يُقصَد بالطبقية، وجود اكثر من طبقة تختلف انماط العيش فيما بينها، تبعا لواقعها المادي والثقافي، وعندما تتعدد الطبقات في المجتمع الواحد، سوف تكون هناك طبقة عليا، وأخرى أدنى أو أقل مستوى في العيش وفرص التعليم والوعي ما شابه، وتقف وراء حدوث الطبقية في المجتمع الواحد عوامل كثيرة معظمها اقتصادية، ولكن تبقى الاسباب السياسية والاخطاء الحكومية هي الركن او السبب الاساس الذي ترتكز عليه الطبقية بصورة عامة، وقد حاول العلماء والمفكرون والفلاسفة الحد من غلواء الطبقية بين افراد ومكونات المجتمع الواحد، وكتبوا كثيرا حول امكانية صنع الامة المتساوية الحقوق والواجبات، والمتقاربة في طرق ووسائل العيش، ولاحظنا ذلك مثلا فيما كتبه افلاطون ضمن جمهوريته الفاضلة.
ولكن بقي هذا الحلم مركونا على الرف أجيالا متعاقبة، وعندما جاء الاسلام، قدم نظريته حول هذا الجانب، وحاول الحد من الفقر، والقضاء التام على الطبقية، فنجح قادة وأخفق آخرون، وتشهد المدونات التاريخية على النجاح المنقطع النظير بالقضاء على الطبقية، في حكومتيّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، والامام علي عليه السلام، وقد كان التركيز على اهمية توفير فرص العمل للجميع حتى لا يبقى هناك فردا عاطلا بين المسلمين، وعندما وزّع الامام علي عليه السلام ما موجود في بيت المال على المسلمين، ساوى بين الجميع في العطاء، في خطوة تدل على أهمية القضاء على الفجوة الطبقية بين الناس، حتى لا يكون الفقر سببا في حدوث الكثير من الامراض الاجتماعية والسياسية، وحتى لا يظن الاغنياء والمسؤولون أنهم أفضل من الآخرين.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الفضيلة الاسلامية): إن (الفقير إذا لم يحصل على عمل أو اذا تعرض لمرض أو عطب، لا بــد وأن يبقى بلا غذاء وكساء ومسكن ومصح، ومن جراء ذلك يتوزع المجتمع إلى طبقتين دانية وقاصية، ولا بد وأن ينجم عن ذلك عداء وبغضاء).
إن الاخطاء التي يرتكبها القادة السياسيون هي التي تشجع على تفاقم الظواهر الطبقية، ويحصل ذلك عندما يفشل هؤلاء في المجال الاقتصادي، ولا يستثمرون الكفاءات والخبرات الجيدة في مجال التخطيط، ويعتمدون سياسة الولاء قبل الكفاءة، في هذه الحالة سوف يفشل الاقتصاد ويكون عاجزا عن تقليص الفجوة بين الاغنياء والفقراء.
لهذا جاء في التعاليم الاسلامية امكانية الجمع بين حرية العمل والتجارة وجمع الثروة، فلا ضير في ذلك ولا مشكلة، ولكن حقيقة المشكلة تكمن في نقطتين الاولى تتمثل بالإهمال التام للفقراء، وعدم توفير سبل الحياة الحرة الكريمة لهم، والثاني اطلاق العنان للأغنياء، والسماح لهم بالعيش في حالة من الترف والاسراف على حساب الفقراء، وهذا يساعد على ترسيخ الطبقية، ويفاقم من حالة الغليان بين اوساط الفقيرة على الاغنياء، الامر الذي اوجب على هؤلاء الابتعاد عن الاسراف والترف الفائض، في حين يتضور الفقراء جوعا.
لذلك يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور اعلاه: إن (الإسلام جمع بين حرية العمل والتجارة وجمع الثروة. وحفظ الأغنياء من الإفراط في الترف والترهل).
الإسراف والترف المُغالى به
من هنا ينبغي على الدول والحكومات التنفيذية، أن تضع الخطط الاقتصادية الكفيلة بتنمية الاقتصاد، وصنع فرص العمل المناسبة للجميع، كل وفق مؤهلاته ومواهبه وقدراته الظاهرة والكامنة، وعندما تفشل الحكومة في التعامل مع الثروة وكيفية استثمارها بالصورة الصحيحة، حتى تلك الثروة التي تقع في ايدى عامة الناس الاغنياء منهم، وتسمى بالقطاع الخاص، لا ينبغي أن تتحكم بما تملك بعيدا عن خطط الدولة الاقتصادية والاستثمارية، وإلا لتحولت الى وباء يعود بالضرر على شرائح المجتمع كافة.
فالترف إذا خرج عن الحدود المقبولة والمتعارف عليها، يتحول الى عبء ثقيل يدمر اقتصاد الدولة ويتسبب بأزمات اقتصادية واجتماعية، اذا لم تتصدى الدولة لهذا الخلل الخطير، (لأن الترف والسرف يوجبان الترهل، والبطالة مفتاح الآفات) كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه.
ولعل المشكلة تكمن في سلوك الغني عندما تصبح الاموال الفائضة كثيرة وكبيرة بين يديه، ولا يمتلك الرؤية السليمة لاستثمارها بالصورة الصحيحة التي تعود عليه وعلى الاخرين بالنفع، فالنفس كما هو معروف تدفع صاحبها نحو الملذات وتحقيق الرغبات لاسيما أن فائض المال يحث على ذلك، وهكذا يكون سلوك الغني في هذه الحالة غير مسؤول، فهو لا يراعي حق الاخرين في هذا المال، فيبدأ بصرفه على الملذات واللهو واللعب وما شابه، في حين هناك من يعاني من البؤس والحرمان بسبب الفقر، فهل يصح أن يمتلك الغني مليارات يبعثر بها كيفما يشاء ليس لصالح البلاد والعباد، وانما لتحقيق رغباته وملذاته، في وقت يعزّ على ملايين الفقراء لقمة العيش، او الملبس والسكن المناسب، إن مثل هذه الفوارق الطبقية الكبيرة غير صحيحة تماما، كما أن الدولة والحكومة والسياسية المالية مسؤولة بصورة تامة عن هذا الفائض المالي للأغنياء، واهمية استثماره لصالح الدولة والشعب ومنهم الاغنياء وهم اصحاب الحق بأموالهم، ولكن يقع عليهم مسؤولية استثمار هذه الاموال بالطريقة السليمة وعدم الاسراف والتبذير لأن (المبذرين اخوان الشياطين).
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه المذكور سابقا: (إن الغني إذا رأى ثروته الطائلة لا بد وأن يطغى ويصرف فائض ماله في اللهو واللعب، والخمور والفجور وأحضان الترف وأعطاف السرف).
ضمان حقوق الطبقة الضعيفة
في الدول المتطورة، هناك ضوابط رسمية تحاول أن توازن بين الدخل السنوي للأغنياء والفقراء، عبر اجراءات كثيرة تكفل نقل نسبة من اموال الاغنياء الى خزينة الدولة، ومن ثم استثمارها لصالح الطبقات الاخرى من الشعب، ولكن في الحقيقة هناك مشكلات اقتصادية كثيرة ترافق ذلك، ويبقى الاجراء الأهم في هذا المجال هو تحقيق الضمان الاجتماعي للطبقة الفقيرة، وهذا بالضبط ما سعى اليه الاسلام قبل مئات السنين، أي قبل أن تسعى الدول المتقدمة الان الى مثل هذا المنهج الذي يضمن نوعا من المساواة بين طبقات المجتمع وشرائحه.
في المجتمعات والدول المتأخرة بسبب سوء التخطيط، لا يتم تحقيق مثل هذا الضمان، فيكثر الفقراء ويسود الفقر، ويكثر الجهل والمرضى، وتستفحل ظاهرة اللامساواة، وتزداد الفجوة الطبقية بين الاغنياء والفقراء، لذلك جعل الاسلام حقا للفقراء في اموال الاغنياء وتم تنظيم ذلك بصورة واضحة ودقيقة، وهو ما ساعد على نحو واضح في التخفيف من العبء الذي يقع على كاهل الفقراء، والتقليص من الطبقية التي تضرب بإسفينها في قاع المجتمع.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع بشكل صريح وواضح: (أوجب الله تعالى للفقراء والمساكين والمصالح العامة حقوقاً، في أموال الأغنياء تتكافأ وحوائجهم، فلا يبقى، في المجتمع فقير ولا مصلحة معطلة). لهذا السبب ركّزت التعاليم الاسلامية عبر النصوص القرآنية المباركة، والاحاديث والروايات الشريفة، على قضية في غاية الاهمية، وهي التي تضمن بصورة فاعلة تقليص الطبقية والقضاء على الفجوة الفاصلة بين الاغنياء والفقراء، او على الاقل الحد من توسعها، ويمكن تحقيق هذا الهدف بالتركيز على اهمية بل وحتمية تنفيذ هذه القضية الجوهرية، وهي تتلخص بوضوح بوجوب تحقيق (الضمان الاجتماعي) وكفالة حق الانسان، في الطعام والشراب والمأكل والسكن والتطبيب، مع توفير فرصة العمل المناسبة له، وبذلك تكون الطبقية محدودة الوجود والتأثير في المجتمع.
ولهذا السبب بالضبط أوجب الله تعالى: (ضمان الطبقة الضعيفة، فقيراً كان، أم مريضاً، أم عاجزاً) كما اكد ذلك الامام الشيرازي في كتابه نفسه.
اضف تعليق