفي عام 1830 تم احتلال الجزائر من قبل القوات الفرنسية.
وفي عام 1857 قامت بريطانيا باحتلال الأراضي الهندية التي كانت محكومة من قبل ولاةٍ مسلمين.
وفي عام 1890 سقطت المفاوضات القوقازية وتركستان بيد الإقطاعيين القيصريين الروس.
وهكذا توالت الحروب والحملات على الأراضي الإسلامية من كل جانب إلى أن نجح الغرب في السيطرة على المحيطين الأطلسي والهندي وعلى العديد من البحار بما في ذلك البحر الأبيض المتوسط.
وقد تحولت جغرافية الأراضي الإسلامية إلى مجرد سجين مريض محاط بالعديد من المحاربين الذين يتصارعون فيما بينهم عليه.
إن هذه النظرة السريعة التي توضع لنا كيف استعاض الغرب عن سياسة الدفاع بسياسة الهجوم. تبين لنا بنفس الوقت كيف أن الغرب لم يكن يقصد السيطرة على الجغرافيا فقط، بل كان يهدف أيضا، من خلال ما جاء به من علماء وباحثين ومبشرين، إلى السيطرة الأيديولوجية على المسلمين.
ولكن القضية التي بقيت دون حل جذري هي الفترة التي نشأ فيها علم الاستشراق بشكله الأكاديمي الدقيق. وكنا قد ذكرنا قبل قليل أن هناك من يقول أن الاستشراق بمدارسه الفكرية قد نشأ أول ما نشأ في إسبانيا، ولكن هذه القضية الهامة لا تزال محل خلاف واختلاف بين العديد من المهتمين بعلم الاستشراق ومدارسه المتنوعة.
وقد رأى المستشرق الفرنسي (مكسيم رودنسون) أن كلمة (ORIENTALIST) (مستشرق) ظهرت في إنكلترا حوالي عام 1779م، وكلمة (Orientaliste) في فرنسا عام 1799م، ومن ثم تم إدراج كلمة (Orientalism) بمعنى الاستشراق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م (9). وعلى الرغم من أن رودنسون قد وضع أعواماً دقيقة، من وجهة نظره على الأقل، إلا انه من العسير معرفة من هو أول غربي اهتم بالدراسات الشرقية الإسلامية وما هي طبيعة الدراسات التي قام بها.
ويذهب الدكتور (محمد البهي) إلى أن الاستشراق في بعض الدول الأوروبية يرجع بتاريخه إلى القرن الثالث عشر الميلادي، ويرجح الدكتور البهي في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) انه كانت هناك دراسات استشراقية سابقة على القرن الثالث عشر ولكنها دراسات ومحاولات فردية وشخصية، ولكن الاستشراق كظاهرة جدية، اخذ يشق طريقه في أوروبا إثر مرحلة الإصلاح الديني المباشر (10).
وأياً كان الأمر، فإن هناك، على ما يبدو، حدثين هامين تركا أبلغ الأثر على التركيبة الفكرية للإنسان الغربي، وهذان الحدثان هما غزوا إسبانيا والحصار العثماني الثاني لمدينة (فيينا)، وهذا ما دعا (برنارد لويس) إلى القول: (لمدة ما يقارب من ألف سنة، منذ أول رسو مرسيكي في إسبانيا وحتى الحصار التركي الثاني (لفيينا)، كانت أوروبا تحت تهديد مستمر من الإسلام) (11)، وهذا يعني أن هذين الحادثين جعلا الإنسان الأوروبي يفكر ملياً بهذه القوة الجديدة التي قدمت إليه من الصحراء العربية كي تقوض جذوره في الأعماق وإن الأثر البليغ الذي تركته هاتان الحادثتان جعلت من المثقف الغربي إنساناً متعطشاً لمعرفة كل ماله صلة بابن الشرق الذي جاء إليه ليغزوه في عقر داره فكرياً واجتماعياً، والأصعب من ذلك روحياً أيضاً. وبالتالي، فإن أحد عوامل وجود الاستشراق كعلم قائم بذاته هو رغبة الغرب في التعرف على العدو الجديد بشكل كامل ومفصل، وخصوصاً ما يتعلق بعقيدته الدينية من أجل معرفته عن قرب ومن ثم حماية الإنسان الغربي من (خطره) ومن خطر اعتناقه إياه.
إذاً، بالإضافة إلى محاولة التعتيم على دين هذا العدو الجديد المناوئ للديانات السابقة المنسوخة، فإن غاية الاستشراق هي معرفة الشرق بكامل أبعاده وأعماقه، فهو علم الاستشراق- يريد أن يقدم للغرب صورة شاملة عن طبيعة الشرق، وبيئاته، لغاته، عقائده وأديانه السابقة، طبائع أهله، وصف مدنه..الخ.
وإذا كان هناك بعض المستشرقين الذين كتبوا عن الشرق بدافع المعرفة وبهدف الحقيقة الحرة، وهذا ما سنتوقف عنده لاحقاً، فإن عددهم قليل جداً بالقياس إلى أولئك الذين كتبوا عن الشرق الإسلامي بهدف النيل من عقائده من جهة، وبهدف التمهيد لوضع اليد عليه من جهة ثانية، فالاهتمام الأوروبي السابق والأمريكي اللاحق بالشرق عبارة عن اهتمام متأصل الجذور في الساحة السياسية، فالغرب، بعد أن استعاد وعيه ونهض من غيبوبته الطويلة، أراد أن يسترجع كامل صحته وعنفوانه عن طريق تقسيم الشرق (جيوبوليتيكياً) ومن ثم الاعتياش عليه.
وقد اختصر (صامويل هنتنجتون) الأهداف والغايات التي تقوم عليها سياسة الأمريكيين اليوم، والتي أسست على ضوء الأطماع الأوروبية السابقة، بقوله عن طبيعة الصراع بين الإسلام والغرب: (المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية، بل الإسلام: فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته، وهاجسه ضآلة قوته.
المشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات المركزية الأمريكية ولا وزارة الدفاع.
المشكلة هي الغرب: حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بعالمية ثقافته، ويعتقد أن قوته المتفوقة إذا كانت متدهورة، فإنها تفرض عليه التزاماً بنشر هذه الثقافة في العالم. هذه هي المكونات الأساسية التي تغذي الصراع بين الإسلام والغرب) (12).
إذاً، بالنسبة إلى الغرب، المشكلة المهمة لا تتجلى إلا بالإسلام ذاته عقيدة وفكراً وممارسة. وربما يكون هذا الكلام صحيحاً لعدة أسباب أهمها هو تعمد نشر الفكر الخاطئ والمضلل عن ماهية الفكر والعقيدة الإسلامية الصحيحة. فماذا نتوقع من الإنسان الأوروبي العادي وربما المثقف أحياناً، أن يكون رد فعله على الإسلام عندما يقرأ للعديد من المستشرقين أو المفكرين الذين كتبوا عن الإسلام وفقاً لهوائهم ورغباتهم؟.
فما هو رد فعل ابن الغرب الذي يقرأ كتاباً للمستشرق (مرجليوث) يصف فيه الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) بأنه كان يعيش من أموال السلب (13)، ولاهم له إلا افتعال الحروب من اجل الغنائم ؟.
وعلى أية ثقافة مضللة سينشأ ابن الغرب عندما يقرأ ما كتبه الأب البلجيكي (هنري لامانس) عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ذلك الرجل الذي عرف عنه أن مستشرق أكثر مما عرف عنه أنه أب، حيث وصف محمداً (صلى الله عليه وآله) بأنه رجل نؤوم أكول قد كثفت جسمه الملذات (14)؟!.
ولا بأس في أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن الشاعر الإيطالي (دانتي) صاحب كتاب (الكوميديا الإلهية) لم يستطع أن يرى في الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) أكثر من رجل شق عصا الطاعة عن الديانة المسيحية فاستحق بذلك أن يكون أحد ساكني (الجحيم) الأبدي. وعلى القارئ الذي يريد معرفة التفاصيل عن هذا الموضوع الحساس أن يعود إلى كتاب دانتي (الكوميديا الإلهية)، الجزء الأول منه، الذي يحمل عنوان (الجحيم)، الباب الثامن والعشرين تحديداً.
ولا نعتقد أن الأمر سيختلف كثيراً على الإنسان الأوروبي عندما يقرأ ما جاء في كتاب (عقيدة الإسلام وشريعته) للمستشرق المجري (غولدزيهر)، حيث يقول مؤكداً أن الدين الإسلامي عبارة عن نخبة مبادئ اعتقدها هو -أي محمد- بالاختلاط مع اليهود والنصارى وغيرهم من بقية الديانات الموجودة وقتذاك، ثم أقنع نفسه بأن هذه المبادئ التي قام بتجميعها هي من وحي إلهي نازل على لسانه (15).
والحقيقة، أن العديد من الباحثين الغربيين في العقائد الإسلامية وفي الدراسات التاريخية والحضارية يتفقون مع (غولدزيهر) في قضية التشكيك بالوحي الإلهي النازل على محمد (صلى الله عليه وآله). وقد قاموا بتفسير هذه الظاهرة الغيبية بأساليب وطرق مختلفة، غير أنها كلها تجتمع عند نتيجة واحدة وهي نفي نزول الوحي السماوي على نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله).
ومن أبرز هذه التفسيرات:
1- إن قضية الوحي السماوي عند محمد هي عبارة عن مجرد حالة إبداع فكري يعيشها العباقرة والمفكرون والشعراء المميزون، وقد أضاف بعض من تبنى هذا التفسير لقضية الوحي أن الوحي المنزل على مراحل ما هو في الحقيقة إلا تهويمات مرضية (Pathology) تنتاب الرجل العصابي حالة العبقري ذي الطبيعة والمزاج السوداويين (16).
2- أما التفسير الثاني للوحي السماوي، فيقوم على فكرة أن الوحي عمل من أعمال الشعوذة، فقد عرف النبي (صلى الله عليه وآله) العديد من الأعمال المرتبطة بالشعوذات وحيل الرومانيين وقد قام بممارستها بدقة وإتقان. ويزعم أصحاب هذا التفسير أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يعقد جلسات روحانية خاصة في دار الأرقم. أما المحيطون به فيؤلفون جمعية سرية، تشبه الماسونية، ولهم كلمات سر وعلامات خاصة للتعارف فيما بينهم (17).
بل ويذهب الباحث الفرنسي (المسيوكيمون) في كتابه (باثولوجيا الإسلام) إلى أبعد من ذلك عندما يؤكد للغرب قائلاً: (إن الديانة المحمدية جذام نشأ بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكاً ذريعاً، بل هي مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمور ويجمع في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهستيريا (الصرع) العامة والذهول العقلي وتكرار لفظة الله إلى ما لا نهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية، ككراهة لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى والجنون الروحاني والليمانيا أو الماليخوليا وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات..الخ الخ) (18).
وكمثل لهذا (الجذام)، فقد ارتأى (المسيوكيمون) أن يباد خمس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة وتدمير الكعبة ووضع ضريح محمد (صلى الله عليه وآله) في متحف اللوفر. فتأمل!!!
ولا نريد الآن استعراض كل ما قيل عن الإسلام من وجهات نظر سلبية روّج لها العديد من المستشرقين والمفكرين الغربيين، ولكننا أردنا أن نبين أن الإسلام كان ولا يزال عرضة لمجموعة من الاتهامات التي تبنى على أسس قديمة من العداء والكراهية.
وقد حذّر الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في كثير من كتاباته ومؤلفاته من الأقلام المأجورة التي تضع نفسها في خدمة التيارات المناوئة للعقيدة الإسلامية الصحيحة، تلك العقيدة التي بقيت صافية نقية كما جاء بها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) عن طريق الوحي الأمين (عليه السلام).
وكان تحذير الإمام الشيرازي من الأقلام المأجورة تحذيراً عقلانياً وموضوعياً بعيداً عن الدعوة إلى إحداث ردود أفعال سلبية بين صفوف المسلمين بحيث يدعوهم، مثلاً إلى العنف المسلح أو إلى القيام بأعمال إرهابية في صفوف الناس الأبرياء في المجتمعات الغربية أو في أي مكان آخر في العالم. ولقد أدرك سماحته أن الغرب ممثلاً ببعض رجاله لا ينظر إلى الخلافات القائمة بين الإسلام والغرب على أنها خلافات حضارية بين مجتمعين أو شعبين، وإنما هي خلافات أراد لها بعض أولئك المفكرين الغربيين أن تكون مبنية على الصراع بين حضارتين دينيتين، وقد أكد سماحته وجهة نظره هذه بالعديد من الأمثلة والأقوال لرجال فكر وسياسة وقادة عسكريين ومستشرقين قد تبنوا هذه النظرة تجاه الإسلام.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أورد الإمام الشيرازي في كتابه القيم (الصياغة الجديدة) قولاً بينا لـ(يوجين روستو)، رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية، ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس (جونسون) لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967 يقول فيه: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، لقد كان الصراع محتدماً ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي) (19).
وهكذا نرى أن الاسلام، بالنسبة لبعض الرموز الفكرية الغربية، هو العدو التاريخي للغرب ولعقائده الفكرية والروحية، كان يرمي إلى تحقيق هدفين فكريين في وقت واحد، وهذان الهدفان هما: إحراق الروح الإسلامية في صدر المسلم الحقيقي، أو على الأقل جعل العقيدة الإسلامية عقيدة مشوهة وناقصة في صدور المسلمين مما يفرغها من محتواها الروحي الأصيل مع الإبقاء على المظاهر والقشور، أما الهدف الثاني، فيتجلى في نشر الإلحاد بين صفوف المسلمين وجعلهم ينفرون عن دينهم ومن عقائده التي قدمت لهم بشكل مشوه وتحت عناوين براقة مثل (العلمانية) و(الشيوعية) و (الحضارة المادية) و..الخ.
وقد كشف الإمام الشيرازي في (محاضراته) اللثام عن الكيفية التي استطاع الغرب من خلالها أن يفرض قوته ومخططاته على المسلمين وهم في غفلة من أمرهم. وقد ذكر سماحته أهم ثلاثة أسباب لذلك، وهي:
1- قام الغربيون والشرقيون بإيجاد الحدود فيما بين البلاد الإسلامية، لأنهم أدركوا بأنه ما دام المسلمون منضوين تحت لواء الوحدة الإسلامية فلن يتسنى لهم -بلا لا يمكنهم أبداً- أن يسيطروا عليهم وينهبوا ثرواتهم، لذلك بضعوهم وقسموا بلادهم حتى يسهل لهم التهامها والسيطرة عليها، وساقوهم بهذا الاتجاه، ولذلك نرى المسلمين حالياً يسيرون نحو نفس الاتجاه الذي رسمه إليهم الاستعمار، ويتمسكون بالحدود الجغرافية التي أوجدها، وما ازدادوا بذلك إلا انحطاطاً وتأخراً توغلاً في التفرقة والتمزق.
2- القضاء على الاخوة الإسلامية، وإثارة المشاعر القومية الجاهلية والوطنية لتكون بديلاً عن تمسكهم بدينهم وعقيدتهم الإسلامية.
3- تعطيل القوانين الإسلامية، حيث أن من واجب المسلمين تطبيق كل ما جاء في الشريعة المقدسة تطبيقا كاملاً، ورفض كل الأحكام الوضعية المخالفة للإسلام والتأويلات الشخصية للآيات والأحاديث الشريفة، بينما خلاف ذلك هو السائد اليوم فيما بين المسلمين، وهو المنتشر انتشاراً واسعاً مما أدى إلى ضعفهم وانحطاطهم (20).
وغني عن القول أن محاربة الغرب لنا بنقاط ضعفنا جاءت عن طريق بعض المحاولات الناجحة التي قام بها المستشرقون والمبشرون الغربيون وذلك لفصل الإسلام النظري عن الإسلام العملي من جهة، ولفصل المسلم عن المسلم وعن موكب الحضارة من جهة ثانية. وقد تمت هذه المحاولات عن طريق تصعيد الصراعات الحضارية مع الإسلام بواسطة الباحثين والسياسيين والعملاء البعثات التبشيرية والحملات الإستشراقية السلبية البعيدة كل البعد عن روحية البحث العلمي والموضوعي.
ولو توقفنا مع ما جاء على لسان (صموئيل زويمر) رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس للمبشرين المنعقد عام 1935، سندرك ماهية الصراع الحضاري بين العالمين الإسلامي والعربي.
وقد دون الإمام الشيرازي ما جاء على لسان (زويمر) بشكل مفصل نظراً لخطورة كلامه وللمرامي البعيدة التي ينشدها من وراء بعثاته التبشيرية في البلاد الإسلامية.
يقول صموئيل زويمر مخاطباً المبشرين: (إن مهمة التبشير التي ندبتكم الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هدية لهم وتكريما.
إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، ولذلك تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية. لقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم له ألا وهو إخراج المسلم من الإسلام، إنكم أعددتم نشئ لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشئ الإسلامي مطابقاً لما أراده الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب حتى أصبحت الشهوات هدفه في الحياة. أيها المبشرون إن مهمتكم تتم على أكمل الوجوه) (21).
ولو حللنا، على ضوء علم النفس الحديث، هذه العبارات التي تفوه بها رئيس الجمعيات التبشيرية أمام المبشرين، فماذا سنلاحظ؟.
أول ما يمكن ملاحظته بعد تحليل هذه العبارات هو النزوع إلى هدم وتقويض المنظومة الفكرية الإسلامية عن طريق فصل الذات عن الموضوع.
أما النقطة الثانية، وهي الأكثر أهمية في التحليل النفسي، هي خلق حالة نفسية متأزمة سلباً داخل كل فرد مسلم، وتعرف هذه الحالة باسم (Splitpersonality) أي خلق حالة (الشخصية المنفصمة) ومن هنا تأتي خطورة الحقيقة التي تهدد المسلمين.
ربما يستطيع الإنسان أن يدرك طبيعة الحرب أو الصراع الذي يقوم عدوه به تجاهه سواء كانت تلك الصراعات عسكرية أم اقتصادية أم إعلامية، ولكن من الصعب جداً على ذلك الإنسان، وعلى أي إنسان آخر ونقصد بالإنسان هنا المجتمع بأكمله، أن يتنبه إلى الحرب النفسية التي يخوضها عدوه ضده إلا بعد مضي وقت طويل، وربما أحياناً بعد فوات الأوان.
وهنا تحديداً، أود أن أشير إلى نقطة بالغة الخطورة والحساسية تتعلق بنظرة الغرب السلبية تجاه الإسلام. وهذه النقطة التي أود التوقف عندا تستمد خطورتها وحساسيتها من النتيجة التي سنتوصل إليها من خلالها ربما كان الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي من السباقين إلى معالجة هذه النقطة بأسلوب علمي ومنطقي رصين.
إن هذه النقطة تطرح ذاتها من خلال الأسئلة التالية:
كيف شكل الغرب تلك الصورة الشوهاء عن الإسلام؟ ومن أين استمدوا موادهم الأولية لتشكيل تلك الصورة؟. سيتم الإجابة على السؤال في القسم الثاني من الفصل الثاني.
اضف تعليق