يقدم لنا شهر رمضان ثلاثين يوما تختلف عن كل أيام العام الأخرى، فأيام هذا الشهر عبارة عن لحظات روحانية تتألق فيها الروح، وترهف فيها الأحاسيس وترقّ فيها القلوب، ليصح الإنسان فيها أرقّ من نسيم الفجر، وأعذب من الماء الزلال، مما يجعله مستعدا للتعاون والتكافل والعفو...
(شهر رمضان بلسمٌ يبعث الارتياح والطمأنينة في النفوس المعذّبة)
تنتهز الأمم تلك الفرص الثمينة التي تتاح لها حتى تنبني نفسها اجتماعيا، فهذا النوع من البناء هو حجر الزاوية للتغيير والتقدم والتطور، ويقف شهر رمضان المبارك على رأس الفرص المتاحة لأمة المسلمين، كي ترمّم بنيتها الاجتماعية، وتنطلق بالسباق الذي تخوضه البشرية، في مضمار التطور بكل أشكاله.
يقدم لنا شهر رمضان ثلاثين يوما تختلف عن كل أيام العام الأخرى، فأيام هذا الشهر عبارة عن لحظات روحانية تتألق فيها الروح، وترهف فيها الأحاسيس وترقّ فيها القلوب، ليصح الإنسان فيها أرقّ من نسيم الفجر، وأعذب من الماء الزلال، مما يجعله مستعدا للتعاون والتكافل والعفو، مدعوما بأروع القيم التي تقرّب الإنسان من فطرته، وتبني حاجزا شاهقا بينه وبين الشرّ.
حين يصوم الإنسان، تتطهّر روحه، ويخشع قلبه، لاسيما إذا كان مدركا لمعاني الصيام وضوابطه، وحين يحاصره العطش والجوع وهو يقاوم ويصبر ويتأمّل، فإنه لا ريب سوف يشعر بما يستشعره الفقراء بسبب ضيق الحال، هذا الشعور هو ما تحتاجه الأمة، ويبحث عنه المجتمع كي يرتقي في علاقاته الاجتماعية، وتسود القيم التي تجعل الناس أكثر قربا من بعضهم بعضا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (كتاب شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(إن الصائم يشعر بالجوع والعطش.. فتطهر روحه، وتسمو نفسه، ويجتمع بفكره مع الفقراء فيحس بألمهم، ويدرك ما يدركون، فيرقّ لهم ويعطف عليهم).
من منّا لا يحمل في رأسه ذكرياته الرمضانية المتفردّة؟، ومن ينسى تلك الأجواء المكللة بالخشوع والهدوء والطمأنينة، كل شيء في شهر رمضان مختلف، الوجوه تمتلئ بنور الإيمان، والأرواح تحلّق في سماء الحب، حتى نبرة الصوت في هذا الشهر الكريم تختلف بين الناس، فتصبح أكثر لينّاً ولطفاً، ويستشعر الجميع نوعا من السكينة تخص الليالي الرمضانية وأجواءها.
الصائمون يجب أن يكونوا متعاونين
في النهار يسعى الصائمون في أرزاقهم، يعملون ويكدّون تحت وقْد الشمس، أو برد الشتاء، لكنهم صائمون بقلوبهم وألسنتهم وحتى أرواحهم، إنهم متحابّون متعاونون متكافلون، يمضون ساعات النهار تعبا وكدحا، وحين يأتي ليل شهر رمضان، يتغيّر كل شيء، تغتسل الأجساد من تعب النهار، وتتألق الأرواح في آفاق السعادة المتناهية، إنها لحظات رمضانية تحفر نفسها في ذاكرة الصائم إلى الأبد.
يقول الإمام الشيرازي: (إن شهر رمضان اجتماع في الليالي بالعبادة، وتفرق في النهار بالمعاش.. كله جد وعمل دنيا وآخرة، تبادل الحب، واجتماع فوق صعيد الطهارة، وتحليق في أجواء الروح).
أكثر الأشياء ازدهارا في شهر رمضان، علاقات التآزر والتزاور والتكافل، حتى يصبح الإيمان والخشوع خيمة تكلل رؤوس الناس، حيث تسمو النفوس فوق الصغائر، وتنمو شجرة التعاون بين الجميع، وتذوب ساعات الكدح النهارية في ساعات الليل الرمضانية المتوهجة بالهدوء والفضيلة.
في هذه الليالي يصبح قلب الإنسان أكثر رهافة، وروحه شعلة من الإيمان المقترن بالطمأنينة، فليالي شهر رمضان لا تشبهها الليالي الأخرى، إنها بالغة الهدوء والسلام وازدهار الآمال بحياة أفضل وأكثر رحمة، لاسيما مع تزايد نسبة التزاور والتآزر، وهي عوامل مهمة لتمتين العلاقات الاجتماعية، وترسيخ قيم التعاون والإنصاف، وإعادة بناء الثقة بين الجميع، وهذه عناصر تصب في تطوير وتدعيم البنية الاجتماعية التي هي أساس تطور البنى السياسية والاقتصادية وسواها.
لهذا ينتظر الناس هذا الشهر بلهفة مقرونة بالأمل، بل حتى الجهات الرسمية، والمؤسسات المدنية، تسعى في هذا الشهر إلى استثمار أجوائه، لصالح تطوير البنية الاجتماعية، من خلال تقديم العديد من الفعاليات والبرامج والندوات التثقيفية، أما الجمعيات ذات الطابع الديني فإنها تستثمر هذا الشهر بأفضل ما يمكن، فتقدم المحاضرات والمجالس لخطباء لهم باع كبير في توعية المجتمع.
غالبا ما تكون فعاليات هذا الشهر الكريم، واضحة الأهداف، قريبة من القلوب، ناصحة للنفوس، متحاورة مع العقول، كلّ هذا يجري تحت تأثير الأجواء الخاصة التي يتميز بها شهر رمضان، والفعاليات الاجتماعية المكثفة والمختلفة في هذه الشهر عن سواه، حيث تتوهّج روح التعاون والتكاتف والألفة بين الجميع، فيكون شهر رمضان المبارك، نقطة انطلاق للتغيير المرتقَب، مدعوماً بسلاسة الأجواء الرمضانية المتوهجة بالصدق والمحبة والخشوع.
يقول الإمام الشيرازي عن شهر رمضان بأنهُ (بلسمٌ يبعث الارتياح والطمأنينة في النفوس المعذّبة والقلوب المنكسرة والأجساد المنهكة، إنّه ضماد لجراحات القلب والجسد؛ يخفّف عنها عناء الحياة ومشاق العمل والكدّ، في لياليه المقمرة بالآمال وبأيامه الزاخرة بالعلاقات والزيارات وبالمحبة المتبادلة).
فوائد خصوصية الأجواء الرمضانية
مما لوحظ على الصائمين لهذا الشهر الكريم، أنهم يتحلّون بنكران الذات أكثر من غيرهم، بالإضافة إلى أن حالات التضحية من أجل الآخرين تتضاعف وتزداد كثيرا، فيما أكدت الجهات الرسمية، أن نسبة التجاوزات بكل أشكالها تقلّ إلى أدنى مستوياتها، حتى تكاد تنعدم الجريمة في هذا الشهر بشكل تام.
مما يعزز أهمية استثمار هذا الشهر، على المستوى الرسمي، ويستدعي اهتمام المؤسسات والمنظمات المهتمة بالبناء الاجتماعي، بل حتى الأسرة وهي المؤسسة الاجتماعية الأصغر، عليها أن تستثمر أجواء شهر رمضان وما يتيحه من فرص كبيرة أقصى استثمار، ولابد من التركيز على معاونة الفقراء بقوة.
فالصائم عليه أن يشعر بمن حوله، ولا ينبغي أن يتحول شهر رمضان كفرصة للحصول على وجبات طعام الجديدة والمختلفة، فالتجديد في الطعام ليس هو هدف الصوم، ولا ينبغي أن يكون هدف الصائم، بل زرع روح التعاون والتكافل، وتمتين العلاقات الاجتماعية إلى أقصى درجة ممكنة، هو ما ينبغي أن يتحرك عليه المعنيون في شهر الخير والطاعة والعدالة والغفران.
الصائمون عليهم أن لا ينسوا أن الصوم ليس هدفه البحث عن الطعام الألذّ عندما يحين موعد الإفطار، ولا ينبغي أن يكون الهدف تجريب الأطعمة اللذيذة، بل الهدف هو معرفة ماذا يحدث للإنسان حين يعاني من الجوع، فالفقراء يكفّون عن الطعام عندما تشح أموالهم، وهنا سوف يعيشون الجوع إجبارا وليس اختيارا، ولذلك فإن جزءاً من أهداف الصوم هو أن يصوم الصائمون، لخوض تجربة الجوع التي يعيشها الفقراء بسبب قلة أو انتفاء أموالهم.
يقول الإمام الشيرازي: (شهر رمضان يجب أن يجعل المؤمن جديداً لا بمأكله.. حيث اعتاد بعض الناس أن يأكلوا في هذا الشهر كل شيء جديد. فكل ما لم يعتادوا على أكله.. يبتاعونه في هذا الشهر ليتناولوه وكأنه ليس شهر الصيام بل شهر الطعام. وكأن الهدف ليس هو التدريب على الجوع والعطش ليتذكّر الإنسان المؤمن جوع وعطش الفقراء والمساكين ليواسيهم).
استثمار شهر رمضان لتمتين البنية الاجتماعية، هو الهدف الذي لابد أن نسعى إليه، لاسيما أننا جميعا نهدف الانتماء إلى مجتمع حي وأمة لا تموت، وهذا يتطلب تعاونا متبادلا بين الجميع، وهو ما يساعد عليه ويطوره ويضاعفه هذا الشهر الكريم، فتمتين البنية الاجتماعية هدف تحت اليد في حال استثمار شهر رمضان بصورة مثلى.
الإمام الشيرازي يؤكد على أن (المجتمع الحي هو المجتمع المبني على التعاون والتكاتف، كل فرد منه يعاضد الآخر في حوائجه، ويشاركه في أحزانه وأفراحه، فترى إذا نزلت نازلة على أحد، هب الجميع لكفاحها، وإذا احتاج فرد إلى حاجة، سعى غيره لها).
في الخلاصة تحتاج أمتنا مواكبة التطور العالمي، وهذا يتطلب بنية اجتماعية مرمّمة ورصينة، وهو ما يساعد عليه شهر رمضان الكريم بقوة، أما كيف يتم ذلك، فهذه مسؤولية جماعية فردية مؤسساتية حكومية مدنية، الجميع عليه أن يقوم بدوره في هذا المضمار.
اضف تعليق