لا توجد حياة بلا فرص، أما الوقت فهو عمر الإنسان، محسوب عليه لحظة بلحظة، وهذه الثنائية (الفرص، الوقت)، تتوقف عليها فلسفة التأخر والتقدم، والأمر يعود للإنسان (الفرد، الجماعة، المجتمع)، يمكن أن يستثمرها للتقدم أو نقيضه، وهذا يعتمد ببساطة على مدى تمسك الإنسان بالفرص بأنواعها واحترامه المحسوب والمدروس للوقت...
(إنَّ البحار تتجمع من القطرات، والساعات تتجمع من الثواني) الإمام الشيرازي
يتسم بعض الناس بميزة استثمار أية فرصة تلوح له حتى لو كانت بعيدة، ويتعامل بنفس الأسلوب مع الفرص المتاحة التي تعترض طريقه، هذا النوع من البشر لا يفوّت فرصة سواء كانت بعيدة أو قريبة، ويتعامل معها وكأنها شيء نادر لا يجوز التفريط به، على عكس أناس آخرين تعبث بهم اللامبالاة وتحطم حياتهم.
الحياة كما يصفها الناجحون عبارة عن سلسلة من الفرص، بعضها بعيد، أو صعب، أو عصيّ على الاستثمار، ولكن في جميع الأحوال، يتّسم الإنسان الناجح بميزة استثمار الفرص الكبيرة، وهذا لا يعني أن الفرص الصغيرة لا تعنيه، بل يتشبث بها بكل ما يمتلك من أساليب وأدوات وإصرار مفهم لماهيّة الفرصة، فلا يتركها تفرّ من بين يديه، ولا يدعها تمرُّ من فوق رأسه كالسحاب!!
ترك الفرص تذهب سدى يكاد يكون السبب الأول في فشل الناس بتحقيق أهدافهم، وهناك من ينظر بتعالٍ للفرص الصغيرة، ويبقى بانتظار الفرصة الكبيرة التي قد لا تأتي مدى حياته، في حين أنه يترك الفرص الصغيرة التي فيما لو جمعها، فإنها بالتراكم يمكن أن تفوق الفرصة الكبيرة التي يبقى بانتظارها دون جدوى.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم (كل فرد حركة وفلسفة التأخّر):
(من الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها الإنسان عدم الاستفادة من الفرص التي تتاح له وإن كانت قليلة، ومن الخطأ عدم الاستفادة من كل قطرة ولو كانت مثقال ذرة، على تعبير القرآن الحكيم).
من الأهمية بمكان أن يحتاط الإنسان من عادة هدر الفرص، بل عليه أن يعتاد على قنصها واستثمارها حتى لو كانت ضئيلة أو صغيرة، فيمكن ادّخار الفرص الصغيرة مع بعضها، لأن تراكمها يمكن أن يحولها إلى (فرصة العمر)، لاسيما أن الأهداف الكبيرة تستدعي عدم تضييع أية فرصة تلوح في الأفق.
المقاصد أو الأهداف لا يمكن تحقيقها دونما تخطيط، وتحسّب وإصرار على التعامل مع الفرص بأقصى الاهتمام، وأعلى الهمم، كما أن الذي يروم بلوغ القمة، عليه أن يعبأ بأدق التفاصيل، حتى الصغيرة منها، ويتّخذها درسا له، لدرجة أن النظرة الخاطفة التي تصدر منه، يجب أن تضيع هدراً منه.
هذا ما أكّده الإمام الشيرازي حين قال: (إنّ الأهداف العالية، والمقاصد الرفيعة، تحتاج إلى جمع كل تلك الفرص والذرات. فقد ورد أنّه: ينبغي على الإنسان العبرة من كل نظرة).
يرتبط عدم تضييع الفرص مع قطب آخر، له أهميته التي تكاد تعادل مكانة الفرص، ونقصد به عدم هدر الوقت، فالأخير محسوب على الإنسان، وحين يمر فسوف يُحسَب من عمره، وهدر العمر دونما استثمار للفرص، هو الفشل بعينه.
قيمة الوقت في المواعظ العددية
يدخلُ هذا التحسّب في أدق الأمور، فليس هنالك مجال لفقدان الوقت دون عمل ناجح، وليس هنالك مجال لمجافاة الفرص وتركها تضيع واحدة تلو الأخرى، الأسلوب الصحيح في حياة الإنسان، هو الحرص على الفرص والوقت معا، كما نلاحظ ذلك في كتاب (المواعظ العددية).
إذ نقرأ (بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى عمّاله: أدقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإيّاكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحمل الإضرار)، كما أورد الإمام الشيرازي في كتابه المذكور.
في القول أعلاه نلاحظ تعاملا دقيقا للإمام علي عليه السلام مع الولاة والعمال، لاسيما أن طبيعة مهامهم القيادية لا تسمح بهدر ثنائية (الفرص/ الوقت)، وهذا درس ينبغي أن يتعلمه الناس في عصرنا، فكلما كبر موقع الإنسان الوظيفي أو القيادي، يجب أن يكون حريصا في التعامل مع الفرص ولا يسمح لها بالمرور دونما تحقيق الفائدة المرجوّة منها.
ليس صحيحا النظر للفرص الصغيرة باستخفاف، ومن الخطأ أن يترفعّ الإنسان عن أية فرصة تلوح له أو تلقي بنفسها بين يديه، وكما تتكون الساعات من الثواني الخاطفة، وتتكون البحار من القطرات الصغيرة، فإن الفرص الكبيرة تنشأ من محصلة الفرص العابرة التي لا يضحي بها الإنسان، كذلك من الخطأ التعامل مع الوقت وكأنه شيء فائض عن الحاجة.
لا توجد حياة بلا فرص
الإسراف في هدر الفرص، والإسراف في هدر الوقت، وجهان لعملة واحدة، أحدهما يؤثر في الآخر، ويسهم بطريقة أو أخرى في تحطيم حياة الإنسان، صعوداً إلى الجماعة، بل وحتى الدولة يمكن أن تكون ضحية لهذا النوع من الإسراف، فالقائد الذي لا يحرص على تطوير دولته وشعبه، ولا تعنيه الفرص المتاحة لتحقيق هذا الهدف، لا يستحق أن تُطلَق عليه كلمة قائد.
وكذا الأمر مع جميع القادة من أعلى الهرم الإداري إلى أدناه، هؤلاء عليهم استثمار الفرص بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كما أنهم مطالَبون بعدم هدر الوقت، كما أوصى الإمام علي عليه السلام ولاته بهذا الشأن، والأمر ذاته يتعلق بقادة الدوائر والمؤسسات والمدارس وكل المرافق الإدارية للدولة.
حتى قائد العائلة أو وليّ أمرها، تقع عليه ذات المسؤولية، في قيادة وإدارة شؤون أسرته، وعليه الالتزام بما يقوم به القائد أو المدير الناجح، فلا يسمح بالفرص بالضياع، والتسرب من أمام عينيه دون أن يحرّك ساكنا، وأخطر ما في هذا السلوك حين ينتقل إلى من هم أدنى في المسؤولية والمركز والتجربة.
ومتى ما وعى القادة والمدراء وأرباب الأسر وغيرهم، بأن مياه البحر عبارة عن تجمع لقطرات من المياه، قد يكون مصدرها الأمطار أو ذوبان الثلوج، أو سواها، فإنها في جميع الحالات تنتهي إلى تكوين بحر واسع عميق لا نهائي في حدوده، وكما تتراكم سنوات عمر الإنسان من الثواني والساعات، فإن الفرص الضئيلة يمكنها أن تصنع الفرص العظيمة.
من المعيب أن يكون القائد أو المدير أو رب العائلة مسرفاً في الوقت، أو الفرص، فمثل هذا النقص يدخل في إطار التخلف والجهل، وبالتالي هو جزء من فلسفة التأخر التي تكبل الشعوب والدول، وتبقي عليها تراوح في مكانها، أو تعيدها القهقرى، فيما الآخرون يتقدمون إلى الأمام بسبب حرصهم على الوقت والفرص معاً.
يقول الإمام الشيرازي: (إن البحار تتجمع من القطرات، والساعات تتجمع من الثواني، فكل إسراف في قطرة أو ثانية دليل على التخلف ويدخل في إطار فلسفة التأخر).
هذه الملاحظات التي تبدو بسيطة لمن يسمع بها، أو يطلّع عليها، يمكن أن تكون فلسفة ذات مسارين، أحدهما يدفع بالإنسان (فردا، أو جماعة، أو أمة)، نحو الارتقاء والتقدم، بسبب احترام الفرص، صغيرها وكبيرها، واستثمارها دونما تلكّؤ وتأخّر، والآخر يكبل الإنسان بأغلال الهدر والإسراف في الوقت وتضييع الفرص وعدم احترامها.
انتهاز الفرص على مستوى الأفراد ركن مهم من أركان نجاح الإنسان، واحترام الوقت عامل متمّم له، لذا علينا أن نتعامل بحرص كبير وتام مع الفرص الصغيرة، أما الكبيرة منها أو الأكبر، فهذه تتطلب حرصا وإرادة لا تتزحزح قيد أنملة لانتهاز الفرص كبيرها وصغيرها.
الإمام الشيرازي يؤكد حول هذه النقطة قائلا:
(إذا كان الأمر كذلك في التعامل مع الفرص الصغيرة، فكيف بالكبيرة والأكبر من الكبيرة؟؟. قال أمير المؤمنين عليه السلام: انتهزوا الفرص فإنها تمر مرّ السحاب، وكلامه عليه السلام يشمل الفرص المادية والمعنوية).
خلاصة القول، لا توجد حياة بلا فرص، أما الوقت فهو عمر الإنسان، محسوب عليه لحظة بلحظة، وهذه الثنائية (الفرص، الوقت)، تتوقف عليها فلسفة التأخر والتقدم، والأمر يعود للإنسان (الفرد، الجماعة، المجتمع)، يمكن أن يستثمرها للتقدم أو نقيضه، وهذا يعتمد ببساطة على مدى تمسك الإنسان بالفرص بأنواعها واحترامه المحسوب والمدروس للوقت.
اضف تعليق