ليس بجديد أن نَسِم عالم اليوم بالتكالب على المادية من أوسع أبوابها، فكل ما يقع أمام العين، ويُسمع بالأذن، أو يُلمس باليد، هي دلائل تكفي لإثبات الصفة المادية لعالم اليوم، مما تسبب في حالة من تبادل الأدوار بين طرفين هما إنسانية الإنسان وقيمته وحرمته من جهة، واستعباد المادة لبني البشر من جهة ثانية...
في العالم المادي (ليس بمهم أن يفقد الإنسان شرفه وعائلته وروابطه، بل المهم حصوله على المادة) الإمام الشيرازي
ليس بجديد أن نَسِم عالم اليوم بالتكالب على المادية من أوسع أبوابها، فكل ما يقع أمام العين، ويُسمع بالأذن، أو يُلمس باليد، هي دلائل تكفي لإثبات الصفة المادية لعالم اليوم، مما تسبب في حالة من تبادل الأدوار بين طرفين هما إنسانية الإنسان وقيمته وحرمته من جهة، واستعباد المادة لبني البشر من جهة ثانية.
لا أحد يعترض على العمل عندما يأتي في إطار احترام قيمة الإنسان وكرامته، ولن يحتج أحد إذا جاء البحث عن المادة والمال في إطار المشروعية المتَّفق عليها، لكن ما يحدث بخصوص استعباد المادة للإنسان، جعل كثيرا من العلماء والمفكرين والفلاسفة، يؤشّرون ظاهرة خطيرة لا يمكن السكوت عنها، إنها باختصار تحوّل الإنسان إلى عبد، وتحوّل المادة إلى سلطة طاغية.
هذا الواقع الأعوج المشوه وتبادل الأدوار بين الخادم والمخدوم، تسبب في نشر حالة عميقة من الاحتقان والقلق، باتت تغلّف العالم بأسره، مما جعل البشرية كلها، تعيش في بوتقة واحدة تعاني فيها من تداعيات اللهاث المادي المحموم، لدرجة أن الإنسان تحوّل إلى عبد للمادة بحثا عن المال، ولا مشكلة في فقدانه لصحته، أو حتى موته!، لأن الهدف الأول مادي بحت، وما عداه لا قيمة له.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي، (رحمه الله)، أشَّر هذه الظاهرة العالمية الخطيرة، وحذّر منها بقوة، إذ جاء في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):
في عالم اليوم المادي (أصبح الخادم مخدوماً، والسيد عبداً، مما تسبب في أن يعمل الكل حتى على حساب صحتهم وراحتهم، ومستقبلهم وعائلاتهم وأولادهم من أجل المادة، فالمهم أن يكون للإنسان مال أكثر، أما أن يفقد صحته بسبب البحث عن المال ـ بل وأحياناً يفقد بعض أعضاء جسده وأحياناً عمره ـ فليس هذا بالأمر المهم، وإنما المهم أن يحصل الرأسماليون على أكبر قدر ممكن من المادة).
تداعيات الاندفاع العالمي نحو المادية، بقيادة الرأسمالية العالمية، بدت واضحة العيان على البشرية كلّها، حتى داخل المجتمع الرأسمالي نفسه، فقد سُحِق الفقراء لاسيما الطبقة العاملة، وهُمِّشتْ بل دُمّرت المرأة عبر الاتجار بمفاتن جسدها، لتتحول كغيرها إلى سلعة مادية تُباع وتُشترى، بعيدا عن قيمة الإنسان أو حرمته.
وتم استعباد الناس في خطط مبرمجة، تحت وطأة الحاجة، بالإضافة إلى نشر الأنماط الاستهلاكية ذات الطابع المادي، لتصبح ثقافة تتغلغل في المجتمعات الغربية، ومنها تتسلل إلى المجتمعات الأخرى بفعل العولمة ووسائل الاتصال المتسارعة في التطور خدمة للمنهج المادي الرأسمالي.
عالمنا المضطرب إلى أين؟؟
وهكذا أصبح العالم يغص بالأزمات، وبات الإنسان في حالة من القلق والاضطراب غير مسبوقة، فضلا عن انتشار المجاعات والحروب والانتهاكات، والمآسي التي وصمت جبين الإنسانية العار، حيث المرض والجهل والجوع، يجتاح ملايين الأطفال وكبار السن، في موجات سنوية من المجاعات التي تفتك بالفقراء، دون أن يحرّك تجار الاحتكارات وأرباب الشركات العالمية المادية ساكنا.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه الظاهرة:
(في عالم اليوم يعيش الإنسان في أكبر أزمة، وفي شدة، وقلق، ومرض، وحروب، وثورات، وفقر، واضطرابات لم يعرف مثلها العالم في أيٍّ من الأزمنة السابقة، ولا يحدثنا التاريخ عن مثل هذه المآسي التي أصابت الإنسان في عصرنا الحالي).
بعضهم يبرر هذا الانتقال المتنامي نحو المادية، بتغيّر الزمن، وتطور التكنولوجيا والصناعات، والتقدم الإلكتروني الهائل، كل هذا ساعد على تجريد الإنسان من مشاعره الإنسانية، وجعله ينصاع لهذه الموجة المادية المستأسدة، وهو ما ساعد على تسريع تغيير الاهتمام وتحويله من كون الإنسان هو المحور الذي تدور حوله المادة لتخدمهُ، إلى خادم لها ومستعبَد من قبلها خدمة للرأسمالية والاحتكار.
فيما سبق من أزمنة غابرة، كان الإنسان يقف في قمة اهتمام المبتكرين والابتكارات، وكان عصر الأنبياء (عليهم السلام) قد جعل من الإنسان هو الجوهر الأهم، وقيمته هي الأعلى، وحرمته هي الهدف الأسمى، أما العمل وكل ما يتعلق بالإنتاج ووسائله، فهي جميعا كانت في خدمة الإنسان وليس العكس، كما يحدث في عالم اليوم.
قيمة الإنسان وحرّيته وكرامته، والمحافظة على كيانه الاعتباري، يتصدّر جميع الأهداف، وليس مسموحا انتهاك هذه القواعد الأخلاقية القيَميّة الثابتة، فكل تعامل وكل نشاط وكل إنتاج، كان يصب أولا وأخيرا في صالح الناس، والمحافظة على كرامتهم، هذا هو واقع الأمس الذي صنعه الأنبياء وحافظوا عليه.
على عكس عالم اليوم الذي يغصّ بالجهل والمرض والظلم، وغياب العدالة على المستوى العالمي، لاسيما في قضية احتكار الثروات العالمية، ونسف القيم والمبادئ التي كانت تسعى لحماية الإنسان من الاستعباد المادي، من خلال تسخير جميع التعاملات لتصبح في خدمة الناس وليس العكس كما هو حاصل في عالم اليوم، لذلك كانت آلام الناس ليس كما هي اليوم، وكان الفقر أقل والمرض كذلك.
حدث هذا التفوق الإنساني على المادي، عندما كانت قيمة الإنسان هي الهمّ الأول للسلطة السياسية والاقتصادية وغيرهما، ولكن حين صار جمع المال وكنزه واحتكاره، هدفاً للجميع، كبار الشركات وصغارها، كبار التجار وصغارهم، كبار الدول وصغارها، بات الواقع الإنساني مهددا بالغول المادي المتمدّد.
متى كان الإنسان محور الاهتمام؟
يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
(لما كان الإنسان المحور كما في تعاليم الأنبياء (عليهم السلام)، كان هو كل شيء، لدرجة أن كل شيء يُفدى من أجله، وكانت جميع التعاملات والأنشطة والعلاقات تعبأ بقيمة الإنسان الذاتية أولا، (لا قيمته باعتبار تحوله إلى المادة)، وكان هذا الاحترام لقيمة الإنسان يخفف من فقره ومرضه وآلامه يوماً بعد يوم).
هل تلوح في الأفق محاولات جادة لإعادة النظر في الأنظمة التي تسعى لتدمير الإنسان لصالح الآلة والمادة؟، لا نريد أنم نغرق في السوداوية، ولكن واقع الحال العالمي الاقتصادي والسياسي، يقول لا مبادرات من هذا النوع، ولا توجّه نحو فض الاحتقان والقلق العالمي، بل العكس هو الصحيح، مما يدل على أن نخب العالم وقادته، يوغلون أكثر فيما حذّر منه الإمام الشيرازي حين يقول:
(أما اليوم فالإنسان يُفدى من أجل المادة، فبينما في تعاليم السماء تُخفَّف آلام الإنسان يوماً بعد يوم تبعاً لإعطائه حاجياته ـ لأن كل شيء في خدمته ـ نرى في المجتمع المادي ازدياد آلام الإنسان، لأن الحاجات تُعطى لكسب المزيد من المادة، وليس من أجل الإنسان).
ويضيف الإمام الشيرازي: (ليس المهم في عالم اليوم، أن يكون أكثرية سكان الأرض جائعين، كما ليس المهم أن يموت في كل عام خمسون مليوناً من البشر لفقدهم الغذاء والدواء والعناية، وليس بمهم أن يُقتل ملايين الناس بالوسائل الحديثة، المهم هو الكسب المادي لا غير).
هل يستوعب قادة العالم الكبار الدرس، قبل أن يقع الفأس في الرأس؟؟، ربما هو أمر مستبعَد، ولكن عليهم أن يعوا بأنّ البشرية تسير بأَقدامها نحو حتفها، وأن حالة الاضطراب العالمي، والغبن، والأمراض، والأوبئة، والجائحات، وليس آخرها كوفيد 19 وسلالته الجديدة، فضلا عن الصراعات والحروب التي تجتاح العالم، ما هي إلا النُذُر التي تسبق العاصفة.. فهل من مستجيب؟؟
اضف تعليق