إن المشكلة تكمن في ذلك التغيير قبل تسلّم السلطة وبعدها، فقبلها هم متواضعون، يتشاورون مع الجميع بلا ترفّع، لكنهم ما أن يعتلوا مناصبهم، ويصلوا إلى دفة الحكم، حتى تغيب عنهم سمة التواضع، فلا يستشيرون، بل يستبدون، وكذلك يعجزون عن الاعتراف بالخطأ، وفي هذا يكمن فشلهم وربما مقتلهم...
(الشورى والاعتراف بالخطأ، يزيدان السياسي قدرةً) الإمام الشيرازي
كثيرا ما سمعنا وقرأنا عن قيمة التواضع، ومساهمتها الفعالة في فتح طريق النجاح أمام من يتمسك بها، والتواضع صفة محمودة تدل على طهارة النفس، وتدعو إلى المودَّة والمحبة والمساواة بين الناس، وزيادة الترابط فيما بينهم، ويمحو الحسد والبغضاء والكراهية من قلوب الناس، ليجعل منهم نسيجا اجتماعيا متراحماً.
كذلك يعدّ التواضع صفة من صفات المؤمنين والمؤمنات، وقد حَثّ رسول الله (ص)، على الالتزام بها، وحَضّ المؤمنين على الابتعاد عن التكبر، الذي ينتهي بصاحبه إلى الدَّرْك الأسفل من النار، لأنّ التواضع في غير مَذلّة ولا مَهانة خُلُق يليق بالإنسان، أمّا الكبر فهو ليس من الإنسانية بشيء.
القدرة هي مدى نجاح الإنسان المسؤول، في أداء المهام الموكلة إليه بصورة مقتدرة وناجحة، بمعنى هو قادر على إنجاز ما موكل إليه من مسؤوليات، في إطار مؤهلاته وقدراته المادية والمعرفية والأخلاقية.
كل إنسان يجمع بين التواضع والقدرة، فهو ناجح ومقتدر، وحين نتكلم عن السياسي، أو الحاكم وما مدى حاجته للتواضع، فإن أكثر من يحتاج إلى التواضع هو السياسي، لأنه يحتاج القدرة كي يُنجز مهامه وأهدافه، وهذا لن يتحقق من دون قدرة، والأخيرة لن تتوفر عند السياسي والإنسان عموما إلا بالتواضع.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد في كتابه القيّم (شروط نجاح الجماعات)، على: (أن القدرة والتواضع متلازمان، والسياسي القدير هو الذي يفهم بأن الأراضي المرتفعة محرومة من مياه الأنهار، لذلك فالمتواضع هو مصبّ القدرات).
ولو أردنا أن نبحث عن الأسباب التي تؤدي إلى سقوط الحكومات، فإننا سوف نصل إلى استنتاج حاسم مؤدّاه، أن السبب الأخطر الذي يقود الحاكم للسقوط من علياء عرشه إلى الحضيض، هو افتقاره لقيمة التواضع، وتمسكه بالنقيض، أي بالكِبَر، مما يسرّع بسقوطه من دون أن يشعر بهذا الخطر المحدق به.
ولعل التاريخ تمتلئ صفحاته بالشواهد القاطعة على مثل هذا الاستنتاج، بل هناك حكّام في عصرنا الراهن، قادهم تعاليهم وغرورهم إلى سقوط عنيف، في وقت كانوا يتوقعون هم ومؤيدوهم بأن أبدية السلطة رهن بنانهم، وأنهم بالتكبر على شعوبهم إنما يصنعون الهيبة التي تبعد عن عروشهم شبح السقوط.
لكن العكس هو الذي يحدث دائما، والغريب أن الحكام الجدد لا يعتبرون ويستفيدون مما حدث لمن سبقهم، فيصرّون بغباء عجيب على منهج الاستعلاء المميت، ينسحب هذا على الساسة بشكل عام، حين ينسون أنفسهم وسط بريق السلطة والجاه والمال، ولا تُستثنى الحركات والأحزاب السياسية من قانون التواضع والقدرة.
كيف تنجح الأحزاب السياسية؟
فإذا التزمت الأحزاب وآمنت بتلازم التواضع والقدرة، فإنها سوف تنجح أيما نجاح، وتُحاط بالجماهير المؤيدة والداعمة لها، في حين تتدحرج الحكومات والحكام المستبدين المتكبّرين من قمم عروشهم، إلى الدرك الأسفل، والسبب هو غياب التواضع وحضور التعالي، وحرمانهم من القدرة بسبب غرورهم وتكبرهم.
يقول الإمام الشيرازي: (لأن البحر ذو تواضع فهو يجمع مياه الأمطار المتعالية، أما الربى فيسيل عنها الماء حتى لا يبقى فيها منه قطرة، والحركات – الأحزاب السياسية- إنما تنجح بتجميعها قطرات القدرة، حيث تتواضع للقدرات، بينما الحكومات إنما تفشل لاستعلائها، فتنحدر عنها القطرات إلى أن لا تبقى فيها قطرة واحدة... فتسقط).
هكذا ينكشف سر سقوط الحكومات للجميع، فالساسة بمختلف مستوياتهم ومسؤولياتهم ومناصبهم، باتوا يعرفون أن مقتلهم يكمن بعدم تواضعهم، ومما لوحظ أن الساسة يتميزون بالتواضع قبل وصولهم للسلطة، بل ويتمسكون بهذه القيمة العظيمة، فيرتقون بها، على نحو مستمر، حتى وصولهم إلى السلطة (وهذه غاية كل سياسي).
لكن المأزق أو المشكلة التي ستواجه الحاكم أو السياسي، هي عدم قدرته على استمرارية تمسكه بمن أوصله للسلطة، ونعني بذلك التواضع، فينقلب على هذه القيمة، ويتحوّل إلى نقيضها، فتتضخم ذاته وتُصاب بالكِبَر، فيتنكّر للناس، ويتعالى عليهم، بعد أن كان واحدا منهم، متواضعا لهم، متعاونا معهم، متمسكا بهم، لكنه بعد وصوله إلى السلطة فشل في اختبار التمسك بالتواضع، مما قاده إلى فقدان القدرة، وبذلك أصبح طريق السقوط ممهَّدا له.
وغالبا ما تسقط الحكومات وهي تمتلك مقومات القوة، من جيوش وتسليح وما إلى ذلك، في حين أنها بسبب غرور حكامها وساستها واستبدادهم، تأخذ بالتدحرج من القمة إلى الأسفل، لتحل محلها حكومة جديدة قد تقارب قوتها وقدرتها درجة الصفر، ومع ذلك تزيحها عن العرش بسبب تكبّرها وطغيانها.
يقول الإمام الشيرازي:
(إذا أراد الإنسان أن يعرف سر سقوط حكومة مع قدراتها الكثيرة، وبدء حكومة جديدة مع أنها لا قدرة لها إطلاقاً عند نقطة الشروع، فلينظر إلى مجنون الغرور والتواضع، فقبل الوصول إلى الحكم تواضعَ وأخذ في الصعود، ولما وصل إلى الحكم أخذه الغرور فأخذ في الهبوط، وهكذا حتى يسقط ويأخذ غيره مكانه).
التشاور هل يحمي الحكام من السقوط؟
أما كيف يتواضع السياسي أو الإنسان أمام الناس، هناك أساليب معروفة وواضحة، تجعل منه أقرب إلى الناس، فيحترمونه ويحبونه ويدعمونه، ومن أهم سبل وأشكال التواضع، هو احترام آراء الآخرين، من خلال استشارتهم فيما ينوي السياسي عمله، فالاسترشاد بآراء الآخرين يُشعرهم بالاحترام، والمشاركة والاهتمام، فتزداد ثقتهم بأنفسهم، ويشعرون بقيمتهم ووجودهم.
أما السياسي أو الحاكم، فإنه بمثل هذا السلوك يكسب قلوب الناس، بالإضافة إلى أنه يكتسب الكثير من الأفكار السديدة التي تتشكل من خلال استشارته للآخرين، بمعنى أنه يشاركهم في عقولهم، فتكون الثمار ناضجة، والأفكار متميزة، فضلا عن أنه يثبت لهم بأنه سياسي متواضع يهتم بمشورة الآخرين.
وقد ورد في قول للإمام علي عليه السلام أنه قال: (من استشار الناس شاركهم عقولهم)، فيزيدهم ذلك ثقة به وقربا منه، فيحصد أفكارهم وآراءهم الجيدة، ويفوز بتأييدهم في نفس الوقت، وهذه أمنية كل سياسي في العالم أجمع، فما يهم الساسة، تأييد الناس ودعمهم، وتمسكهم بهم، وهذا يمكن أن يتحقق للحاكم والسياسي، حين يتواضع ويتشاور مع الناس من دون تعالٍ أو غرور.
يقول الإمام الشيرازي: (من طُرُق التواضع أن يحترم الإنسان آراء الآخرين ويستشيرهم، فقد ورد في الحديث: أعقل الناس من جمع عقل الناس إلى عقله).
وهناك سمة مهمة وكبيرة يجب أن لا يخسرها أو يتجنَّبها الحكام والساسة، كي لا يسقطوا من قممهم، وهي القدرة على الاعتراف بالخطأ، وعدم التمسك به، إذ يوجد حكام يخجلون من الاعتراف بأخطائهم، وكأنهم غير مشمولين بالوقوع في الخطأ، وهو أمر يخص المعصومين عليهم السلام وحدهم.
أما البشر العادي، فسواءً كان حاكما أو سياسيا ذا منصب كبير أو حساس، فإنه معرَّض للخطأ، وإن أراد أن يكون ناجحا، مؤيَّدا من الجماهير، فما عليه سوى أن يمتلك القدرة على الاعتراف بالخطأ، والشروع في تصحيحه، فهذا هو سبيله للتفوق والارتقاء والبقاء في القمة دائما.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(إذا فكر السياسي القدير أنه إنسان، وكل إنسان ـ باستثناء المعصوم عليه السلام ـ معرض للخطأ، لا يمتنع أن يتحرى الرأي الأصوب في أموره، كما أنه لا يمتنع من الاعتراف بالخطأ إذا ظهر له ذلك)
وفي عودة إلى السؤال عن أسباب سقوط الحكام وحكوماتهم، فإن المشكلة تكمن في ذلك التغيير قبل تسلّم السلطة وبعدها، فقبلها هم متواضعون، يتشاورون مع الجميع بلا ترفّع، لكنهم ما أن يعتلوا مناصبهم، ويصلوا إلى دفة الحكم، حتى تغيب عنهم سمة التواضع، فلا يستشيرون، بل يستبدون، وكذلك يعجزون عن الاعتراف بالخطأ، وفي هذا يكمن فشلهم وربما مقتلهم.
اضف تعليق